وهاهي الحرب تكتب قصصا مشابهة لحكاية أيوهان موريتز في رحلته من “فانتانا”، قصة إيهاب مرابط في “خيركوف” ورائد الديماسي في  “أوديسا” وعبد الله دغاني في “روبيجني” في أقصى شرق أوكرانيا. هم ثلاثة تونسيون غادر اثنان منهما تونس للزواج والآخر للدراسة، وحاصرتهم الحرب، فاختار كل واحد منهم رحلته التي قد تكون الأخيرة.

الرحلة الأولى: صبيحة السكاكين الطويلة

يشق القطار، الذي ينطلق في ساعة غير معلومة من “خيركوف” المحاذية للحدود مع روسيا شرقا، وأحد الأهداف التي قصفها الجيش الروسي بكثافة، شطر أوكرانيا متجها نحو “لفيف” على الحد الأوكراني الغربي مع بولونيا، وقبل بلوغ المدينة الحدودية التي أصبحت مهرب اللاجئين، يخوض راكبه رحلة لا يعلم من سينهيها، فالرحلة ستدوم أكثر من  15ساعة، تحاذي مسارَها شمالا وجنوبا مدنٌ تشهد معارك وقصفا ضاريا، وهي بالأساس العاصمة كييف إحدى المحطات غير الآمنة لتلك الرحلة ولوتسك شمالا وإيفانو فرانكيفسك جنوبا.

في 3مارس، انطلق إيهاب مرابط، تونسي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، من منزله نحو محطة القطار  بخيركوف مسقط رأسه، في رحلة جديدة خصصتها أوكرانيا لخروج المدنيين نحو لفيف ثم رومانيا. بدا صوته متعبا وكان أول قوله “خرجت من خيركوف بعد أن أصبحت المدينة هدفا للقصف وتركت زوجتي وابني هناك ولا أدري ما مصيرهما”.

إيهاب مرابط

يروي إيهاب رحلة هروبه من القصف بعد أن شاهد  منزل أخيه وقد سُوي بالأرض إثر سقوط قذيفة عليه. يقول لنواة:

بحثت عن سبيل لرحلة عبر الحافلة لكنّ ذلك كان مستحيلا، فتوجهت إلى محطة القطار، كانت هناك صفوف مرتبة وكانت تفصلني عن باب العربة مسافة قصيرة قطعتها في ست ساعات كاملة. لم يثنني الجمع الرهيب من الأشخاص الهاربين من جنسيات مختلفة، وانتظرت دوري بصبر وبخوف كبير. شاهدت أشخاصا مسلحين بسكاكين يجوبون المحطة ويتمعنون في الملامح، كانوا يوقفون أشخاصا من جنسيات هندية أو من دول إفريقية ويمنعونهم من الصعود إلى القطار. أدركت أن بعض السُّمرة قد تحرمك من رحلة النجاة، فأخفيت وجهي وغطيت رأسي إلى أن وجدت نفسي داخل القطار. روى لي هارب ذو ملامح إفريقية أنه اضطر أن يسلم المسلحين قرابة مائة وخمسين أورو حتى يسمحوا له بالصعود.

قبل عام ونصف تقريبا، شارك أوكرانيون على موقع فايسبوك صورة إيهاب وهو يرفع لافتة كتب عليها باللغة الانقليزية “أبحث عن عمل. أنا  أقبل أي وظيفة كانت”. والآن، وجد الفتى التونسي نفسه اسما ضمن قائمة آلاف الأشخاص ذوي جنسيات مختلفة، يطلبون العون للنجاة. يقول إيهاب

منذ أن بدأت الحرب، أصبح الأوكرانيون يتصرفون بجنون. في إحدى المرات كنت في الشارع صحبة أخي وكان يرتدي معطفا مزيّنا بشعار وصورة نسر، تجمهر حولنا عدد من الأشخاص المسلحين ولكم أحدهم أخي بعد أن صاحت إحدى الأوكرانيات في وجه شقيقي قائلة إنه روسي. لم يصدقوا أننا تونسيون واصطحبنا عشرة منهم إلى منزلي ليتأكدوا وانصرفوا حين اطلعوا على جوازات سفرنا. كان ذلك بسبب صورة النسر على معطف أخي.

