المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
صورة لمالك خميري

منذ أن بدأت زيارة تونس في سبتمبر 2011 ـوبينها إقامة امتدت لنحو عامين مراسلا “للأهرام”ـ تعددت رحلاتي إلى سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية وانتفاضات العرب في القرن الحادي والعشرين. ومعظم زيارات سيدي بوزيد جرت في ذكرى 17 ديسمبر، مع أنها كلها تقريبا بمبادرة شخصية، وبدون دعوات رسمية.

من واقع هذه الزيارات ـوقد راجعت مؤخرا ما كتبت عنها منشورا وغير منشور بعدـ أستطيع القول إن أهالي سيدي بوزيد طالما عبروا عن سخطهم على عدم اعتماد الدولة يوم 17 ديسمبر تاريخا للثورة التونسية على نحو يجعل منه عيدا وطنيا وعطلة في عموم البلاد، وليس في الولاية وحدها. ولكن هذا لم يكن عند غالبية أهالى سيدي بوزيد في ظني وبالضرورة بمثابة تنكر لرمزية وأهمية 14 جانفي الذي توج الاحتجاجات على الصعيد الوطني العام بالتظاهر أمام وزارة الداخلية بشارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة، ثم فرار الطاغية الرئيس بن علي.

متظاهر يرفع لافتة تضامناً مع سيدي بوزيد. شارع بورقيبة، 14 جانفي 2011.

زمن الثورة وقابليّة التّأريخ

وياللمفارقة… كان عند أقصى اليمين وأقصى اليسار بين التونسيين اتفاق على مقولة أن الغدر بالثورة ـ ثورة 17 ديسمبر ـ حدث في 14 جانفي. أقصى اليمين من أنصار نظام  بن علي والثورة المضادة طالما روجوا وعلى عكس الشهادات والمجريات، لأن ما جرى في سيدي بوزيد لم يكن يهدف للإطاحة بالرئيس بن علي وتغيير نظامه. بل إلى مجرد إصلاحات ليس إلا، وأن مغادرة بن علي البلاد يوم 14 جانفي لم يكن إلا مؤامرة اشتركت فيها أعمدة من المؤسستين الأمنية والعسكرية، و بدعم من الخارج (أمريكي بالأساس في معظم هذه الروايات). أما أقصى اليسار فقد رأى إعادة انتاج النظام واستمراره في تولّي رئيس حكومة بن علي محمّد الغنوشي فرئيس برلمانه فؤاد المبزع رئاسة البلاد خلال الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية وصولا إلى مسار المجلس التأسيسي الذي وضع دستور جانفي 2014.

لكن هل يمكن اختصار الثورة في حدث واحد مهما كانت أهميته ورمزيته؟ ومن بإمكانه أن يقول بثقة إن الصراع حول التغيير في تونس توقف عند 17 ديسمبر 2010 أو 14 جانفي 2011 ؟ ومن يستطيع تجاهل محطات تالية مهمة، كاعتصامي القصبة 1 و 2 مثلا، وما أسفرت عنه هذه المحطات المتوالية من نتائج يختلف المراقبون في تقييمها؟

وأيضا، وليس أخيرا ولا على سبيل الحصر، هل تسقط من الذاكرة تحركات وضغوط حملة مانيش مسامح في شوارع العاصمة تونس ومختلف المدن ضد التحالف الرجعي لـنداء تونس والنهضة من أجل منع تمرير المصالحة مع رجال نظام بن علي في البرلمان؟

أمام مجلس نواب الشعب. صورة لحمادي لسود، 2018.

17 ديسمبر/14 جانفي: زمنان متناقضان؟

في كل الأحوال، يبدو غريبا اصطناع تصادم وتضاد بين تاريخين في رمزية 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. وعلى الأقل فقد أدى الأول إلى الثاني. مع الأول أحرق محمّد البوعزيزي نفسه، واندلعت على إثر هذا الحدث احتجاجات سيدي بوزيد كمقدمة لامتداد الثورة التونسية إلى ولايات مجاورة ثم إلى مدينة صفاقس مع إعلان الإضراب العام يوم 12 جانفي. ومع الثاني يوم 14 جانفي وصلت الاحتجاجات إلى ذروة مهمة في قلب العاصمة أمام مقر وزارة الداخلية وفر بن علي.

