في الواقع، لم تملك تونس خيارات كثيرة بعد أن أعلنت شركة شال البريطانية الهولندية الأصل، العام الماضي عدم نيتها تجديد رخصة استغلال امتياز حقل “مسكار” وأنها ستنهي نشاطها أيضا في حقل “صدربعل” الذي تنتهي رخصة استغلاله في العام 2037، والذي تتقاسمه مناصفة مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.

الحقل المنبوذ

أُسند امتياز “مسكار” الواقع بخليج قابس بمقتضى قرار وزير الاقتصاد الصادر في 22 ماي 1992، لمدة ثلاثين عاما وانتهى العقد بتاريخ 8 جوان 2022 وترجع ملكية الامتياز لشركة “شال” بنسبة 100 بالمائة، وكانت الشركة قد أعلنت في 4 ماي 2021 عزمها عدم مواصلة استغلال امتياز “مسكار” بعد انتهاء عقدها.
سنة 1974، اكتشفت شركة “إلف أكيتان”، التي ضمتها شركة “توتال” سنة 1999، حقل مسكار، وأنشأت تونس للغرض شركة “سيغما مسكار” في العام 1976 من أجل تطوير الحقل. ويقول الباحث في الطاقة مصطفى الحداد في دراسة نشرها بعنوان “حوكمة قطاع المحروقات” إن تونس تخلت عن المشروع بعد اكتشاف الحقل بسبب ما وُصف بالتعقيدات الجيولوجية. فموقع الحقل البحري يتمركز على بعد ما يقارب 130 كلم عن الساحل وعمق يصل إلى سبعين مترا، إضافة إلى جودة الغاز فيه الذي يحتوي على حامض والغاز الخامل الذي تصل نسبته إلى 40 بالمائة. كل هذه العوامل زيادة عن تقلب أسعار المحروقات في ذلك الوقت، أدت إلى عدم رغبة أي شركة بترولية تنشط في تونس آنذاك في المشاركة في الاستكشاف.
سنة 1989، اشترت شركة “بريتش غاز”، التي تحولت فيما بعد إلى “شال”، أصول شركة “هومت” التي تملك رخصة غرب جزيرة قرقنة ورخصة “أميلكار” التي ينضوي تحتها امتياز “مسكار”.

يقول مصدر مطّلع على حيثيات ملف تخلي الشركة البريطانية عن “مسكار”، والذي من المحتمل أن يتبعه إنهاء نشاطها في حقل “صدربعل” الواقع أيضا في خليج قابس، إن الشركة أعربت منذ وقت طويل عن رغبتها في عدم مواصلة نشاطها في الحقل المذكور. وحسب وثيقة تحصلت عليها نواة، ترجع رغبة الشركة البريطانية الهولندية في عدم تمديد عقدها في حقل “مسكار” والتخلي عن “صدربعل” قبل انتهاء مدة العقد بخمسة عشر عاما، إلى استراتيجية الشركة التي ستحول نشاطها إلى الطاقات المتجددة. ولكن السبب الآخر الذي لم يُعلن عنه مسؤولو الحكومة، هو الوضعية المالية الصعبة للشركة التونسية للكهرباء والغاز، وهي أحد حرفاء شال، والتي حسب مصدر اتصلت به نواة، أجبرتها وضعيتها المالية الصعبة على التأخر في سداد مقابل شراء الغاز من شركة شال، بمعدل يصل إلى سبعة أشهر من التأخير.
وحسب بيانات الشركة التونسية للكهرباء والغاز، اقتنت الشركة 580 ألف طن مكافئ نفط من حقل “مسكار” في العام 2020. وكان الكاتب العام المساعد بالجامعة العامة للكهرباء والغاز باتحاد الشغل منجي خليفة قد صرح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء يوم 17 فيفري 2019، بأن ديون الشركة التونسية للكهرباء والغاز تجاه شركة شال إلى حدود سبتمبر 2018، قد بلغت 286 مليون دينارا، وتحصلت “الستاغ” في العام 2019 على قرض من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة التابعة لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية في حدود 462 مليون دينار لخلاص فواتيرها تجاه عدة شركات مثل “صوناتراك الجزائرية” و”شال” والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.