قضى إيهاب أكثر من خمسة عشر ساعة في القطار، وصل إلى مدينة لفيف ليلا، وكان عليه أن يمتطي قطارا آخر للتوجه إلى الحدود  البولونية. كان خائفا من أن تتوقف رحلته في “لفيف” وألا يتمكن من العبور إلى بولونيا لأنه لا يملك مالا. صادفه تونسي، وقدم له بعض المال. كانت الرحلة من “لفيف” إلى الحدود مجانية، لكن إيهاب لم يكن يعلم بذلك، يروي لحظة وصوله :

شعرت ببعض الراحة حين دخلت الحدود البولونية، لم أكن أملك فلسا واحد، ساعدني تونسي وقدّم لي مالا استأجرت غرفة في منزل هناك قرب الحدود بقيمة خمسة أورو واشتريت بعض الأكل والماء.

انتهت رحلة إيهاب في بولونيا، بعد أن استكشف الطريق لزوجته وابنه، حيث سينتظرهما هناك ليخوض رحلة ثانية بحثا عن اللجوء في دولة أخرى.

الرحلة الثانية: عشرون كيلومترا مشيا على الأقدام

في الرابع والعشرين من شهر فيفري الماضي، طلب رئيس الجالية التونسية من رائد الديماسي ومجموعة من التونسيين أن يلزموا منازلهم، بعد ساعات من بدء الحرب في أوكرانيا. تجمّع عدد من الطلاب  التونسيين المقيمين في أوديسا جنوب غرب أوكرانيا، وخططوا للخروج من المدينة نحو مولدوفا. لكنّ مجموعة قالت إنها تتواصل مع وزارة الخارجية أصرّت أن يلازموا منازلهم، وأنه من المتوقع أن ترسل تونس طائرة إلى أوديسا لإجلائهم. تطل مدينة أوديسا على البحر الأسود وتمثل هدفا مهما للصواريخ الروسية بالتوازي مع أهمية كييف، لذلك كان الوقت حاسما للهاربين منها قبل أن تحتدّ المعارك فيها.

يقول رائد الديماسي

جلسنا في الطابق التاسع عشر، كنا  قرابة عشرين تونسيا على الأرض، ونمنا فوجا تلو الآخر، حتى الفجر. استفقنا الخامسة صباحا وظللنا نبحث عن أية معلومة قد تطمئننا: هل نبقى أم نرحل؟ أصبح كلّ شيء موضع شكّ. فأصدقائي السوريون تمكنوا من العبور إلى مولدوفا، فيما قال لنا مسؤولون تونسيّون إن الأمر خطير بسبب وجود ثكنات عسكرية روسية في طريقنا، وكان عليّ أن أقرّر إما الخروج أو البقاء. وفي كلتا الحالتين هي مغامرة خطيرة واخترت الخروج وتبعني عشرون شخصا.

رائد الديماسي

كانت خطة رائد الديماسي هي البحث عن حافلة تُقلّ الهاربين من القصف. واتصل برئيس الجالية الفلسطينية ليوفر لهم حافلة، لكنه طلب منه الانتظار إلى غاية غروب الشمس. يقول رائد لـنواة:

لم أعد أستطيع التركيز وتداخلت الأفكار في رأسي، فأنا أصدّق أي شيء وأخاف من العيش في أوضاع مشابهة. رئيس الجالية التونسية يطلب منا التريث وعدم الخروج من أوديسا، وأصدقائي السوريّون عبروا الحدود إلى مولدوفا وقالوا إنه يجب أن أتحرك فورا قبل أن يكثف الروس القصف. كنت قد قررت في الصباح الباكر الخروج وخفت من الانتظار إلى غاية غروب الشمس فتتأزم الأوضاع أكثر.

كان رائد يعلم جيّدا أن الحصول على وسيلة نقل تقلهم بأمان إلى الحدود الأوكرانية المولدوفية لن يكون سهلا إلا ببعض الوساطة، لذلك التجأ إلى كلية الطب التي يدرس بها في أوديسا، فوفرت لهم سيارات تاكسي، بسعر مائة وخمسين دولارا للسيارة الواحدة. بدا أن رحلة المجموعة ستكون سهلة، لكن السيارات التي أقلت الهاربين توقفت قبل عشرين كيلومترا من نقطة الحدود الفاصلة بين أوكرانيا ومولدوفا، وكان لا بد من النزول والمواصلة، فلا مجال للعودة.  يقول رائد :

لم نكن نملك قطرة ماء واحدة، لكن كان علينا المواصلة. سرنا بخوف كبير، لا نعلم ما الذي سنواجهه في الطريق، اعترضتنا دبابات روسية وكان هناك أيضا أوكرانيون مسلّحون. لم نكن نعلم ما الذي سيحدث وفي أية نقطة، فكل همّنا هو الوصول إلى بر آمن من  القصف.