وتزداد الغرابة عندما يتبنى هذا التصادم والتضاد بين التاريخين رئيس دولة كـقيس سعيد قادم عبر انتخابات تعددية حرة، هي إحدى ثمار الثورة. انتخابات رئاسية نادرة في عالمنا العربي أسقط فيها الأستاذ الجامعي الّذي لا يقف وراءه حزب سياسي رئيسَ حكومة (يوسف الشاهد) وقائما بأعمال رئيس برلمان (عبد الفتاح مورو) ووزير دفاع (عبد الكريم الزبيدي)، وصولا الى الجولة الأخيرة الحاسمة للانتخابات بالتغلب على نبيل القروي، رجل الأعمال وصاحب قناة نسمة والمقرب جدا من رئيس حزب نداء تونس، وبالتالي الدولة.

قيس سعيد قبل أن يكون رئيساً. صورة لمحمد علي منصالي، 2016.

المتابع لتطورات الأوضاع في تونس ـخاصة منذ إجراءات الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021ـ  بإمكانه ملاحظة أن بين أبرز وجوه ورموز القوى الداعمة للرجل ولخياره تعطيل البرلمان والدستور وتجميع السلطات بين يديه هم أنفسهم ممن كانوا من داعمي وبين جوقة الدكتاتور زين العابدين بن علي، وممن أطلق عليهم القاموس السياسي للتونسيين المناشدين .وليس هذا وحسب، بل أن هؤلاء عادوا لصناعة طاغية جديد بنفس أساليب صناعة  بن علي وتأمين قبضته الحديدية على البلاد.

في هذا السياق، يلاحظ المراقب ـولو عن بعد من القاهرة والمرة تلو المرة منذ 25 جويليةـ ما حل بنشرات الأخبار الرئيسية للقناة الوطنية الأولى، فيقلقه ما تدهورإليه حال الإعلام العمومي بتونس، والذي ظل يلفت نظري كمراسل من مصر على مدى أعوام بعد الثورة بين الاندهاش والاعجاب والتقدير، وفي مقارنة لا يمكن تجنبها مع الحال البائس لنشرات أخبار تلفزيونات عربية لا تستطيع إلا أن “تنطق باسم النظام “، ولا ترينا كمشاهدين إلا ما يحب أن يراه الحاكم الفرد وأسرته ودوائره اللصيقة.

قيس سعيّد والاستثمار في الزمان والمكان

لعل من مفارقات تقلبات الثورة والثورة المضادة ـكما تقدمها الحالة التونسيةـ أن قيس سعيد يبدو وكأنه أصبح اليوم متناغماً من خلال خطابه الشعبوي مع تيار من الثورة المضادة لا يتورع أن يطلق على ما بعد ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي اسم “العشرية السوداء” ويصف دستور 2014 بأنه الأسوأ في تاريخ تونس والعالم، بل يصف الثورة ذاتها بأنها “مزعومة”.

صحيح أن هناك الكثير من القضايا والظواهر بعد الثورة تتطلب المراجعة والإصلاح والتغيير ومن أجل تحقيق مطالب الثورة ذاتها. ولكن ألا يستحق العمل من أجل هذا مناقشة وحوارا مجتمعيّا جادّا لتقييم ما جرى بسلبياته وإيجابياته، والبحث عن معالجة الأخطاء بآليات الديمقراطية وبمكتسباتها من حقوق وحريات ومؤسسات، والكثير منها في إطار المجتمع المدني؟ وهل يمكن تجاهل ما يلاحظ اليوم من حجم وطبيعة الأحكام المطلقة والتعميمات غير الواقعية أو العلمية وغير المنصفة المصاحبة لحدث وتطورات 25 جويلية، وفي سياق مبالغات متطرفة حد السذاجة؟

هل يخطئ البصر كون أن هذا التيار الذي تقوده شعبوية الرئيس سعيد تتقدمه نخبة يمتزج في صفوفها الأولى رموز عهد بن علي مع قوميين عروبيين طالما دعموا ومازالوا أنظمة حكم دكتاتورية سفكت دماء شعوب عربية أخرى، وأيدوا ومازالوا طغاة كقذافي ليبيا وأسد سورية وصدام العراق. والحبل على الجرار إلى اليوم عند أولئك الذين يجاهدون لإخفاء حقيقة علاقات التبعية الوطيدة لهؤلاء الحكام الطغاة مع مصالح ومراكز النيوليبرالية بتهويمات ورطانة كاذبة مستمدة من نظرية المؤامرة.