الخيار المر

اطلع موقع نواة على وثيقة داخلية للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية تذكر أن تونس قد درست خيارين لتبعات تخلي شركة شال عن حقل “مسكار”. الخيار الأول كان البحث عن شريك للحقل، وهو خيار استبعدته لأنه سيتطلب وقتا طويلا لذلك، خاصة وأنّ الحقل لم يعد يجذب المستثمرين بسبب تضاؤل كميات الغاز فيه. أما الخيار الثاني فهو إسناد مهمة تشغيل الحقل إلى شركة “آ بي أو” وهي الشّركة التي أسستها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية وشركة “شال” اللتين تتقاسمان امتياز “صدربعل”، الذي تشغله شركة “آ بي أو”.
انتهجت الدولة الخيار الثاني لأن الشركة المذكورة لديها الخبرة في إدارة حقل “مسكار” وبالتالي ستعود ملكيتها إلى الدولة كاملة في استغلال حقل الغاز.
وتذكر الوثيقة أن الدولة اعتمدت على دراسة الجدوى الاقتصادية لحقل “مسكار”، في الوقت الذي يتخوف فيه بعض أعضاء مجلس إدارة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية من صحة البيانات في تلك الدراسة. وتنص خطة الشركة البريطانية الهولندية على مواصلة استغلال الحقل على ألا يشهد تطويرا اضافيا، بل الاعتماد على صيانة وتجديد بعض التجهيزات ومعدات المحطة وتغيير الوحدات المتقادمة.
حددت الدراسة المصاريف التشغيلية التي تبلغ حسب تقدير “شال” قرابة 11.2 مليون دولار أي ما يفوق 33 مليون دينارا سنويا كمصاريف قارة. وقُدّرت المصاريف التطويرية بمعدل 3.6 مليون دولار اي ما يقارب 11.5 مليون دينار سنويا، إضافة إلى مصاريف تفوق أكثر من سبعين مليون دينار كل أربع سنوات.
قدرت شال المصاريف الإدارية في حدود مائة مليون دينار سنويا، وتبلغ مصاريف هجر الموقع وإعادته إلى الوضع الذي كان عليه قبل الإنتاج والاستكشاف قرابة 790 مليون دينار. مصاريف يمكن أن تتغير لأنها مستندة على تقديرات سنة 2021، وطلبت المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية من الدولة توفير قرابة 280 مليون دينار سنويا لضمان عملية استغلال حقلي “مسكار” و”صدربعل”.
يمكن للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية أن تنجح في تسيير حقلي “مسكار” و”حنبعل” عن طريق شركة “آ بي أو” التي تملك الخبرة والتي ستقوم بدور الأشغال، غير أن نجاح مؤسسة الأنشطة البترولية يبقى رهين أمرين مفصليّين هما ضمان عدم انخفاض الانتاج في حقل “مسكار” بخمس وعشرين بالمائة، وضمان حصول المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية على مستحقاتها من الشركة التونسية للكهرباء والغاز، وقد تبدو مخاطر الفرضية الأولى بعيدة، لكن عدم التزام شركة الكهرباء والغاز بخلاص ديونها غير مستبعد.

 

