ننطلق في هذا التحليل من كلمة للنائب عن التيار الديمقراطي نبيل الحاجي في جلسة مساءلة رئيس الحكومة المستقيلة إلياس الفخفاخ فيما يعرف بقضية تضارب المصالح، هي الكلمة الأكثر تعبيرا عن الموقف المحرج الذي عاشه التيار والذي يُعتبر الأصعب منذ تأسيسه. قال حينها الحاجي مخاطبا الفخفاخ
ربي يهديك على المأزق الي دخلتنا فيه، انت من نفس عائلتنا وأهدرت رأسمالنا وهو مكافحة الفساد.
يمكن أن تكون هذه العبارات اليائسة مجرد ردة فعل عاطفية من النائب المذكور على ما أحدثته قضية تضارب المصالح والتي أودت بحكومة كان للتيار الديمقراطي فيها نفوذ كبير، لكنها في الحقيقة تعبر عن معضلة حقيقية تواجه هذا الحزب بمجرد عودته إلى المعارضة وهي استرجاع المصداقية: أية مصداقية للحزب في رفع لواء مكافحة الفساد مجددا وقد كان بالأمس القريب جزءا فاعلا في حكومة سقطت بسبب ملف فساد بغض النظر عن تفاصيل وحيثيات هذا الملف؟ موقف معقد وُضِع فيه التيار ويحتاج مجهودا كبيرا للخروج منه واستعادة صورته القديمة، برغم كل الصعوبات المحيطة به.
يبدو أن التيار الديمقراطي يمر بأسوأ فتراته منذ تأسيسه في 2013، فالوضع غير مستقر وملامح فترة ما بعد حكومة الفخفاخ لم تتضح بعد، بل إن الأوضاع زادت سوء باستقالة مؤسسه وأمينه العام محمد عبو الأربعاء 2 سبتمبر من هياكل الحزب في خطوة غير متوقعة فاجأت الجميع بمن في ذلك أبناء التيار. محمد عبو الذي قاد حملة الحزب الرئاسية والتشريعية تمكن بمقتضاها التيار من الحصول على كتلة نيابية محترمة وضعته في قلب المعادلة السياسية والبرلمانية. محمد عبو الذي يُعتبر من عناصر التجميع في التيار الديمقراطي يترك الحزب في وضع حرج خاصة بعد أن تفرغ هو ونائبه محمد الحامدي وسلفه غازي الشواشي للعمل الحكومي في الفترة السابقة. وبعيدا عن الأسباب التي دفعت محمد عبو للانسحاب، سيجد التيار صعوبة في تجاوز خيبة المشاركة في الحكومة واستقالتها خاصة، في مسألة إعادة الاعتبار لصورته التي اهترأت بهذه المشاركة واستعادة ثقة أنصاره وناخبيه فيما تبقى من هذه المدة النيابية، ومن المنتظر أن يزيد غياب محمد عبو من تعقيدات هذه المهمة.
عندما يضع التيار كل بيضه في سلّة الفخفاخ
منذ مشاورات تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ، اتخذ التيار الديمقراطي موقفا مساندا لهذا الأخير دون شروط مسبقة. تخلى عن الشروط الذي وضعها سابقا عند تشكيل حكومة الحبيب الجملي وهي وزارات العدل والداخلية والإصلاح الإداري، بدى من خلال هذا التنازل وكأنه يقول “أنا أثق في الفخفاخ ولا أثق في النهضة”. منذ ذلك التكليف، تموقع التيار في صف إلياس الفخفاخ دون أي تحفظ ورشح قيادات الصف الأول لديه (محمد عبو وغازي الشواشي ومحمد الحامدي) لتقلد حقائب وزارية مهمة. وأقرض شعاره (دولة قوية وعادلة) إلى الفخفاخ ليفتتح به عهدته على رأس الحكومة عندما رفع هذا الشعار في خطابه بمناسبة نيل حكومته ثقة مجلس نواب الشعب. كما اتخذ موقف الدفاع المستميت عن الحكومة في كل القضايا المثيرة التي جدت خاصة على خلفية أزمة كورونا. باختصار، وضع التيار بيضه كله في سلة واحدة وحين سقطت هذه السلة وجد التيار نفسه خالي الوفاض ويستعد لمغادرة الحكومة بعد أشهر قليلة من تكوينها بسبب ملف تضارب مصالح وشبهة الفساد. تسارعت الأحداث بشكل كبير لتتحول في النهاية إلى سيناريو مرعب لم يتوقعه أكثر الناس تشاؤما في التيار.
