يهدف الصلح الجزائي إلى إلغاء العقوبات الزجرية في حقّ مرتكبي الجرائم الاقتصادية والمالية وتعويضها بإعادة استخدام هذه المبالغ وتوظيفها في استثمارات ومشاريع تنموية بالجهات. وعلى عكس مشاريع القوانين الّتي يصادق عليها البرلمان، فإنّ هذا المرسوم قد أصبح نافذا منذ صدوره بالرائد الرسمي يوم 20 مارس 2022 في ظل غياب مؤسسات ديمقراطية تمارس صلاحية الطعن في المبادرات التشريعية، خصوصا مع إلغاء الهيئة الوقتية بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 117. ويُمثّل الصلح الجزائي حلما لقيس سعيّد طالما عبّر عن نيّته في جعله حقيقة في مناسبات متواترة
هناك أموال كثيرة، ولكن هناك توزيع غير عادل لها. في سنة 2012، من مصدر حكومي، المبلغ الذي كان مطلوبا من الأشخاص المتورطين في الفساد يتراوح بين 10 آلاف مليار و13 ألفا و500 مليار، اموالهم في البنوك. لماذا لا تعود هذه الأموال إلى الشعب التونسي؟ […] وكنت في ذلك الوقت اقترحت […] على عدد من أعضاء المجلس التأسيسي الصلح الجزائي مع هؤلاء (يقصد رجال الأعمال المتورطين في جرائم مالية) […] كانوا 460، وعدد المعتمديّات 265. وقلت يتمّ ترتيبهم من الأعلى إلى الأسفل، من الأكثر تورّطا إلى الأقلّ تورّطا، ويتمّ ترتيب المعتمديّات ترتيبا تنازليّا أيضا من الأكثر فقرا إلى الأقلّ فقرا وتحت إشراف لجنة جهوية تتولّى التنسيق والرقابة […]
الرئيس قيس سعيد، اجتماع مجلس الأمن القومي، 31 مارس 2020
“مصالحة” جديدة في سياق مختلف
ينصّ الفصل الرابع من باب الأحكام العامّة لمرسوم الصلح الجزائي على “تحقيق المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي”، من خلال تطهير الوضعية القانونية للمُصالح. وفي تفصيل الآثار القانونيّة لهذا الإجراء، تسقط التتبّعات والعقوبات ضدّ مرتكبي الجرائم الاقتصاديّة والماليّة. هذه الإجراءات تكاد تكون مُستنسَخة من مشروع قانون المصالحة في المجالين الاقتصادي والمالي الّذي اقترحه رئيس الجمهوريّة الأسبق الباجي قائد السبسي، وهو في ظاهره “طيّ لصفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية”، وفي باطنه التفاف على هذا المسار الّذي يمرّ ضرورة بخمس مراحل، تبدأ بكشف الحقيقة وحفظ الذاكرة، ثمّ المساءلة والمحاسبة، فجبر الضّرر وردّ الاعتبار ثمّ إصلاح المؤسّسات، وصولا إلى المصالحة الوطنيّة الشاملة.
يختلف سياق المبادرتين، ولكن في كلتا الحالتَين نحن إزاء مصالحة لها نفس الأهداف ويتمّ الدّفاع عنها بنفس الحجج. وأنا حذرة جدّا إزاء هذا الصّلح،
تقول سمر التليلي، مناضلة في حراك “مانيش مسامح” لنواة.
عمليّا، يتمثّل الصلح الجزائي في إبرام صلح مع الدّولة عن الجرائم الماليّة والاقتصادية المُرتَكبة قبل سنة 2011 إلى حدود 20 مارس 2022، تاريخ صدور المرسوم، تسقط بمقتضاه التتبعات الجزائيّة، مقابل دفع مبالغ تعويضيّة تُخصَّص لإحداث مشاريع بالجهات حسب قاعدة التمييز الإيجابي. وتوزّع عائدات المشاريع بين المعتمديّات بنسبة 80%، وتُصرف الـ20% المتبقّية لفائدة الجماعات المحليّة كمساهمات في رأس مال المؤسسات المحليّة، الّتي يمكن أن تتّخذ شكل شركات أهليّة.
