أقرّ رئيس الجمهورية قيس سعيد عند زيارته لمركز التلقيح بالمنيهلة، يوم الاثنين 12 جويلية، بوجود من “تلاعب باللقاحات أو يحسبها بحسابات السياسة”. تصريح سعيد له دلالات كبيرة خصوصا وأنه يصدر عن مؤسسة الرئاسة.

إتلاف التلاقيح

رئيس الجمهورية لم يكن الوحيد الذي شكك في منظومة التلاقيح “إيفاكس”، سبقه في ذلك الدكتور فوزي عداد أستاذ في أمراض القلب في مستشفى عبد الرحمان مامي بأريانة الذي لم يشكك فقط في منظومة “إيفاكس” بل اعتبرها “أكبر غلطة”، وفق توصيفه، و”لا تمكن من تسريع عملية التلقيح”. إلا أنه لم يتوقف عند هذا الحد في نقد منظومة “إيفاكس” بل  كشف عن جريمة ترتكبها هذه المنظومة في حق التونسيين عندما تحدث عن “وجود كميات (لقاحات) تُتلف يوميا لأنه لا يتم استغلالها لتلقيح فئات أخرى غير مسجلة في المنظومة”، وفق ما ورد في تصريحاته لإذاعة شمس إف إم، بتاريخ 5 جويلية.

الدكتور العداد لم يذكر عدد الجرعات التي يتم إتلافها يوميا بسبب تجاوز آجال صلاحيتها ولم يوضح الأسباب بشكل جيد إن كانت أسباب تقنية لوجستية تتعلق بتباطؤ نسق التلقيح أم لأسباب سياسية مثلما أشار  لذلك رئيس الجمهورية قيس سعيد. “نواة” اتصلت به لسؤاله وكانت الإجابة بأنه “ليس بالشخص المناسب”، وبأنه لم يقل ما ورد على لسانه على إذاعة شمس. عند الاشارة لتصريحه على الإذاعة المعنية، عدّل إجابته وقال “ممكن قلت إتلاف كميات صغيرة، لا أعرف”، ثم أنهى بكلامه بأنه “لا يستطيع تقديم معلومات دقيقة” وكرر بأنه “ليس بالشخص المناسب” للإجابة عن هذا الموضوع.

تراجع غريب للدكتور عداد، وهو مؤشر على وجود أمر مريب في ملف التلاقيح لا تريد وزارة الصحة توضيحه خصوصا وأنها لم تصدر بلاغا أو توضيحا حول تصريحات عداد مثلما فعلت سابقا مع تصريحات رئيس هيئة مكافحة الفساد، عماد بوخريص الذي كشف بدوره عن وجود ملف فساد يتعلق بإتلاف 20 ألف جرعة من لقاح أسترازينيكا.

حتى عندما اتصلت “نواة” بأعضاء من اللجنة العلمية من بينهم إيناس العيادي مستشارة وزير الصحة المكلفة بحملة التلقيح وأحلام قزارة مديرة إدارة الرعاية الصحية الأساسية مكلفة بحملة التلقيح كذلك، رفضتا الإجابة عن أسئلتنا وطلبتا منا التواصل أولا مع مصلحة الإعلام في وزارة الصحة. وباءت محاولاتنا الإتصال بالمكلف بالإعلام بالوزارة بالفشل.

الضعف الاتصالي الذي بلغ حد التعتيم والتغطية على الملف لن يكون في صالح إصلاح منظومة “إيفاكس” وتطويرها بطريقة تضمن العدالة والمساواة لجميع المواطنين أمام التلقيح بل يثير الريبة ويعزز وجود شبهات فساد وتسييس هذا الملف.

إهمال و إستهتار

إلى ذلك، لعب إهمال الصيانة وغياب الدعم اللوجستي والاستراتيجي للبنية التحتية الصحية دورا خطيرا في تفاقم الوضع الصحي وتعطل آلية التلقيح “إيفاكس” عن تحقيق أهدافها. فبعد انقطاع التيار الكهربائي في القيروان والأضرار التي تسبب بها لصحة المواطنين من مرضى كورونا، عرفت ولاية توزر يوم 2 جويلية حادثة مشابهة تتمثل في انقطاع التيار الكهربائي بالمراكز الصحية المخصصة للتلقيح عقبها تعطل المولدات الكهربائية الاحتياطية، مما أثر سلباً على عمليّة التلقيح بسبب عدم صلوحية 1634 جرعة، بحسب  شهادة رئيس مصلحة الإعلام والبرامج الصحية بالإدارة الجهوية للصحة بتوزر، فؤاد براني.

من جانبه، اعتبر الدكتور أنيس قلوز، الأستاذ في علم الأدوية بكلية الطب في تونس وعضو الحملة الوطنية للتلاقيح، أن ما حدث من في ولاية توزر من إتلاف التلاقيح هو “أمر عادي ووارد في ميدان الدواء”، مستهتراً بأن 1634 جرعة تلقيح تساوي مثلها من أرواح مواطنين كان يمكن إنقاذها، خصوصا وأن تونس في حالة استنفار صحي قصوى باقتراب الحصيلة اليومية للوفيات من 200 ضحية، وقلة عدد التلاقيح المتوفرة.

