هذا التنازع يتنزّل، حسب تيار داخل الجسم القضائي، في سياق معركة “استقلالية السلطة القضائية” غير المكتملة في تونس. الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، سواء القصبة أو قرطاج، أو توازن القوة معها، من خلال حسم الجدل حول مفهوم السلطة الترتيبية العامة وحدودها، وتخليص نصوصها وبنودها من الالتباسات والمنازعات بين سلطتين من المفترض أنهما منفصلتين عن بعضهما البعض، مثّل هاجسا بالنسبة للهياكل القضائية المعنية بهذه المسألة، وخصوصا المجلس الأعلى للقضاء.

علاقة استقلالية القضاء بالسلطة الترتيبية العامة

وإن أقر دستور 2014 في فصليه 102 و 109 باستقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية، وهو ما تأكّد  بتأسيس المجلس الأعلى للقضاء سنة2017 . وبالرغم من تخلص هذا القطاع الحساس من سطوة سلطوية نظام بن علي ما قبل سنة2011، إلا أن شقّا هاما من القضاة لا يزال في خلاف مع السلطة التنفيذية، ممثلة في الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2017 لليوم، من أجل  الحسم في بعض النقاط التي يرى المجلس أنها من مشمولاته، في حين أن “السلطة التنفيذية لا تريد التخلي عنها من أجل تحجيم المجلس وحصره في المسار المهني”، على حد تعبير يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء.

وذكر بوزاخر في حديث لـنواة أن دستور 2014 أقرّ باستقلاليّة القضاء في توازن مع باقي السلط، مشيرا إلى أن “آليات استقلالية القضاء تشتمل على التسيير الذاتي للقطاع الذي يشمل بدوره السلطة الترتيبية وغيرها”.

وأوضح محدثنا أن جزء من السلطة الترتيبية العامة الذي كانت تتمتع به السلطة التنفيذية ما قبل دستور 2014 اقتطع منها وأُسند للمجلس الأعلى للقضاء، الأمر الذي لم يعجب السلطة التنفيذية.

لقاء رئيس الحكومة هشام مشيشي برئيس المجلس الاعلى للقضاء يوسف بوزاخر، الجمعة 02 اكتوبر 2020.

يعدّد الدستور التونسي في الفصل 92 الاختصاصات التي يتمتع بها رئيس الحكومة من إحداث وحذف وزارات وهياكل عمومية جديدة والقيام بتعيينات وإعفاءات في وظائف مدنية عليا، هذا طبعا بالإضافة إلى السهر على تنفيذ القوانين، وتدخل كل هذه الصلاحيات في إطار السلطة الترتيبية العامة.

من الأمثلة على الخلاف بين السلطتين التنفيذية والقضائية، الحركة القضائية التي أراد المجلس الأعلى للقضاء نشرها بالرائد الرسمي في جانفي 2018 والتي تتعلق بشروط شغل الوظائف في القضاء العدلي وتحديد عدد مندوبي الحكومة في الدوائر القضائية وغير ذلك من الترتيبات “تم رفضها بطريقة لا تليق”، على حد تعبير رئيس المجلس.

لم تكن تلك المرة الأولى التي ترفض فيها السلطة التنفيذيّة تمرير الحركة القضائية السنوية، فقد رفض الرئيس قيس سعيد في شهر ديسمبر 2019 إصدار الأمر الرئاسي المتعلق بالحركة السنوية للقضاء العدلي، ليعود فيما بعد ويمضي على الأمر المتعلق بحركة القضاء العدلي، مما اعتبره المجلس تعطيلا لعمل القضاء.

من جانبها، أوضحت بسمة السلامي، أستاذة جامعية مساعدة وعضوة بالمجلس الأعلى للقضاء، أنه وبموجب دستور2014  أصبح رئيس الحكومة يتمتع بالسلطة الترتيبية العامة وفقا للفصل 92 من الدستور التي كان يتمتع بها في السابق رئيس الجمهورية بموجب دستور1959  ، في حين يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بالسلطة الترتيبية الخاصة في مجال اختصاصه، وفق مقتضيات الدستور والقانون، إذ ينص الفصل 102  من الدستور على أن “القضاء سلطة مستقلة.”

وتضيف السلامي لـنواة أن “الفصل 113  من الدستور التونسي يُقر بالاستقلالية المالية والإدارية للمجلس الأعلى للقضاء والتسيير الذاتي، ويُعد مشروع الميزانية ويناقشه أمام اللجنة المختصة لمجلس نواب الشعب”، مشيرة إلى أن “المجلس يتمتع بالسلطة الترتيبية في مجال اختصاصه”.

