وتواجه حكومة المشيشي أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، تعمّقت بسبب جائحة كورونا. اضطرت الحكومة  في 30 أكتوبر المنقضي إلى سحب مشروع قانون المالية التكميلي، بعد رفض البنك المركزي الإقراض المباشر لسد العجز في ميزانية 2020 المقدر بـ10.3 مليار دينار. وبعد مراجعة المشروع وتحيينه أعادت الحكومة قانون المالية التكميلي إلى مجلس النواب يوم الخميس الماضي، الذي أحاله بدوره على لجنة المالية. وتعهدت الحكومة، في هذا المشروع المحين، بالضغط على النفقات للتخفيف من الحاجة إلى الاقتراض الداخلي، وتقليص نسبة العجز. لكن مشروع قانون المالية التكميلي، وحتى مشروع قانون المالية لسنة 2021 باتا مهددين بالسقوط إذا لم يستجب المشيشي لمطالب ورغبات الائتلاف السياسي الذي يقول انه يدعمه.

إمّا توسيع الحزام أو القطيعة معه

لم تكن قضية تضارب المصالح التي تعلقت برئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ سوى القطرة التي أفاضت الكأس، كأس تعمدت حركة النهضة منذ الأيام الأولى للحكومة السابقة إلى ملئها من خلال حرب باردة شعارها توسيع الحزام السياسي، خدمة لحليفها وصاحب الفضل في استمرار رئيسها على رأس البرلمان، قلب تونس. وانتهت حرب النهضة بإسقاط حكومة الفخفاخ.

منذ تكليف المشيشي بتشكيل الحكومة، سعت النهضة بكل الوسائل إلى إعادة خلط الأوراق. ومع أول خطأ ارتكبه قيس سعيد، حين دعا الأحزاب ليعلمها أن عدم التصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة لن ينجر عنه حل البرلمان، اقتنصت النهضة الفرصة لتظهر بمظهر الداعم الأساسي للمشيشي وحكومته وصاحبة الفضل لاستمراره في الحكم. كل ذلك في انتظار الفرصة السانحة لجني الثمار.

فرصة الضغط على رئيس الحكومة وابتزازه عبر عنها قلب تونس دون كلام منمق ولا ديبلوماسية، وكالعادة، النهضة تتعفف وترفض أن تخوض مباشرة في المهام غير النظيفة أو المعارك الخاسرة. ومثلما دفعت ائتلاف الكرامة ليخوض بالنيابة عنها معركة تنقيح المرسوم 116 لتتملّص منها حينما تتأكد من خسارتها، هاهي الآن تدفع بقلب تونس لتخيير المشيشي بين الرحيل أو البقاء تحت جبة الشيخ. بداية إقناع المشيشي بالخضوع لتحوير وزاري، تكون الكلمة الفصل فيه للقروي والغنوشي، كانت بالتهديد بإسقاط مشروع قانون المالية التكميلي. حيث أوصت الكتلة البرلمانية لحزب قلب تونس، مساء الأحد الماضي، أعضاء كتلتها بعدم التصويت لفائدة مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020، ودعت الحكومة إلى إدخال تعديلات جوهرية على ميزانية 2021.

وفي بيان أصدرته الكتلة البرلمانية لقلب تونس، في ختام تظاهرة أيام برلمانية، عبرت “عن عميق انشغالها بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي وغياب النجاعة للخروج من الأزمة التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة على مستوى ارتفاع الإنفاق العمومي و تفاقم عجز الميزانية وارتفاع الدين العام إلى مستوى خطير”. وهي لغة لم نألفها سابقا في خطاب حزب قلب تونس، الذي اكتشف فجأة أن الحكومة ليست لديها حلولا ناجعة لتجاوز هذا الوضع. واعتبر البيان أن التعديلات الجوهرية على الميزانية يجب أن “تعتمد على فرضيات واقعية للتحكم في المال العام وتحفيز الاستثمار وتوفير الدعم اللازم للإنتاج وللفئات الاجتماعية المستحقة وتشريك جميع الأطراف الاجتماعية في تعديل الميزانية”. هكذا خُيّل فجأة للكتلة البرلمانية لقلب تونس بعد سنة كبيسة وخانقة نتيجة أزمة كورونا، أنه يمكن، والآن تحديدا، التحكم في المال العام وتحفيز الاستثمار والإحاطة بالفئات الاجتماعية المستحقة، بضربة واحدة!

