تمّ إيداع النسخة الأوليّة من مشروع مجلّة المياه لدى لجنة الفلاحة بالبرلمان بتاريخ 3 أكتوبر 2019 التي انطلقت في نقاشه مع بداية الدورة النيابية الحاليّة، يوم 17 ديسمبر 2020. ونظّمت في شأنه خمسة اجتماعات وستّ ندوات إقليميّة مع ممثّلي السّلط الجهوية والمحلّية وبمشاركة عدد من مكوّنات المجتمع المدني. واستمعت اللجنة إلى وزيرة الفلاحة السابقة، وعدد من الخبراء وممثّلي الجمعيّات، بالإضافة إلى نقابة الفلاّحين والاتّحاد التونسي للصناعة والتّجارة والصناعات التقليدية وممثّلين عن المجامع الفلاحيّة واتّحاد الفلاحة والصّيد البحري.
ولكنّ المجلّة بقيت رغم ذلك محلّ تحفّظ عديد الجمعيّات والمنظّمات، على اعتبار أنّها تفتقر إلى تصوّر استراتيجي لقطاع الماء وتتعامل مع المياه بمنطق اقتصادي وليس بمنطق حقوقي.
النسخة الجديدة من مشروع المجلة
في شهر أفريل 2021، تمّ نقاش نسخة جديدة من مشروع مجلّة المياه حاولت الأخذ بعين الاعتبار توصيات المنظّمات الوطنيّة والجمعيّات الّتي تمّ الاستماع إليها. في تصريح لموقع نواة، ذكر رئيس لجنة الفلاحة بالبرلمان عن كتلة حركة النّهضة معزّ بالحاجّ رحومة أنّ “وزارة الفلاحة تفاعلت إيجابيّا مع مختلف مقترحات التعديل التي تهمّ الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ وعقود استغلال المياه وتعويض الجمعيّات المائيّة بوكالة توزيع المياه في الوسط الرّيفي، وتمّ تضمينها في كُتيّب فيه 120 صفحة سيتمّ أخذها بعين الاعتبار خلال نقاش فصول مشروع المجلّة”. وعقدت اللجنة 19 جلسة للنّظر في هذه النسخة الجديدة بداية من 13 أفريل إلى غاية 17 جوان 2021، قامت خلالها بـ”التصويت على 116 فصلا وحذف 27 فصلا من أصل 138 وإدخال تعديلات على 131 فصلا من أصل 164 بما يمثل 80%، والتصويت على 19 فصلا دون تعديل بما يمثل 20%، مثلما ورد بتقرير اللجنة.
وبتاريخ 6 جويلية، أصدر المرصد التونسي للمياه بيانا عبّر فيه عن قلقه إزاء “التسريع في عرض مشروع مجلّة المياه على الجلسة العامّة […] دون فسح المجال لتقديم قراءة حول هذا المشروع”، حيث أنّ النسخة المعروضة على أنظار الجلسة العامّة لم تكن محلّ نقاش النوّاب والجمعيات داخل اللّجنة، ممّا يثير “الرّيبة والشكّ” لدى المهتمّين والباحثين في قطاع المياه، مثلما ورد بنصّ البيان. ودعت الجمعيّة في هذا الإطار إلى تأجيل النّظر في مشروع المجلّة وتنظيم استشارة وطنيّة موسّعة لدراسة السياسة المائيّة بما يتلاءم مع الدّستور ويضمن حقوق الأجيال القادمة. وتفاعلا مع هذا البيان وبطلب من رئيس لجنة الفلاحة والأمن الغذائي بالبرلمان معزّ بالحاجّ رحومة، تمّ تأجيل النّظر في مشروع القانون إلى موعد لاحق.
