المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

تونس اليوم هي في نقطة تحول. فقبل فترة وجيزة من الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة، أعلنت السلطات إغلاقًا عامًا بسبب ارتفاع كبير في عدد حالات كوفيد-19 وحظرت جميع المظاهرات. لكن فرض الحجر لم يمنع الناس من النزول إلى الشوارع للاحتجاج على وضعهم الاجتماعي والاقتصادي المزري. في 15 جانفي، اندلعت أعمال شغب في العديد من المدن في جميع أنحاء البلاد، حيث واجه الآلاف من الشباب قوات الشرطة. وردت القوات الأمنية بالاعتقالات الكاسحة والتفريق القسري للمظاهرات. ومنذ ذلك الحين، قُبض على أكثر من 1600 شخص، وفقًا للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي أبلغت أيضًا عن عدة حالات تعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة في الحجز.

ويبدو أنَّ إحدى تلك المظاهرات قد أغضبت قوات الشرطة بشكل خاص. اندلعت تلك المظاهرة في 30 جانفي في وسط تونس العاصمة، ودعا إليها العديد من نشطاء المجتمع المدني والنشطاء السياسيين، بما في ذلك جماعات المعارضة وجمعيات مجتمع الميم، احتجاجًا على انتهاكات الشرطة وللتنديد بتراجع حالة الحقوق العامة. أثناء المظاهرة، رشَّ المتظاهرون شرطة مكافحة الشغب باستخدام رذاذ الطلاء، وكتب بعض النشطاء على دروع الشرطة بأحمر الشفاه، بينما سخر منهم آخرون بترديد شعارات مناهضة للشرطة. لم يلجأ أي من المتظاهرين إلى استخدام العنف، لكن القوات الأمنية، من جانبها، ردّت بغضب وقرّرت تنظيم إضرابات واعتصامات ومظاهرات في مدن مختلفة في أنحاء البلاد. وأعلنت إحدى نقاباتهم أنها ستقوم بـ”منع أي تجمهر أو تحركات احتجاجيةالغير مصّرح فيها بالقانون” في العاصمة وأنها ستقوم بـ”رفع قضية عدلية ضد كافة المتظاهرين الذين قاموا بالاعتداء على زملائنا”.

وتأتي هذه التهديدات في ذروة الاضطرابات السياسية في تونس، مع استمرار الأزمة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والبرلمان. فقد اقترح رئيس الوزراء هشام المشيشي، الذي أقال وزير الداخلية وتولى منصبه مؤقتًا، تعديلاً وزاريًا أجازه تصويت البرلمان، لكن عطّله رئيس الجمهورية قيس سعيد. وبعد صدور بيان النقابة التقى المشيشي بممثلي النقابات وأشاد بمهنيتهم، مشيرًا إلى أنَّ الاحتجاجات “تجاوز بعضها الحدود المشروعة للاحتجاج والتعبير السلمي عن المطالب الاجتماعية”. وغابت عن تعليقات المشيشي بشكل ملحوظ أي تحذيرات من أنّ عنف الشرطة والسلوك المسيء لن يتم التسامح معهما.

إنَّ التهاون السياسي مع عنف الشرطة، إلى جانب الخطاب التحريضي الصادر عن نقابات الشرطة، هو وصفة مثالية لسوء المعاملة.

فعلى سبيل المثال، بعد فترة وجيزة من اعتصام نقابات الشرطة في 2 فيفري، اتجهت قوات الأمن إلى المحكمة الابتدائية بصفاقس 2، حيث كان عدد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين قد تجمّع تضامنًا ودعمًا للمتظاهرين الشباب من مدينة طينة الذين اعتقلوا خلال الاضطرابات الاجتماعية، والذين كان من المقرّر محاكمتهم في ذلك اليوم.

ووصف الناشط السياسي، بدر الدين مساكني، كيف تقدم عناصر الأمن نحو التجمّع مرددين هتافات تشهيرية بحق النشطاء قبل مهاجمته.

كنت أقف أمام مبنى المحكمة، وشاهدت عددًا كبيرًا من سيارات الشرطة تقترب منا، ومن خلفها المئات من رجال الشرطة. هربت نحو مقهى قريب من المحكمة، لكن ما لا يقل عن 10 من رجال الشرطة يرتدون الملابس المدنية والزي الرسمي أمسكوا بي، ودفعوني وسقطت على الأرض، وشتموني وضربوبي في جميع أنحاء جسدي. كنت أصرخ أني مصاب بمرض في القلب ومن مرض في ظهري وطلبت منهم الكف عن ضربي ولكنهم واصلوا ذلك، وقال لي أحدهم “لا يهمني إن متّ”. استمروا لدقائق حتى فقدت الوعي. وعندما استيقظت، أخذني بعض الرّفاق إلى المستشفى.

إنَّ مثل هذا النوع من الانتهاكات ضد المتظاهرين ليس جديدًا. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هذه المرة هو أنّ السلطات تطلق لنقابات الشرطة العنان علانية لتهديد المحتجين وتعطيل مكاسب حقوق الإنسان التي تحققت خلال السّنوات القليلة الماضية.

يتوقف مستقبل تونس على قدرة البلاد على كبح جماح قواتها الأمنية وجعلها مسؤولة عن سوء سلوكها. حتى الآن، كانت جهود الدولة غير كافية بشكل محزن، مما أدى إلى التراجع المؤسف الذي نشهده هذه الأيام. يحتاج جهاز الأمن إلى إصلاح شامل لتحويله من “ثقب أسود” إلى خدمة شفافة وخاضعة للمساءلة. وفي هذا الوقت من التوترات الحادة والاضطرابات الشديدة، هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى المساءلة ووضع حد للإفلات من العقاب على الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان التي ترتكبها قوات الأمن.