شبهات فساد

في ذات السياق، لا تزال قضية الــ20 ألف جرعة من لقاح أسترازينيكا منتهية الصلاحية في 31 ماي 2021، والتي نبه إليها عماد بوخريص الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفاسد، يلفها الغموض ما عدى بيان يتيم وتصريح لوزير الصحة فوزي مهدي، يكرر فيه ما جاء في البيان، حيث نفى صحة  تصريحات رئيس هيئة مكافحة الفساد، مشيرا إلى وجود 190 جرعة تلقيح ضد كورونا انتهى أجل استعمالها وتم إتلافها.

وجاء في بيان الوزارة بتاريخ 9 جوان 2021، أن “في نطاق منظومة كوفاكس، تسلّمت وزارة الصحة 98400 جرعة من تلقيح أسترازينيكا كدفعة أولى و158360 كدفعة ثانية من نفس اللقاح تمّ استغلالها في آجالها ما عدى 19 علبة لقاح تحتوي على 190 جرعة منتهية الصلوحيّة وهو ما يعادل 0.19% من نسبة التلاقيح لم يتم استعمالها”، ولم يحدد الوزير الفترة التي قضتها التلاقيح مخزنة في برادات مصالح وزارة الصحة إلى حدود انتهاء صلاحيتها، وهو تاريخ 31 ماي 2021 حسب ملف هيئة مكافحة الفساد، وما إذا كان السبب في ذلك التباطؤ في استغلالها أو حادث تقني أو لوجيستي.

وعود كاذبة

عند سؤاله عن خطة الحكومة في التعامل مع ملف التلاقيح بتاريخ 5 جانفي 2021، قال رئيس الحكومة هشام المشيشي “أنا شخصيا نزلت بكل ثقلي لتنخرط تونس في منظومة “كوفاكس” وبأن التلاقيح ستكون متوفرة في تونس في منتصف شهر فيفري أو قبل ذلك التاريخ، اعتمادا على منظومة إيفاكس وعقد مباشر مع الشركة الأمريكية المصنعة للقاح بفايزر. ولكن التلاقيح لم تكن متوفرة لا في شهر فيفري ولا قبله مثلما وعد بذلك رئيس الحكومة، وإنما وصلت أولى جرعات التلاقيح في شهر مارس 2021 وبدأت حملة التلقيح فعليا في 12 مارس بكميات قليلة وصل عددها 323600 جرعة وبوتيرة تلقيح بطيئة جدا، فقط 60239 شخصا تلقوا لقاحاتهم مع نهاية شهر مارس بوتيرة يومية تقدر بـ3012 تلقيح أغلبهم من قطاع الصحة، ما يعني أن تلقيح 6 ملايين تونسي لتحقيق المناعة الجماعية يتطلب 1992 يوم عمل، أي 5 سنوات و5 أشهر و17 يوميا، دون احتساب أيام العطل والإجازات.

إلى ذلك، لم تخلو تصريحات مدير معهد باستور، هاشمي الوزير، من التناقضات حول ملف توريد التلاقيح وتعميمه على جميع المواطنين، فقد قال في تصريح صحفي لموقع سكاي نيوز عربية بتاريخ 5 ديسمبر 2020 أن وزارة الصحة التزمت مع مختبر دولي معروف من أجل الحصول على 6 ملايين جرعة من اللقاح المضاد للفيروس، وأشار إلى أن اللقاحات من المقرر أن تصل للبلاد خلال شهري أفريل أو ماي من عام 2021، وسيستفيد منها 3 ملايين تونسي، على اعتبار أن التلقيح يتم على جرعتين.

لكن مر شهري أفريل وماي دون أن تصل لتونس هذه الملايين الستة من اللقاحات، ولم تذهب تونس بعيدا في عقد الشراء وبقي الاتفاق حبيس مرحلته المبدئية، وهذا تضليل آخر صادر عن رأس مؤسسة صحية عمومية لها صيتها في تونس.

كان بإمكان الدولة التونسية تفادي الكارثة لو خصصت نسبة من ميزانية الدولة لشراء اللقاحات منذ الوهلة الأولى التي أعلنت فيها شركات ومخابر الأدوية عن تصنيع التلاقيح مثلما فعلت أغلب دول العالم، وذلك بهدف الكارثة وإنقاذ الأرواح. ثم برمجة ما ستجلبه منظومة كوفاكس كدعم استراتيجي لمجهودها الوطني لتوفير التلاقيح لجميع المواطنين في مختلف جهات الجمهورية خصوصا وأن تكلفة اللقاحات مقدور عليها، إذا أخذنا بعين الاعتبار التزود بلقاح جونسون آند جونسون ثمن الجرعة 10 دولارات، ما يعني دفع 60 مليون دولار (166 مليون دينار تونسي تقريبا) لتوفير اللقاحات لــ6 ملايين تونسي، وهو ما نسبته 0,31%  بالمائة من ميزانية الدولة لسنة 2021، وهو رقم ضئيل مقارنة بقيمة إنقاذ حياة المواطنين التونسيين الذي ينص الدستور التونسي في فصله 38 على أن “الصحة حق لكل انسان” وأنها “تضمن الرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية”.

فشل مظومة “إيفاكس” في توفير التلاقيح اللازمة بعد أن وضعت تونس كل بيضها في سلتها وعدم جدية الحكومة في إبرام عقود شراءات كافية من اللقاحات وتباطؤ وتيرة التلقيح في المراكز المخصصة للغرض، كلها عوامل ساهمت في “انهيار المنظومة الصحية” مثلما أعلنت عن ذلك المتحدثة باسم اللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا، نصاف بن عليه، والارتفاع الدراماتيكي لعدد الوفيات الذي وصل لحدود 200 ضحية يوميا، والانتشار الواسع لهذا الوباء.