تحفّظات قديمة- جديدة للمنظّمات المختصّة في مجال المياه
يتحدّث الناشط ضمن المرصد الوطني للمياه علاء مرزوقي لنواة عن سبب رفض المجتمع المدني للنسخة المعروضة على الجلسة العامّة لمجلّة المياه “النسخة الحاليّة لم تُناقش في اللجنة ولم يتمّ الاستماع في شأنها للمجتمع المدني. ولكنّ المجلس أجّل النّظر فيها”. وعن التحّفظات الّتي أبداها المختصّون في الشّأن المائي بخصوص نسخة أكتوبر 2019 من مشروع مجلّة المياه، أفادنا الخبير في التنمية والتصرّف في الموارد حسين الرّحيلي أنّ نسخة أفريل 2021 “بقيت وفيّة للبعد الكلاسيكي لوزارة الفلاحة، أكبر مستهلك للثروات المائيّة”. وأضاف: “لم يتمّ التخلّي عن الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ في مشروع المجلّة، وإنّما تمّ الاكتفاء بإضافة فصل يمنع التّفويت للخواصّ في مياه الشّرب”. ووصف التعديلات والفصول الإضافيّة بأنّها “نظريّة ولا تتحدّث بعمق عن البصمة المائيّة وعن مسألة التدقيق في المياه” لقيس كمّية المياه المُستهلكة في القطاعات الحيويّة. كما تحدّث خبير التنمية المستدامة عن القروض الّتي تُرصد لفائدة المشاريع التّنموية، والّتي تشترط ترفيع سعر المياه ودعم الشّراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ. وقال في هذا السّياق:
لو يتمّ التخلّي عن الخوصصة في قطاع المياه لما حصلت تونس على تمويلات. ولهذا ما زال الماء يخضع لقاعدة البيع والشّراء ولا يتمّ التعامل معه كحقّ وكثروة طبيعيّة.
وخلال ندوة صحفيّة بتاريخ 9 مارس 2021، عبّر ممثّلو جمعيّة نوماد 08 أنّ الماء خدمة عامّة وليس سلعة، وأنّ الهدف من التحرّكات الّتي قام بها عدد من مكوّنات المجتمع المدني هو “تحويل الماء إلى قضيّة رأي عامّ”. يذكر حسين الرحيلي أنّ الهدف الأسمى لمنظومة المياه في تونس هو ضمان مجانيّة كميّة المياه الحياتيّة. وتُقدَّر هذه القيمة حسب الحاجيات الحياتيّة اليوميّة للفرد والتي يُمكن أن تُختَزل في الشّرب والنّظافة. وحسب المعايير الدّولية المُعتمدة في الدّول ذات الفوائض المائيّة العالية فإنّ الكميّة الحياتيّة الجمليّة للفرد في اليوم الواحد تُقدَّر بـ150 لترا في اليوم. “نحن نطالب بما قيمته 50 لترا فقط في اليوم مجانا للفرد، وهكذا نضمن حسن استهلاك المياه وعدم تبذيرها، لأنّ ما زاد عن هذه القيمة يُصبح بمقابل مادّي”، يُفسّر علاء مرزوقي لنواة، الّذي يقول إنّ كلفة الكميّة الحياتيّة لا تتجاوز 6 دنانير للفرد في السّنة.
مشروع مجلّة المياه منذ 2009: تأخير مُبرّر؟
بدأ التفكير في إحداث مجلّة جديدة للمياه منذ سنة 2009 “بتوصية من البنك الدّولي” وفق ما ذكره حسين الرّحيلي الخبير في التنمية والتصرّف في الموارد، في اتّجاه “التمهيد لخوصصة قطاع المياه“. في تقرير أعدّه سنة 2009، يتحدّث البنك الدّولي عن ضرورة تدخّل القطاع الخاصّ في توزيع المياه وفي مجال التطهير وأن يخرج من إطار المناولة إلى مرتبة الشريك مع القطاع العمومي. مع هذا التقرير بدأت ملامح مشروع المجلّة الجديدة تتشكّل، ولكن مع بالتزامن مع الثّورة لم تُطرح المسألة من جديد. في 2014، وإثر المصادقة على الدّستور الجديد، تمّ إعداد مسودّة من مشروع مجلّة المياه يتلاءم مع مبادئ الدستور الّذي ينصّ صراحة على الحقّ في الماء. هذه النّسخة بقيت دون المأمول بالنسبة إلى عدد كبير من المنظّمات والجمعيّات على اعتبار أنّها “لا تتوافق مع التصرّف المستدام في الثروة المائية“. ثمّ طُرحت نسخة جديدة في 2017 تمّ نقاشها بين وزارة الفلاحة والنقابة العامّة للمياه ولم تلقَ هي الأخرى ترحيبا من الطّرف النقابي الّذي أبدى مخاوفه من إدراج خصخصة المياه في الفصل 61 من هذا المشروع، إذ ينصّ هذا الفصل على تشجيع الدّولة للشراكة بين القطاعين العام والخاص للتصرّف في الموارد المائية وإدارة المنشآت المائية.