تتّصل الجرائم الاقتصاديّة بالمال العام أو ملك الدّولة، إلى جانب جرائم الصرف والجباية والرّشوة وغسيل الأموال، على عكس مشروع قانون المصالحة الّذي استثنى الرّشوة والاستيلاء على الأموال العموميّة من مجال العفو. كما يتعهّد مرسوم قيس سعيّد باستبدال المسار العقابي للجرائم ذات الطابع الاقتصادي بدفع مبالغ ماليّة لتعويض الخسائر الناتجة عن نهب المال العام، تساوي قيمة الضّرر المترتّب عن الجريمة الاقتصاديّة، تُضاف إليه نسبة 10% عن كلّ سنة من حصول ذلك، فيما نصّ مشروع قانون المصالحة على دفع قيمة الأموال تُضاف إليها نسبة 5% عن كلّ سنة.
وينصّ المرسوم على إحداث لجنة صلب رئاسة الجمهوريّة تتكوّن من 8 أعضاء من بينهم قضاة وأعضاء عن هيئات الرقابة الماليّة، تتعهّد بالنظر في ملفّات الصلح إمّا تلقائيّا أو بناء على طلب المعني بالصّلح، يُعيّن أعضاؤها بأمر رئاسي وتُصرف لهم منحة شهريّة تُضاف إلى رواتبهم الأصليّة. فيما نصّ مشروع قانون المصالحة على لجنة تُحدث صلب رئاسة الحكومة تتكوّن من ممثّلين عن وزارات وعن هيئة الحقيقة والكرامة. ويخضع أعضاء اللجنتين إلى واجب التصريح بالمكاسب.
اللجنة المُحدثة صلب رئاسة الجمهورية ليست هيئة قضائيّة ولا تخضع إلى مبدأ التقاضي على درجتين المنصوص عليه بالدّستور. وهو أمر غريب ومخيف في الوقت ذاته،
أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي في تصريح لنواة.
تتولّى هذه اللجنة البتّ في مطالب الصّلح الجزائي في ظرف أربعة أشهر، ويتمّ فتح حساب بخزينة الدّولة تحت مسمّى “حساب عائدات الصّلح الجزائي لتمويل المشاريع التنمويّة” يُخصَّص لتمويل مشاريع تنمويّة. وتُحدث لجنة صلب الوزارة المكلّفة بالاقتصاد إحداث لجنة متابعة تنفيذ اتّفاقيّات الصّلح وإنجاز المشاريع بالجهات، تتكوّن من تسعة أعضاء تتمّ تسميتهم بمقتضى أمر رئاسي وتُسند لهم منحة شهريّة، وتقوم بالتنسيق مع اللجان الجهوية لمتابعة وتنسيق المشاريع المُحدثة أيضا بهذا المرسوم، ودراسة المشاريع المُقتَرحة من المتساكنين حسب كلّ ولاية.
“ليس هناك أيّ داع للصلح الجزائي في الوقت الرّاهن. ليس هذا ما نحتاج إليه الآن. بإمكان القضاء العادي أن ينظر في قضايا العفو الجبائي وغير ذلك”، تُصرّح المناضلة سمر التليلي لنواة. وتضيف: “لا يمكن الانطلاق في دراسة المشاريع دون احتساب كلفتها بشكل دقيق. نحن لا نعرف من هم رجال الأعمال المعنيّون بهذا المرسوم، وكيف سيتمّ إجبارهم على المساهمة في إنجاز مشاريع. هذا التمشّي عشوائي”. كما عبّرت الأستاذة سلسبيل القليبي عن وجود نصوص قانونية تنظّم المادّة الجبائيّة، في إشارة ضمنيّة إلى عدم جدوى مرسوم الصلح الجزائي.
تساؤلات يفرضها المرسوم ولا يجيب عنها
أمّا بخصوص التقاطعات الحاصلة بين مسار العدالة الانتقالية والصلح الجزائي، فإنّ الصورة لا تبدو واضحة: فمن ناحية، أحدث قانون العدالة الانتقالية دوائر قضائيّة مختصّة في القضايا المتعلّقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من بينها “الانتهاكات المتعلقة بتزوير الانتخابات وبالفساد المالي والاعتداء على المال العام”، وفق ما ينصّ عليه الفصل 8 من القانون. كما تعهّدت هيئة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة بالنظر في مطالب الصلح المالي.