ثمة العديد من مفارقات وتقلبات الثورة والثورة المضادة في تونس تصطدم مع ذاكرة مازالت تحتفظ بمشاهد ولحظات الابتهاج الجماعي في ذروته مع الاحتفال بفوز قيس سعيد على نبيل القروي في شارع الحبيب بورقيبة ليلة 14 أكتوبر 2021 بوصفه انتصارا للثورة، وقد شارك في هذه الاحتفالات مناصرو النهضة التي دعت للتصويت إلى جانبه في الجولة الثانية الحاسمة.

تغيّر الخطاب بتغيّر الفاعلين

المتابع يلاحظ -وياللمفارقة أيضا- أنّ من كانوا يتندرون على الثورة التونسية ويقومون بإهانة أهالي سيدي بوزيد بخطاب طبقي وكذا بتجديد حساسيات استعلاء تونس الساحل والتجار والمدن على تونس الأعماق والفلاحين والأرياف مستخدمين عبارات من قبيل “ثورة البرويطة” قد أصبحوا اليوم في مقدمة الحضور الإعلامي الدعائي بين أنصار ومؤيدي قيس سعيد. وفي هذا السياق لا يتورعون عن الترويج لركوب موجة التصادم بين تاريخي 17 ديسمبر و14  جانفي والعزف على نغمة قرار قيس سعيد.

سيدي بوزيد وظل البوعزيزي. تصوير كارم يحيى

في 21 سبتمبر 2021، ذهب قيس سعيد ليلا إلى سيدي بوزيد، قبل ساعات من إعلان الأمر الرئاسي 117 الذي منح بمقتضاه لنفسه سلطة التشريع إلى جانب السلطة التنفيذية كاملة وصادر بموجبه رقابة محتملة على العدوان على دستور 2014 وتعطيله، وذلك بإلغاء وحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. وهناك ألقى كلمة مشحونة بالعنف اللفظي ضد معارضيه بلغت حد وصف من خرجوا قبل ساعات للاحتجاج أمام المسرح البلدي بالعاصمة بـ “المخمورين”، وفي خطاب موجه لجمهور محافظ متخيل عنده. ويلفت النظر في هذا المشهد هتاف من خطب فيهم من أهالى سيدي بوزيد بعبارتين غلابتين هما : “الشعب معاك يا رئيس” و “حلّ البرلمان” .

بالطبع هذا مشهد مخالف تماما لما وقع في الذكرى الثانية ل17 من ديسمبر (في عام 2012) مع زيارة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر حيث جرى استقبالهما برشق بالحجارة على تواضع ما تمتعا به من سلطات وصلاحيات مقارنة بالرئيس قيس سعيد. وقد جرى تفسير الحدث حينها بسرعة نفاد صبر أهالى سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية من عدم تحسن أحوالهم المعيشية واستمرار تهميش جهتهم وولايتهم بين المناطق الداخلية الأقل حظا طوال عهدي الاستعمار والاستقلال وما بعد الثورة… أي بالسخط على الغدر بشعارات الثورة الاجتماعية.

سيدي بوزيد بين “التجمّع” و”رموز الثورة”

لكن في تفسير هذه التناقضات والتحولات يتعين أن نأخذ في الاعتبار أمرين قد يغيبان عمّن لم يكترث كثيرا بسيدي بوزيد وزيارتها وبنسج علاقات مع أهلها خارج التوظيف السياسي المباشر:

الأول أن هذه الولاية بكل رمزيتها التاريخية في انتفاضات التونسيين وعند دعاة التغيير في المنطقة العربية سجلت قبل 17 ديسمبر 2010 أعلى معدلات الانخراط أو الانضمام لعضوية حزب الدكتاتور بن علي. ووفق تقديرات من الولاية نفسها فقد كان الانخراط مذهلا، و بنسبة تقارب النصف بين تعداد سكان الولاية، بما في ذلك الأطفال. وهذا مقارنة بمتوسط عام للانخراط في الحزب الحاكم بعموم الجمهورية التونسية يبلغ 02%. وهناك تفسيرات عدة لهذا الأمر يتقدمها الأمل بين الأكثر فقرا وتهميشا في “فتات السلطة” .

