الواقع من الداخل ليس أفضل حالا من الصورة الخارجية، والأزمة الاقتصادية والسياسية تخفي واقعا أشد وطأة، حيث تواجه الحريات الفردية والعامة، المكسب الوحيد للثورة، تهديدات حقيقية بعد عودة القمع البوليسي الممنهج، وإعادة إحياء الممارسات التي اختفت نسبيا بعد الثورة مثل التعذيب وسوء المعاملة والإيقافات العشوائية وانتزاع الاعترافات أثناء الإيقافات.
تلذذوا بحرق خصيتيه
يروي الشاب أحمد قم، 21 سنة، كيف تفنن البوليس في تعذيبه أثناء إيقافه في منطقة بنان بولاية المنستير، وأنه تعرّض لطرق متنوعة من التعذيب، وحرق خصيتيه، وهي ذات الممارسات التي اشتهرت بها الآلة القمعية تحت حكم الدكتاتور بن علي.
ولم تتحرك السلطات، وخاصة وزارة الداخلية التي يديرها بالنيابة رئيس الحكومة هشام المشيشي، لمتابعة المتورطين، رغم أن تونس مصادقة على كل الاتفاقيات الدولية لمناهضة التعذيب. و حسب تقرير المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب فقد تم الاعتداء على الشاب أحمد بالصفع واللكم منذ إيقافه بمقر عمله ببنان وصولا إلى منطقة الحرس الوطني بالمنستير. وعند إنكار الشاب الاعتراف بالتهمة الموجهة له، تعرّض لشتّى أنواع التعذيب وخاصة تكبيله وتعليقه في وضعية “الدجاجة المصلّية”، ثم نُزعت عنه كل ملابسه ووقع كيّه بالنار على أعضائه التناسلية مما أفقده وعيه. وأرغم، إثر ذلك، على الإمضاء على المحضر المُعدّ من الأعوان، وأحيل على وكيل الجمهورية الذي أصدر في شأنه بطاقة إيداع بسجن المسعدين. غير أن تدهور وضعه الصحي أجبر إدارة السجن على نقله للمستشفى الجامعي سهلول بسوسة حيث أُجريت عليه عملية جراحية عاجلة استوجبت استئصال إحدى خصيتيه وسُلّمت له شهادة طبية تُثبت ما تعرّض له من تعذيب وما انجرّ عنه من أضرار.
وحسب منظمة مناهضة التعذيب، فقد تفاقمت الانتهاكات الحقوقية مؤخرا مثل سوء المعاملة والتعذيب وتواصل الاعتقالات والمحاكمات، وارتفعت وتيرة الاعتداءات والعنف وعادت حصص التعذيب إلى أبشع مظاهرها المُسجّلة في أوج الحكم الدكتاتوري.
عودة الدولة البوليسية في تونس؟
12/02/2021
حصانة وإفلات من العقاب
وتتمتع قوات البوليس في تونس بحصانة غير رسمية، وبإفلات كامل من العقاب حيث أثيرت عديد الانتهاكات التي قام بها أعوان البوليس خلال مواجهة الاحتجاجات أو حتى في التعامل مع قضايا الحق العام. إلا أن هذه القضايا يصعب متابعتها لتواطئ عناصر البوليس فيما بينهم ونادرا ما يتم إحالة بعض هذه الحالات إلى القضاء. وفي هذه الحالة، تمارس النقابات الأمنية ضغوطا على القضاء لإخلاء سبيل زملائهم المتهمين. ففي أكتوبر الماضي، قامت عناصر من البوليس مدججة بالسلاح، تدعمهم النقابات الأمنية، باقتحام مقر المحكمة الابتدائية في بن عروس بالعاصمة للضغط على القاضي للإفراج عن زميلهم الموقوف بعد الاعتداء على إحدى المحاميات.
وفعلا قرر قاضي التحقيق المتعهّد بالقضية إطلاق سراح المتهم وهو مدير مركز أمن في منطقة المروج بعد قيامه بالاعتداء على المحامية نسرين القرناح، على أن تتم محاكمته في حالة سراح. وقال عميد المحامين إبراهيم بودربالة في تصريح صحفي آنذاك ونقلا عن محامين كانوا حاضرين، أن حاكم التحقيق كان يرتجف وقد ترك وحيدا، دون حماية أمنية، في المحكمة إلى منتصف الليل.
الحكومة الأسوأ في حقوق الإنسان
خلال الاحتجاجات الشبابية التي اندلعت في شهر جانفي الماضي، قام أعوان الأمن بإيقافات عشوائية لمشتبه بمشاركتهم في الاحتجاجات، حيث أقدمت قوات البوليس على مداهمة المنازل فجرا لإيقاف من تشتبه في مشاركتهم في الاحتجاجات، وطال الرعب والاعتداء بالضرب والإهانة عشرات العائلات، خاصة في الأحياء الشعبية. وتفيد تقارير المنظمات الحقوقية وخاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن جل الإيقافات تتم بشكل غير قانوني، وأن الشباب الذين يتم اعتقالهم يتعرّضون للعنف وسوء المعاملة.
وتعتبر حكومة المشيشي المدعومة من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، من أسوء الحكومات في سجل حقوق الإنسان منذ الثورة. ويتولى رئيس الحكومة هشام المشيشي وزارة الداخلية بالنيابة، وفي عهده ارتفعت وتيرة الانتهاكات وعادت ممارسات التعذيب والقمع بشكل غير مسبوق. ويرى كثير من المتابعين للشأن العام في تونس، أن النقابات الأمنية تغولت وتمرّدت على الدولة، وأن المشيشي الذي تولى سابقا، في حكومة الفخفاخ، حقيبة الداخلية لم يستطع السيطرة والتحكم في هذه النقابات المنفلتة. ويؤكّد هذا التوجه تدخل هذه النقابات في التسميات في وزارة الداخلية، واصطفاف بعضها وراء أحزاب سياسية. ففي شهر جانفي الماضي دعت نقابة الأمن الداخلي بصفاقس أعوانها إلى مجابهة ما أسمتهم باليساريين وأعداء الإسلام. ولم تتخذ وزارة الداخلية ولا رئاسة الحكومة منذ ذلك الوقت أي إجراء ضد كاتب عام النقابة الذي كفّر من أسماهم باليساريين والحقوقيين. لكن رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة استقبل النقابات الأمنية لتوقيع اتفاقات تقضي بالاستجابة لمطالب مادية تقدّموا بها.
هنالك خشية من أن تستغل النقابات الأمنية ضعف الدولة والصراع الدائر بين رئيس الجمهورية قيس سعيد من جهة، وراشد الغنوشي رئيس مجلس النواب ورئيس حركة النهضة وهشام المشيشي رئيس الحكومة من جهة أخرى، لمزيد التغوّل وتشجيع منخرطيها على التمادي في انتهاك حقوق الإنسان. ومنذ الاستقلال سنة 1956 إلى حد قيام الثورة في 2011 كان الحكم الفردي المطلق يعتمد على القمع والقبضة الحديدية التي تمثلها وزارة الداخلية لتثبيت ركائز حكمه، وفي نوفمبر من سنة 1987 قام بن علي بالانقلاب على الرئيس بورقيبة بفضل دعم وزارة الداخلية.
iThere are no comments
Add yours