هناك أربعة أشخاص فقط استفادوا من إجراء التحكيم والمصالحة، من بينهم عماد الطرابلسي وسليم شيبوب. أمّا القضايا الأخرى فمازالت إلى الآن معروضة أمام القضاء المختصّ في العدالة الانتقاليّة،
يُفسّر المحامي والقاضي الإداري السابق أحمد صواب لـنواة.
وتعقيبا على ما قال، تذكّر الأستاذة القليبي أنّ منظومة العدالة الانتقاليّة والآليّات الّتي نصّت عليها لا يمكن أن يُقبل فيها الدفع بعدم رجعيّة القانون وفق ما تنصّ عليه الأحكام الانتقاليّة من دستور 2014، ما يعني ضمنيّا أنّ إجراءات العدالة الانتقاليّة لا يمكن تعويضها بإجراءات أخرى.
كما تتقاطع الفترة المعنيّة بالصلح الجزائي مع الفترة الّتي تدخل ضمن مسار العدالة الانتقاليّة. حيث حُدّدت الأولى من 2011 إلى 2022، فيما تشمل العدالة الانتقاليّة الفترة الممتدّة من 1955 إلى غاية 2013. ولكنّ الفصل 35 من مرسوم الصلح الجزائي يقرّ بإسقاط العقوبات:
يترتّب عن إبرام الصلح الجزائي انقضاء الدّعوى العمومية وإيقاف التتبّع أو المحاكمة أو سقوط العقوبة.
فيما ينصّ الفصل 36 على ما يلي:
إذا كان المتصالح مشمولا بحكم غيابي أو بتنفيذ عقوبة سالبة للحريّة يتولّى الوكيل العامّ لدى محكمة الاستئناف أو وكيل الجمهوريّة إصدار قرار بسقوط العقاب بموجب الصّلح.
كما أنّ جريمة تبييض الأموال المشمولة بالصّلح وفق ما ينصّ عليه المرسوم مُجرَّمة بقانون الإرهاب ومنع غسيل الأموال الّذي “يُعاقب مرتكب غسل الأموال بالسجن من عام إلى ستة أعوام وبخطية من خمسة آلاف دينار إلى خمسين ألف دينار”، وفق ما ينصّ عليه الفصل 93 من هذا القانون. فكيف يمكن لجريمة اقترنت بالإرهاب أن يتمتّع مرتكبها بإجراء يعفيه من العقوبة الزجريّة؟
ويُفضي هذا الصّلح إلى توحيد مسار استرجاع الأموال المنهوبة المُنظّم بكلّ من المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المتعلق بمصادرة أموال وممتلكات منقولة وعقارية الّذي تمّ بمقتضاه إحداث لجنة المصادرة لدى وزارة أملاك الدّولة والشؤون العقارية، والمرسوم عدد 68 لسنة 2011 المتعلق بإحداث لجنة وطنية للتصرف في الأموال والممتلكات المعنية بالمصادرة أو الاسترجاع لفائدة الدولة. ما قد يُفضي إلى نسخ هذه المراسيم وتعويضها بأحكام مرسوم الصلح الجزائي. وسبق لرئيس الجمهورية أن أحدث لجنة تابعة للرئاسة متعهّدة باسترجاع الأموال المنهوبة الموجودة بالخارج، لم يكن مُرحَّبًا بها من عدد من الخبراء في القانون.
في ظلّ غياب مجلس تشريعي يضمن الحدّ الأدنى من التشاركيّة في نقاش مشاريع القوانين وشفافيّة النقاشات وحضور الإعلام والمنظّمات المختصّة، بالإضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين الّمتعهّدة بالنظر في مطابقة القوانين المُصادق عليها داخل البرلمان مع مقتضيات الدّستور، تبدو الوضعيّة عبثيّة ورهينة مزاج رئيس الجمهورية.
iThere are no comments
Add yours