إلى ذلك، حدّد القانون عدد 34  لسنة 2016  المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء طبيعة السلطة الترتيبية للمجلس، حيث شرح مهام المجلس التي تقوم خصوصا على حسن سير القضاء واستقلاليته عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. كما يتمتّع المجلس، حسب القانون عدد 34، “بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه.” هذا إضافة للبت في المسار الوظيفي للقضاة والترقيات والعقوبات التأديبية واحتياجات المجالس من القضاة والخطط القضائية.

إذا هناك مستند تشريعي للمجلس الأعلى للقضاء صلب الفصل الأول من القانون عدد34  يخول له صلاحيات إدارة قطاع القضاء باستقلالية عن السلطة التنفيذية في مجال سلطاته المقيّدة بما أقرّه لها الدستور والقانون التونسي.

نقاط التنازع بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية

تطرقت الجامعية بسمة السلامي، في دراسة أطلعتنا عليها حول السلطة الترتيبية، إلى الحدود التي تفصل بين السلطة الترتيبية العامة لرئاسة الحكومة والسلطة الترتيبية الخاصة للقضاة. وجاء في الدراسة أن القانون التونسي يفصل بين السلطتين، ولا يضع الترتيبات المتعلقة بالحركة القضائية تحت طائلة الترتيبات العامة لرئيس الحكومة.

إذ يتحدث الفصل 92 من الدستور عن مجالات السلطة الترتيبية العامة لرئيس الحكومة التي من بينها التصرّف في الإدارة ككل “إحداث، تعديل، حذف مؤسسات، وزارات ، مرافق “… ، كما أنه لا تدخل طائلة الفصل92   كل التراتيب المتعلقة بالمسار الوظيفي أو التأديبي للقضاة. حتى الجزء المتعلق بـ”إجراء التعيينات والإعفاءات في الوظائف المدنية العليا” الذي تعرض له الفصل 92 من الدستور، فإن القانون عدد 33 المتعلق بالوظائف المدنية العليا لم يشمل الفصل الثاني منه أي وظيفة قضائية وهو ما يدل على عدم اختصاص رئيس الحكومة في التعيين أو الإعفاء منها أو تحديد الشروط المتعلقة بممارسة القضاة لمهامهم.

وتوضح الدراسة كذلك أن القانون الأساسي عدد 29 لسنة 1967 المتعلق بنظام القضاة والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة الذي ينص في الفصل 13 منه على أنه “يتم ضبط الوظائف التي يمارسها القضاة بمقتضى أمر”فان أحكامه لا يمكن العمل بها لأنها مخالفة لدستور2014 ، ولأن فيها مساس لمبدأ الفصل بين السلطات.

لكن هل يعني ذلك أن السلطة الترتيبية الخاصة تخول للمجلس الأعلى للقضاء نشر الحركة القضائية مثلا في الرائد الرسمي بعد إمضاء رئيس الجمهورية ودون إعطاء رأي فيها ومراجعتها أو الاختلاف حول بعض نقاطها؟

ما قصة الرأي المطابق للقضاة؟

لاقت إجراءات الحجر الصحي الموجّه والاستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم التي أقرتها الحكومة في 02 ماي الفارط، من بين إجراءات أخرى جاءت في الأمر الحكومي عدد 208 لسنة 2020، رفضا شديدا من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي تمسك، في بلاغ نشره بتاريخ 05 ماي الماضي، بمذكرة عمل وجهها إلى عموم القضاة يوم 28 أفريل الماضي وتتعلق بتدابير العمل القضائي وكيفية الوقاية من انتشار فيروس كورونا.

هذه واحدة من الأمثلة البارزة على الإشكاليات التي تعترض تطبيق القانون في المسائل التي تتعلق بتنظيم عمل القضاء سواء من طرف السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية، خصوصا وأننا نتحدث هنا عن ضبط أحكام وإجراءات استثنائية وظرفية حسب مرسوم رئيس الحكومة عدد 07 لسنة 2020 الوارد في الأمر الحكومي عدد 208 المرتبط بجائحة كورونا.

فالخلاف بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء حول العمل في المحاكم وتنظيمها والتدابير المتخذة في الموجة الأولى من فترة الحجر الصحي بسبب كوفيد-19 في شهر مارس مثال واقعي “أين تقف السلطة الترتيبية الخاصة للمجلس الأعلى للقضاء”، حسب تعبير القاضي السابق أحمد صواب.