توقف العمل في جميع المحاكم التونسية، الجمعة 16 أكتوبر، بسبب تنفيذ المحامين لإضراب عام ردا على استهدافهم باعتداءات وانتهاكات من قبل عناصر أمنية. وكانت حادثة الاعتداء الجسدي واللفظي على المحامية نسرين قرناح، يوم 4 أوت، بمركز للشرطة بمنطقة المروج (ولاية بن عروس) أثناء دفاعها عن موكلها قد أفاضت الكأس ودفعت المحامين إلى التحرك ضد الاعتداءات، خاصة في مراكز الشرطة، والتي غالبا ما تمر دون محاسبة. هذا الإضراب الذي دعت إليه الهيئة الوطنية للمحامين يعتبر “بمثابة ناقوس الخطر الذي يحذر من الضغوطات التي تمارسها الحكومات على المحامين” حسب بيان الهيئة.
كيف بدأت الأزمة
اتخذت القضية منحى تصاعديا منذ الجمعة 9 أكتوبر حيث تجمع عشرات المنتسبين للنقابات الأمنيّة أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس تزامنا مع الجلسة التي أحيل فيها رئيس مركز الشرطة بالمروج المتهم بالاعتداء على المحامية نسرين قرناح على القضاء. هذا الضغط الأمني قابله المحامون باستياء وغضب شديدين، مما دفع بالجمعية التونسية للمحامين الشبان إلى مطالبة مجلس الهيئة الوطنية للمحامين برفع قضية في حل النقابات البوليسية تكون مؤيدة بملف دقيق ومفصل عن كل التجاوزات والجرائم التي ارتكبها منتسبو هذه النقابات منذ تأسيسها إلى اليوم، حسب بيان المنظمة.
كما دعت الجمعية “عميد المحامين وأعضاء مجلس الهيئة إلى إقرار جملة من الوسائل النضالية من بينها مقاطعة كل أشكال التعامل مع المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل ووزارة الداخلية ودعوة كافة المحامين المنتخبين صلب المجلس الأعلى للقضاء إلى تعليق عضويتهم، إضافة إلى مقاطعة جميع الدوائر الجنائية والجناحية ومكاتب التحقيق وجهاز النيابة العمومية، كمقاطعة الأعمال لدى باحث البداية”. هذه الدعوة لاقت استجابة سريعة من مجلس الهيئة الوطنية للمحامين التي دعت إلى تنفيذ إضراب عام تحت شعار “لا للضغط على القضاء لا للإفلات من العقاب”.
هذا التصعيد من جانب جمعية المحامين الشبان عبر عنه رئيس الجمعية طارق الحركاتي في تصريح لنواة بالقول إن
الأوضاع بمرفق العدالة متدهورة جدا خاصة مع تنامي مظاهر انهيار الدولة وتغول جهاز البوليس واستغلاله لنفوذه ضد خصومه وتواتر الاعتداءات على المواطنين داخل وخارج مراكز الأمن. التحركات التي سنخوضها ليست انتصارا للزميلة التي تم الاعتداء عليها في مركز المروج فقط بل لدفع الاعتداءات على المواطنين.
وعبر الحركاتي عن رفضه لما أسماها “عربدة النقابات البوليسية وفرض منط ققانون الغاب والتأثيرعلى أحكام وقرارات القضاة في ظل تهاون جهاز النيابة العمومية وتواطؤه البيّن مع منتسبي هذه النقابات وهو ما يشكل خطرا محدقا يتهدد الحقوق والحريات”.
تصعيد المحامين الشبان
استجابة الهيئة الوطنية للمحامين كانت سريعة حيث شنت إضرابا عاما، ونظمت وقفة احتجاجية حاشدة الجمعة 16 أكتوبر أمام المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة للتنديد بامتهان كرامة المحامي والضغط على القضاء، وذلك على خلفية أحداث محكمة بن عروس. وقال عميد المحامين إبراهيم بودربالة في كلمة له أمام المتظاهرين أن
تحرك المحاماة لا يُراد منه الانتقام ولا الثأر من أي قطاع كان بما في ذلك الأمن، بل نسعى إلى إرجاع الكرامة للمحامية التي أهينت بمركز الأمن بالمروج أثناء قيامها بالدفاع عن موكلها، وإلى ضرورة احترام كرامة مهنة المحاماة.