كتلة قلب تونس، ومن ورائها رئيس الحزب نبيل القروي يدركون جميعا أن المشيشي، كما الشعب التونسي حبيس عنق زجاجة. وهم على دراية بالجدل الدائر بين الحكومة والبنك المركزي، ومع ذلك يتفاجؤون من رؤية المشيشي للخروج من الأزمة، معتبرينها غير ناجعة. الحقيقة أن عين “قلب تونس”، ونبيل القروي تحديدا، على الحكومة ذاتها. وهو يدرك كما يدرك جيدا حليفه راشد الغنوشي وحركته، أنها الفرصة التي لا تتكرر للانقضاض الحكومة وإعادة توزيع غنائمها، لذلك أكد النائب عن قلب تونس أن كتلته لن تصوت على مشروع قانون الميزانية التكميلي في صيغته الحالية. وكان النائب عن حركة النهضة فيصل دربال حذّر حكومة المشيشي من عدم إدراج الاعتمادات المالية لتسوية ملف الكامور في مشروع قانون المالية للسنة القادمة. الواضح أن قلب تونس والنهضة لن تفاوضا المشيشي عن أي صيغة أخرى لمشروع الميزانية التكميلي، وإنما ستكون المفاوضات عن شكل المشهد الحكومي بعد ذلك.

بين مقصلة ترويكا البرلمان وسندان الاستقرار الحكومي

سحبت الحكومة النسخة الأولى من قانون المالية التكميلي لمراجعتها مع الإبقاء على تمويل  الميزانية العامة من البنك المركزي في حدود 3 مليار دينار، مع اقتراض مبلغ مثله من السوق الخارجية والعمل على تعبئة أكثر من ملياري دينار عبر التحصيل الجبائي وسندات الخزينة.

وقد خفضت الحكومة بعد المراجعة حاجة الدولة من تعبئة 10.3 مليار دينار لسد العجز في الميزانية إلى 8.1 مليار دينار، مع العمل على تراجع حجم الدين العمومي. وسيكون لتغيير توازنات قانون مالية 2020 انعكاسات مباشرة على التوازنات المالية لسنة 2021، التي أودعت الحكومة مشروعها منذ 15 أكتوبر الماضي لدى مجلس النواب. الحكومة ستجد نفسها خلال الفترة القادمة بين ضغوط توفير الموارد المالية الضرورية، في سياق دولي صعب يزيد من صعوبة الاقتراض الخارجي، وفي ظل رفض البنك المركزي تمويل عجز الميزانية التكميلي دون ضمانات، وبين ضغط المطالب الاجتماعية التي ستتزايد خلال الفترة القادمة خاصة مع النهاية المرتقبة لأزمة كورونا وعودة الحياة الطبيعية.

الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة منذ فترة، ستبرز آثارها الاجتماعية بوضوح مع بداية السنة القادمة. كما أن نهاية وباء كورونا سيميط اللثام عن حجم الخراب الاجتماعي، وحجم الخسائر التي تكبدتها الفئات الهشة. وهو وضع ملائم للغاية لهزات واضطرابات اجتماعية، بدأت ملامحها تبرز في أكثر من منطقة، لا سيما في أحزمة الفقر وفي المناطق الداخلية. اضطرابات لن يستطيع المشيشي مواجهتها بمفرده، ودون حزام سياسي، لا أحد يعلم حجمه ومدى صلابته.