بعد جلسات واجتماعات بين النقابة والطّرف الحكومي تمّ الاستغناء عن نسخة 2017 من مجلّة المياه إلى حين إعداد نسخة تستجيب إلى تطلّعات المنظّمات المختصّة في مجال المياه، ومن ثمّ عُرض مشروع المجلّة الحالي على أنظار البرلمان خلال الدّورة النيابيّة الحاليّة.
أرقام مفزعة عن وضعية المياه في تونس
حسب دراسة نشرها مكتب مؤسسة فريديريش أيبرت الألمانية بتونس من إعداد الخبير في التنمية والتصرّف في الموارد حسين الرحيلي، فإنّ الموارد المائية المُتاحة للفرد تُقدَّر بحوالي 460 متر مكعّب في السنة، في حين يبلغ معدّل الاستهلاك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بـ550 متر مكعّب. وهو معدّل متدنٍّ بالمقارنة مع مستوى الاستهلاك السنوي للفرد الّذي أوصت به منظمة الصحّة العالميّة، والّذي يتراوح بين 700 و900 متر مكعّب سنويّا.
ويُمثّل القطاع الفلاحي أكبر مستهلك للموارد المائيّة، إذ تذكر الدّراسة نفسها أنّ 77% من الموارد المائيّة يحتكرها قطاع الفلاحة، فيما تبلغ نسبة المياه المعدّة للشّرب 13.5%. وتستأثر الصناعة بنسبة 8% والسياحة بـ1.5%. وفي سنة 2016، بلغت نسبة استهلاك المياه المعدّة للشّرب 470 مليون متر مكعّب، في حين ترتفع نسبة الموارد المائية التي يستهلكها القطاع الفلاحي إلى 2.2 مليار متر مكعّب. وفي هذا السياق، يتحدّث الخبير في التنمية المستدامة لنواة عن تأثير الزراعات السقوية المعدّة للتصدير في استنزاف الثروة المائيّة. ففي سنة 2019، بلغت النسبة الجمليّة لإنتاج القوارص 440 ألف طنّ، وبلغت عائدات تصدير البرتقال من نوع “المالطي” 28 مليون دينار. وقد تمّ استعمال 320 مليون متر مكعّب من المياه لإنتاج هذه الكميّة بلغت كلفتها 400 مليون دينار. وحسب الخبير في التنمية فإنّ كميّة الماء هذه كان بالإمكان استخدامها لتوفير احتياجاتنا من الحبوب بنسبة 20%، وتكون موجّهة للاستهلاك المحلّي لتحقيق الأمن الغذائي.
كما أنّ عديد الصناعات الأخرى تستهلك موارد مائيّة ضخمة، مثل صناعة النسيج بمنطقة المنستير، ومغاسل الفسفاط بمنطقة الحوض المنجمي بالجنوب الغربي التونسي. وحسب أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة، فإنّ صناعة النسيج والأدبغة تتطلّب كمّيات كبيرة من الماء لتنظيف القماش تُقدّر بـ12 حوضا للمياه. وتنتج المنستير لوحدها 9 مليون سروالا في السّنة يستهلك الواحد منها 55 لترا. حسابيّا، يتطلّب إنتاج 9 ملايين سروال “دجينز” 495 ألف متر مكعّب في السّنة.
أمّا عن الأنشطة بالحوض المنجمي، فإنّ الطنّ الواحد من الفسفاط الخامّ يتطلّب ما بين مليون ومليون ونصف متر مكعّب من الماء لغسلة وتصفيته. ما يعني أنّ المعدّل الجملي الّذي تنتجه البلاد التونسية سنويّا من الفسفاط والمُقدّر بـ12.5 مليون طنّا يتطلّب كميّة تتراوح بين 18 و20 مليون متر مكعّب في السنة.