خسارة على جبهتين
بهذه التجربة القصيرة، خسر التيار، بالإضافة إلى الاستقالة الأخيرة لقيادته المؤسسة محمد عبو، على جبهتين مهمتين تعتبران من العوامل المهمة التي ساعدته على تحقيق نتائج مقبولة في الانتخابات التشريعية الماضية: النظافة ومناهضة حزب حركة النهضة. لقد خسر التيار رمزية الحزب النظيف الذي يكافح الفساد وفقد أبرز نقاط قوته التي أقام عليها برنامجه الانتخابي وبنى عليها صورة الحزب طيلة السنوات التي أعقبت تأسيسه. فكيف سيتقبّل الرأي العام نفس خطاب التيار في السنوات الماضية وهو الذي لم يكن شرسا كعادته في التعامل مع قضية تضارب المصالح التي واجهها الفخفاخ؟ وحتى وإن كان الفخفاخ بريئا مما يثار ضده والأمر لا يعدو كونه حملة منظمة من قبل خصومه في الحكومة وخارجها، لماذا لم ينتظر التيار نتائج التحقيقات وتقارير الرقابة قبل أن يلعب دور لسان الدفاع عن إلياس الفخفاخ.
من جهة أخرى، أفقدت هذه التجربة التيار الديمقراطي جزء من ناخبيه المناهضين للنهضة والذين انتخبوه نتيجة لخطابه المعادي للإسلاميين وتعهده الانتخابي بعدم الحكم مع حركة النهضة. وبالرغم من أن قياداته تسعى إلى تسويق فكرة أن التيار شارك في حكومة الرئيس وكانت النهضة مكونا من مكوناتها وهو ما يختلف عن المشاركة في حكومة تشكلها النهضة، إلا أنه من الصعب إقناع جمهور الناخبين المعادين للنهضة بهذه المقولة لعدة اعتبارات أهمها أن الفكرة التي تسيطر على هذا الجمهور من الناخبين تتمحور حول معارضة كل حكومة تكون النهضة جزء منها، بالرغم من أن علاقة التيار بالنهضة بقيت متوترة حد العداء رغم وجودهم في نفس الحكومة. هذا بالإضافة إلى أن مشاركة التيار في الحكم أفادت النهضة أكثر من خصومها باعتبار أنها تمكنت من حشد قواعدها وجمعت شتاتها ضد “حكومة الرئيس” وسياسة الرئيس قيس سعيد المهددة لهم، كما أن النهضة نجحت في نزع احتكار التيار الديمقراطي لشعار مكافحة الفساد بعد أن ظهر في شكل المدافع عن رئيس حكومة في موضع تضارب مصالح ويظفر بصفقات مع الدولة قيمتها ملايين الدينارات.
خسر إذن التيار الديمقراطي الكثير مقابل عدم فوزه بأي امتياز نظير مشاركته في الحكومة، وهذا يعود إلى طبيعة الحزب نفسه الذي يفتقد إلى عقل سياسي يجيد اللعب على المتغيرات والتمكن من سياسة توازن القوى وقادر على التوصل إلى تسويات. لذلك نزل بثقله للدفاع عن إلياس الفخفاخ دون أخذ مسافة من هذا الأخير أو من الملف الذي أُثير ضده حتى أصبح سقوط الفخفاخ هو سقوط للتيار الديمقراطي. وبالرغم من أن النهضة مثلا تشارك في الحكومة بضعف تمثيلية التيار إلا أن التيار حمل على أكتافه وزر الحكومة ورئيسها بمفرده، عكس النهضة التي كانت ستستفيد لو نجحت الحكومة باعتبار أنها الجزء الأكبر فيها، وستستفيد أيضا لو فشلت وسقطت باعتبار أنها لم تكن راضية عنها منذ البداية وأُكرِهت على المشاركة فيها.
ربما كان ذلك بسبب خطأ الإصرار على الدفاع عن إلياس الفخفاخ دون قيود أو بسبب تركيز النهضة، بمعية حلفائها من قلب تونس وائتلاف الكرامة، هجماتها على التيار الديمقراطي، لكن في النهاية تبقى النتيجة واحدة راسخة في الأذهان وهي حزب مكافحة الفساد يدافع عن الفساد. قد تحتاج مجهودا استثنائيا لتجاوز هذه الصورة لكن عدم استقراء الموقف بدقة منذ البداية وعدم توقع أسوأ السيناريوهات جعل التيار الديمقراطي في وضع لم يتوقعه ألد خصومه.
iThere are no comments
Add yours