ودعا عميد المحامين كل المسؤولين، وخاصة إطارات المؤسسة الأمنية، بأن يكونوا متجاوبين مع هذه الوقفة بإصلاح صورة المؤسسة الأمنية كي يكون الأمن جمهوريا وفي مستوى تطلعات الشعب، على حد تعبيره.
وواصلت الجمعية التونسية للمحامين الشبان تصعيدها على خلفية أحداث جلسة 16 أكتوبر لتوجه سهامها هذه المرة إلى سلك القضاة، حيث قررت الهيئة المديرة للجمعية حزمة من الإجراءات في 24 أكتوبر الجاري تتمثل أساسا في تقديم شكاوى جزائية ضد من ثبت تورطه في إخفاء أدلة الاعتداء على المحامية، وشكاية ضد قاضي التحقيق الأول بمحكمة بن عروس بتهمة الإيهام بجريمة، بالإضافة إلى تقديم شكاية للتفقدية العامة بوزارة العدل ضد وكيل الجمهورية وقاضي التحقيق الأول بنفس المحكمة حسب بيان الهيئة.
وبالرغم من هذه التجاذبات، لم تتدخل وزارة العدل باعتبار أنها المسؤولة عن حسن سير عمل المحاكم في تونس. واكتفى وزير العدل، محمد بوسته، بلقاء مع وفد من الهيئة الوطنية للمحامين، يوم الأربعاء 14 أكتوبر، أكد فيه على أن “استقلالية السلطة القضائية مضمونة وأنّ الحفاظ على استقلالية عمل السادة القضاة مسؤولية الدولة بمختلف أجهزتها وهياكلها، كما أنّ أي ضغط يمارس على عمل القضاة غير مقبول مهما كان مصدره، داعيا الجميع إلى ضرورة التعقّل وتغليب المصلحة العامة.”
سوابق النقابات البوليسية
ليست المرة الأولى التي تندلع فيها أزمة بهذا الشكل بين المحامين والقضاة من جهة والنقابات البوليسية من جهة أخرى. في 12 مارس 2018، تجمهر منتسبون للنقابات الأمنية أمام نفس المحكمة (بن عروس) للمطالبة بالإفراج عن خمسة أمنيين متهمين بتعذيب أحد الموقوفين في قضية ذات صبغة إرهابية. في تلك الأحداث، تدخل المجلس الأعلى للقضاء وأصدر بيانا رسميا اتهم فيه “بعض الأمنيين بالتمرد على الدولة وانتهاك حرمة المحكمة عبر تجمعهم داخلها واقتحامهم قاعة جلسة المحكمة رافعين سلاح الدولة على السلطة القضائية”.
من جهتها ترفض النقابات البوليسية ما تعتبره “هجوما على منتسبيها وتشويها للمؤسسة الأمنية” حيث اعتبر كاتب عام نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل أن
أعوان الأمن لم يحاصروا مقر محكمة بن عروس كما تم الترويج له، وأن الصور التي تم نشرها منها صور قديمة ومنها صورة لأمني كان موجودا في مقر المحكمة وهو بصدد تنفيذ مهمة قضائية، مع وجود صور لسيارات للشرطة أمام المحكمة وكانت في انتظار رئيس مركز المروج المتهم في قضية الاعتداء على المحامية لنقله إلى منزله.
ومن المنتظر أن يتواصل هذا الجدل حول دور النقابات البوليسية التي تم إنشاؤها في تونس بعد الثورة بمقتضى المرسوم عدد 42 المؤرخ في 25 ماي 2011 الذي أصدره الباجي قائد السبسي، خاصة مع الأحداث التي جدت بعد تأسيسها، نذكر من بينها حادثة اقتحام مقر رئاسة الحكومة في 2011، ورفع شعار ديغاج في وجه الرؤساء الثلاث (الجبالي وبن جعفر والمرزوقي) في ثكنة العوينة سنة 2012، وحادثتي محكمة بن عروس مؤخرا. كل هذه الأحداث اتُهمت فيها النقابات البوليسية بالتمرد على الدولة واستغلال نفوذها باعتبار أن منتسبيها حاملين للسلاح لمحاولة فرض إرادتها على الجميع.
iThere are no comments
Add yours