خرجت مجموعة التونسيين من أوديسا في الساعة الثانية ظهرا وساروا في خطوط مجهولة وكان وصولهم في اليوم الموالي في الساعة الثالثة والنصف ظهرا، فقد قضوا يوما كاملا من السير دون نوم أو توقف. لكن عند الوصول بدا أن مولدوفا لم تكن مستعدة للتدفق المبكر للاجئين فطُرحت عليهم مسألة الرجوع إلى أوديسا لأن المعبر الحدودي سيتم إغلاقه، لكنّ مسيرة يوم كامل في البرد والعطش والجوع أثنت رائد وأصدقاءه عن الرجوع إلى أن تحصلوا على استمارات اللجوء حتى يتمكنوا من الدخول إلى الأراضي المولدوفية.

الرحلة من الطابق التاسع إلى الطابق الثاني

منذ سنة ونصف، استقر عبد الله دغاني وهو تونسي في مدينة “روبيجني” في الشرق الأوكراني المحاذي للحدود الروسية والتابع لإقليم “لوغانسك” الذي يسيطر عليه الانفصاليون الأوكرانيون الموالين لروسيا. بقيت “روبنجي” ذات الأغلبية الأوكرانية بين النار والبارود، تنتظر دورها في القصف المدمر لمبانيها. فالمدينة ذات أغلبية أوكرانية، وتحدُّها مدن حُسمت الموالاة فيها إلى روسيا بعد إعلان استقلال الإقليم عن أوكرانيا. أمّا شمالا، فهي تحاذي الحدود الروسية ممّا يجعل الخروج من جهة الغرب مستحيلا، فالتنقل إلى الحدود البولونية يتطلب ستة عشر ساعة عبر القطار. أما رومانيا، فلا يمكن الوصول إليها قبل  15ساعة، كما أن الطريق للوصول إلى الحد يمكن أن يكون مرمى للقذائف والصواريخ من الجهتين. يقول عبد الله لـنواة

روبينجي مدينة محاصرة، وحُكِم علينا عدم الخروج من المدينة، كما أن كل المواصلات قد قطعت وظللنا نتابع مواعيد القطار التي تلغى في كل مرة مثلما نتابع أخبار اقتراب القصف من مدينتنا.

عبد الله دغاني

خاض عبد الله دغاني رحلة هي أقصر بكثير من رحلتي إيهاب ورائد، لكنها قد تكون الأخطر. فقد كان يسكن في  شقة في الطابق التاسع صحبة زوجته وابنيها، وفي إحدى المرات بعد أن انطلقت صافرات الإنذار في المدينة، هرب عبد الله صحبة عائلته إلى ملجأ حيث التقى بامرأة تبرعت لهما بشقة في الطابق الثاني حتى يكونا في مأمن من الصواريخ والقذائف. حينها حزم عبد الله حقائبه و”نزح” إلى الطابق الثاني بعد أن استحال عليه الخروج. يقول :

يتطلب الخروج من مدينتنا رخصة، وأحيانا لا يمكن الحصول عليها. أعتقد أنهم يريدون أن نبقى في المدينة حتى نكون دروعا بشرية.

لا يوجد في المدينة تونسيون أو على الأقل لا يعرف عبد الله أحدا هناك، لذلك فهو يعيش في حصار مضاعف، ويعيش في وضعية مجهولة. يخشى عبد الله الخروج من مدينة بعد أن راجت أخبار عن قصف القطار الوحيد الذي يربط “روبينجي” بالعاصمة “كييف”، ويخشى أن يغامر ويشق الحدود الروسية، فيتم احتجاز زوجته. فهي كما قال “مناهضة للوجود الروسي وتعبر عن رأيها بجرأة في موقع فايسبوك، وتصر على البقاء في المدينة بعد أن نبهتهم ابنة الجيران من أن الروس فتشوا هواتفهم عند عبورهم الحدود الشرقية”.

منذ أكثر من أسبوع، حزم عبد الله وعائلته أمتعتهم، ينتظرون فرصة للخروج، بعد أن استحالت فرصة قيامهم برحلة طويلة محفوفة بالمخاطر لكنها قد تكون أكثر أمانا من البقاء في مدينة تحيط بها الفخاخ.