والأمر الثاني أن الولاية التي ظلت تسجل على مدى الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة (تشريعية ورئاسية وبلدية) أدنى معدلات المشاركة ظلت تقدم استحقاقا وراء استحقاق نموذجا في التصويت المحافظ. وبدا وكأنها تضن بأصواتها على رموز الثورة هناك. وهذا بداية من التأسيسي حيث منحت المرتبة الأولى وبنسبة 35% من الأصوات الصحيحة لقائمة العريضة الشعبية برئاسة الهاشمي الحامدي، ثم ثانيا النهضة بنسبة %19,6 من هذه الأصوات. وما من استحقاق زرت في أعقابه سيدي بوزيد إلا واستمعت الى تأثير ماكينة التجمع الانتخابية وقوتها، إلى جانب ماكينة النهضة.

صباح 17 ديسمبر 2017 في سيدي بوزيد. تصوير كارم يحيى

بحلول 17 ديسمبر الماضي، تراجع  الرئيس قيس سعيد عن زيارة سيدي بوزيد، دون إعلان رسمي يوضح : لماذا؟ وربما أصبح مؤكدا عند المحيطين برئيس الدولة بأن “الأوضاع غير مضمونة” في سيدي بوزيد، خصوصا مع تجدد الاحتجاجات الاجتماعية يومها في ولاية القصرين المجاورة وعدد من الأحياء الشعبية بالعاصمة لشباب وصبية غاضبين على التنكر لمصائرهم المعيشية مع علاقة ظلت غير ودية مع قوات الأمن.

لا شكّ أنها حسابات معقدة وغير مضمونة. والأهم -وعلى المدى الأبعد- أنها تحيل إلى سؤال مستقبل يتعلق بكيف ستتصرف البيروقراطية العليا ومعها آلة الضبط والقمع المنتسبة لدولة قيس سعيد مع موجة احتجاجات اجتماعية كبيرة في الأفق، وبعدما بدا وكأنّ الحاكم الفرد الجديد قد وطد تحالفاته داخل مؤسسات الدولة مع القوى غير الديمقراطية والمنفلته من ضوابط أي دستور وقانون. وأيضا أي اعتبارات للبحث عن توافق أو حوار؟ فضلا عن مغازلة الرئيس للميول السلطوية لهذه القوى تجاه المعارضة على نحو خاص، بل والمجتمع عموما.

في تونس اليوم حيث تتداخل الخطوط على أرض المعارك الأيديولوجية والسياسية وتتخذ ملامح عديدة ـلا يخطئها مراقب ولو عن بعدـ لزواج بين قوى ورموز نظام ماقبل الثورة وبين شعبوية قيس سعيد التي ولدت ونمت وتوحشت بفضل إخفاقات التنكر للمطالب الاجتماعية للثورة. ويكفي الإشارة إلى زيادة معدلات البطالة من %13 في 2010 عشية الثورة إلى ما يفوق %18 اليوم. ولعل أحد تجليات الموجة الجديدة من الثورة المضادة التي يقف الرئيس قيس سعيد على رأسها باتجاه إعادة انتاج نظام حكم الفرد والبوليس واستعادة “هيبة الدولة” هو اصطناع هذا التناقض والتصادم بين تاريخي 17 ديسمبر و 14 جانفي. ويخال المرء أن تونس في هذا السياق تقدم نموذجا لتحولات وتناقضات الثورة والثورة المضادة .

حقا كان تاريخ 17 ديسمبر متجاوزا ـومنذ البدايةـ لسيدي بوزيد إلى عموم تونس و فضاء المنطقة والعالم بأسره. ولم يكن هذا التجاوز ممكنا لولا الوصول إلى يوم خلع الرئيس بن علي وفراره. لكن هكذا تجرى تحولات وتلونات الثورة المضادة.. أو على الأدق هذا هو بعض من جدل الثورة والثورة المضادة.