ليست هذه المرة الأولى في تاريخ تونس، التي تندلع فيها احتجاجات شبابية غير مؤطرة، )تحمل في صفوفها أطفال ومراهقين) في المناطق والأحياء الشعبية الأشد فقرا، وتستهدف مؤسسات وأجهزة الدولة في هذه الأحياء من مراكز للشرطة ومكاتب البريد، إضافة للفضاءات التجارية والبنوك.

وليست المرّة الأولى أيضا التي تتعامل فيها السلطة السياسية مع الاحتجاجات بذلك التفسير المريح والمنطق السهل الذي يعفيها من المسؤولية، وهي أن هؤلاء المحتجين ” شرذمة من المنحرفين” و”لصوص الليل” وأحيانا “أدوات لأطراف، داخلية أو خارجية، لا تريد الخير لتونس”، وأن ما تقوم به من “أعمال عنف وشغف وإضرار بالملك الخاص والعام” يجب أن يواجه بقبضة من حديد وبالقمع البوليسي.

ومنذ أحداث الخبز في جانفي 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي في 2008، وحتى خلال ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي، كانت تبريرات من يحكم ومن يتحالف مع من يحكم ومن يبرر لمن يحكم، أن هناك أطراف ما ( قوى شريرة) هي السبب في ما حصل وليست السياسات المتبعة والغبن الاجتماعي الذي خلّفته هو المسؤول عن ذلك.

القمع في مواجهة الفقر

إذا كان من المفهوم أن تسعى أنظمة قمعية وغير ديمقراطية وقائمة على سلطة الحزب الواحد، على غرار حكمي بورقيبة وبن علي، إلى التبريرات السهلة التي تعفيها من المساءلة والمحاسبة حول سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، فإنه من غير المقبول، أن تستنجد السلطة السياسية أو الأحزاب المشاركة في الحكم، في نظام ديمقراطي جاءت به الثورة، بمثل هذه التبريرات. بل على العكس، كان من المفترض أن تبادر إلى الاعتراف بفشلها السياسي والانسحاب من الحكم، خاصة إذا توفرت لديها المعطيات والدراسات الضرورية حول حالة اليأس والإحباط لدى جزء كبير من التونسيين وخاصة الشباب منهم، نتيجة التفقير المستمر.

في دراسة أجراها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شهر نوفمبر 2020، أي قبل الاحتجاجات بشهرين فقط، وشملت شبابا من فئات عمرية متفاوتة ومن مناطق مختلفة، من الكبارية وسيدي حسين والمروج والمنازه، كانت إجابات هؤلاء الشباب صادمة. أكثر من 80 بالمائة من العينة (805 مستجوب) اعتبروا أن المجتمع التونسي ليس مجتمع مساواة وأن الدولة غير معنية بمساعدة الفقراء والمهمشين. ويرى حوالي 70 بالمائة من المستجوبين أن الدولة لا تلبي الحاجيات الأساسية لمواطنيها، وأنّها على العكس تمارس عليهم العنف. عديد المؤشرات التي وردت في هذه الدراسة تعكس حجم الإحساس بالقهر و”الحقرة” لدى قطاع واسع من الشباب التونسي، وهو ما يجعل وهو ما يجعل من الاحتجاج أو حتى الثورة نتيجة منطقية. فهل وضعت السلطة السياسية الحاكمة وحزامها السياسي هذه الاعتبارات في التعاطي مع الاحتجاجات الأخيرة؟

تخبّط حكومي

بعد خمسة أيام من الأحداث وفي ظل صمت مطبق للسلطة السياسية في القصبة وقرطاج، التقى رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي يشغل أيضا منصب وزير الداخلية بالنيابة، بقيادات أمنية رفيعة المستوى يوم 19 جانفي، وألقى كلمة مقتضبة مفادها أن الاحتجاجات غير بريئة وأن “أعمال النّهب والسرقة والاعتداءات على الممتلكات الخاصة والعامة لا تمت بصلة للتّحركات الاحتجاجية، والتعبيرات السلمية التي يكفلها الدستور”. وبعدها بيوم قال رئيس الحكومة في كلمة للتونسيين أنه “يتفهم هذه الاحتجاجات وخلفياتها ومطالبها الاجتماعية والاقتصادية، ويفصل جيدا بينها وبين ما رافقها من أعمال عنف وسرقة تصدت لها القوات الأمنية بكلّ حرفية”.