“الحراك المائي” في تونس
رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة 40 احتجاجا خلال شهر جويلية 2018 عبر مختلف الجهات تتوزّع بين تنديد بانقطاع مياه الشّرب ومطالبة بتوفير مياه الرّي في مناطق الغراسات السقويّة، أو احتجاج على نوعيّة مياه الشّرب. في الثلاثي الأوّل من سنة 2021 تمّ الإبلاغ عن 497 مشكلة في توزيع الماء، في حين بلغ عدد التبليغات 1345 سنة 2020 وفق المرصد التونسي للمياه، الّذي يذكر أنّ جهة القيروان تتصدّر قائمة الاحتجاجات المائيّة بـ75 تحرّك خلال 2020، بالتزامن مع جائحة كورونا الّتي كشفت عن واقع المياه في تونس. خلال استئناف الدروس في سبتمبر 2020، أعلن وزير التربية أنّ 461 مدرسة ابتدائيّة لا يتوفّر بها الماء الصالح للشراب، في وقت يُفترض فيه توفير شروط النّظافة والتعقيم للحدّ من انتشار الوباء. هذا بالإضافة إلى تراجع نسبة التساقطات بنسبة 28% وانخفاض احتياطي الماء بنسبة 25% منذ 2016 وفق دراسة نشرها المنتدى. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ 29.7% من مياه الصّرف الصحّي لا يتمّ تطهيرها وإعادة استخدامها، مثلما بيّنه مكتب تونس لمؤسّسة هنريش بول الألمانية في دراسة أعدّها حول مشروع مجلّة المياه الجديد. كما تُبيّن الدراسة ذاتها تراجع قدرة السّدود على تعبئة المياه، حيث تضيع سنويّا كميّة تصل إلى 24 مليون متر مكعّب بسبب غياب الصيانة.
هذه المشاكل تؤكّد ضرورة التفكير في طريقة تعتمد توزيعا عادلا للمياه بين مختلف المناطق. ونظرا لتفاقم المشكل تمّ التفكير في إطار قانوني جديد لحوكمة المياه في تونس بشكل يضمن نفاذا عادلا لهذا الثروة والتعاطي مع المسألة من النّاحية الاجتماعيّة وليس فقط بمنظور اقتصادي.
الإطار القانوني المنظّم لقطاع المياه في تونس
يخضع قطاع المياه في تنظيمه إلى مجلّة المياه الصادرة سنة 1975. سعت هذه المجلّة إلى تجميع كلّ النصوص القانونية السابقة لها ضمن إطار قانوني موحّد، ومن أبرزها الأمر المؤرّخ 24 في سبتمبر 1885 الّذي يعرّف الملك العمومي للمياه، والأمر الصادر في 24 ماي 1920 المتعلّق ببعث صندوق للزّراعة والصناعة وإنشاء لجنة المياه، إلى جانب الأمر المؤرّخ في 5 أوت 1933 المتعلّق بنظام حفظ واستعمال المياه التابعة للملك العمومي.
ومن أهمّ النقاط الّتي جاءت بها المجلّة هي تحديد مسألة الملك العمومي للمياه الّذي ينحصر في المياه السطحيّة والجوفيّة مثل مجاري المياه ومياه الأودية وطبقات الماء بباطن الأرض والعيون والبحيرات والسّباخ وغير ذلك. وقد تمّ تنقيح مجلّة المياه بالقانون الصّادر في 26 نوفمبر 2001 الّذي ينصّ على أنّ الماء ثروة وطنيّة يجب حمايتها واستعمالها بطريقة تضمن الاستجابة المستديمة إلى كافّة احتياجات المواطنين. ونظرا إلى الاستحقاقات البيئيّة الجديدة وتزايد الحاجة لاستهلاك المياه في إنتاج الموادّ الفلاحية والصناعيّة والطاقيّة وارتفاع نسبة الضّغط المائي، سعت الدّولة إلى إعداد إطار قانوني جديد يُنظّم قطاع الماء في تونس بطريقة تضمن تكافؤ الفرص بين مختلف فئات المجتمع مع مراعاة الجانب البيئي وندرة المياه.
أمّا مشروع المجلّة الحالي فقد تعرّض إلى مبادئ ومفاهيم لم تكن واردة بمجلّة 1975، مثل الحقّ في النفاذ للمعلومة في مجال المياه والتنصيص على اعتماد مقاربة تحترم مبادئ التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة في التصرّف في الموارد المائيّة، بالإضافة إلى دعم اللامركزية والتوازن بين الجهات.
iThere are no comments
Add yours