وقد كشف بذلك عن العقلية الأمنية الذي يعالج بها أزمة الاحتجاجات، وهي نفس العقلية التي تعاملت بها الحكومات والأنظمة التي سبقتها مع الاحتجاجات السابقة. وقد بلغت الإيقافات في صفوف المحتجين حتى يوم 19 جانفي حسب المصادر الأمنية حوالي 630 موقوفا، لكن مصادر من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان اعتبرت أن الرقم أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز الألف موقوف.

وعلى الرغم من تأكيد المشيشي على أن الإيقافات والعنف الذي مارسه الأمن كان ضد الاحتجاجات الليلية وغير السلمية كما قال، إلا أن الحكومة تعاملت بنفس المنطق العنيف يوم السبت الماضي حيث عمدت إلى إغلاق شارع بورقيبة أمام المتظاهرين السلميين، بل قامت بالاعتداء وإيقاف بعض المتظاهرين يوم السبت في مسيرة سلمية نظمها شباب يطالب بإطلاق سراح الموقوفين، والتحق بهذه المسيرة ممثلو بعض أحزاب الجبهة الشعبية والمجتمع المدني.

أما رئيس الجمهورية فاكتفى بزيارة إلى الحي الذي يقطنه بالمنيهلة (أريانة)، وقال كلمة مقتضبة وسط عشرات من المواطنين دعا فيها الحاضرين ومن خلالهم كل الشباب التونسي لعدم التعرض لأي كان لا في ذاته ولا في عرضه ولا في ممتلكاته. منبها الشباب “ممن يسعى بكل الطرق إلى توظيفهم والمتاجرة بفقرهم وبؤسهم وهو لا يتحرك إلا في الظلام وهدفه ليس تحقيق مطالب الشعب بقدر سعيه لبث الفوضى”.

أبناء “النهضة ” جاهزون

كانت حركة النهضة واضحة في توصيف الاحتجاجات وفي التعامل معها، ولم تستعمل أسلوب رئيس الحكومة ولا رئيس الجمهورية بطريقة “نعم ولكن”، على العكس وصفت حركة النهضة منذ البداية الاحتجاجات بـ”أعمال الشغب”  المعادية لتونس. وأكد القيادي عبد الكريم الهاروني أن من يحتجون “يستعملون قصّرا لمهاجمة الشعب التونسي ومؤسساته وهم لا يقلّون خطورة على الإرهابيين”، بل ذهب أبعد من ذلك بدعوة شباب النهضة إلى مواجهة المحتجين، وقال الهاروني “قمنا بتوجيه الدعوة لمناضلينا ومناضلاتنا لحماية دولتهم وإعانة شعبهم حتى لا يتركوا الغاضبين يخرّبون ما بناه الشعب التونسي ودولتهم الشرعية”. وقد أثارت هذه الدعوات ردود فعل قوية واستنكار من العديد من منظمات المجتمع المدني والأحزاب اليسارية والديمقراطية (الجبهة الشعبية وحركة الشعب والتيار الديمقراطي والتكتل والمسار والجمهوري). وأعادت إلى الأذهان الميليشيات العنيفة التي استعملتها حركة النهضة في السنوات الأولى من الثورة وأدّت إلى مقتل لطفي نقّض القيادي في نداء تونس في 2012، وكذلك تورّط هذه الميليشيات في أعمال عنف ضد الأحزاب والمنظمات وكل المعارضين لحركة النهضة.

وفي الوقت الذي اصطف فيه حزب قلب تونس وراء حركة النهضة وندد بما أسماه “الأعمال التي اندلعت بصفة منسّقة ومتزامنة مخترقة لقانون حالة الطوارئ وقرار حظر الجولان ومستهدفة لقوات الأمن والحرس الوطنيين بهدف استنزافها والقيام بأعمال إجرامية”، فإن كل من الحزب الدستوري الحر وائتلاف الكرامة التزما الصمت، عدا بعض التصريحات المقتضبة للبعض من نوابهم لإدانة لما أسموه بالعنف والتخريب.