لعنة الشركات الثلاث

تعيش المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، منذ ما يقارب العامين، وضعا ماليا معقّدا، إذ فاقت قيمة العجز المالي آخر سنة 2020، 900 مليون دينارا، في حين لا تتجاوز قيمة السيولة لديها نهاية العام الماضي 20 مليون دينارا. ففي العام 2017، سددت الدولة كل ديون الشركة التي تمكنت من تحقيق توازنها المالي من جديد. لكن بنهاية العام 2018، بدأ العجز المالي يتفاقم من جديد، بسبب عدم خلاص شركتين عموميتين لالتزاماتهما تجاه الشركة التونسية للأنشطة البترولية، لتدخل هذه الشركة من جديد في حالة شبيهة بما يعرف بـ “السلسلة الغذائية” التي يجني فيها طرف على من يسبقه ومن يليه.
مع نهاية سنة 2020، وصلت قيمة مستحقات المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية لدى الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير إلى ما يقارب ألفي مليون دينار بالنسبة للعامين 2018 و2019، حيث تدين المؤسسة للشركة المذكورة بأكثر من 1200 مليون دينار، وهو مبلغ شراءات شركة التكرير من النفط الخام الذي تزودها به المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية. ديون الشركة التونسية للكهرباء الغاز تراكمت لدى “إيتاب” لتصل إلى أكثر من 650 مليون دينارا، وهو قيمة شراءات “ستاغ” من الغاز التي توفره لها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.
جنت الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير على المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، حيث كان بإمكان المؤسسة البترولية تسديد ديونها التي تفوق 600 مليون دينارا، وهو مبلغ على المؤسسة تسديده مقابل القروض البنكية ومقابل التزاماتها في الحقول النفطية التي تتشاركها مع شركات بترولية أخرى. لكن في المقابل، تعجز الشركتان العموميتان، أي الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية للتكرير، عن تسديد ديونهما في حق المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بسبب ديون متخلدة بذمة مؤسسات عمومية وخاصة لم تقم بدورها بخلاص الشركة التونسية للكهرباء والغاز.
ففي سنة 2020، وصلت قيمة الديون المتخلدة لدى حرفاء الشركة التونسية للكهرباء والغاز 2400 مليون دينارا، وتمثل قيمة ديون الإدارات العمومية والشركات الخاصة، وهي بالأساس الفنادق والمؤسسات السياحية، 70 بالمائة من قيمة تلك الديون أي ما يعادل 1680 مليون دينارا. وبدورها، تفوق مستحقات الشركة التونسية للتكرير(ستير) لدى الشركة الوطنية لتوزيع البترول (عجيل) ما يعادل قيمة ديون ستير للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.
تعجز شركة “عجيل” عن تسديد ديونها لشركة “ستير”، العاجزة بدورها عن تسديد مستحقات المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، وذلك بسبب تراكم مستحقاتها لدى الإدارات ولدى شركات النقل البري، وهي بالأساس الشركة التونسية للسكك الحديدية والشركة الوطنية للنقل بين المدن وشركة نقل تونس، ولدى شركات النقل الجوي وهما شركة الخطوط الجوية التونسية وشركة الخطوط التونسية السريعة.

لم تضع الحكومات المتعاقبة أية استراتيجيات عملية تفكك ذلك التسلسل الكارثي الذي يهدد شركات عمومية كبرى بالإفلاس، بل اعتمدت على حلول وقتية مثل التدخل لتسديد ديون بعض تلك الشركات وهو ما حصل في شهر أوت من العام 2011، حيث تدخلت الدولة لتسديد مبلغ مائتي مليون دينار، قيمة متخلدات شركة عجيل لدى شركات النقل، كما تدخلت الدولة في العام 2017 من أجل تسديد ديون المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، لكن ديون تلك الشركات تراكمت من جديد وأصبح وضعها المالي أشبه بصخرة سيزيف.
أدى العجز المالي الذي تعاني منه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية سنوات 2018 و2019 و2020، إلى عجزها عن خلاص التزاماتها المالية مع شركات بترولية تشاركها في حقول النفط، وهي بالأساس شركتي “سيتاب” (الشركة التونسية الإيطالية للبترول) و”سي أف تي بي” (الشركة الفرنسية التونسية للبترول)، ليتسبب هذا العجز في تأخر القيام بأشغال في الحقول التي تشاركها المؤسسة التونسية مع الشركتين المذكورتين، اللتين تملك الدولة حصة في كل منهما. كما أثر هذا الوضع المالي الذي تعانيه شركة “إيتاب” في نسق إنتاج النفط في الحقول التي تملك حصصا فيها.
تواجه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية أخطارا قد تؤدي إلى افلاسها، فهي مهددة بحرمانها من حصصها في الإنتاج في الحقول النفطية التي تتشارك فيها مع شركات بترولية أخرى، بسبب عجزها عن تسديد التزاماتها المالية في تلك الحقول، ويمكن أن يؤدي عدم دفعها الضرائب إلى تجميد حساباتها البنكية.
تعي كل الحكومات المتعاقبة الوضع المالي الصعب الذي تعانيه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، والتي تمثل الدولة في مجال الإنتاج الطاقي، لكنها في المقابل ترمي في كل تسوية اجتماعية بالمؤسسة في أتون الصراع لإخماد التحركات والذي تجني منه المؤسسة ثمارا مرة. وتدفع “إيتاب” سنويا مليون دينار لفائدة جمعية اتحاد تطاوين إضافة إلى الأجور السنوية لعمال شركات البيئة والغراسة في قبلي وتطاوين والتي تبلغ قرابة 40 مليون دينار سنويا.

أصبحت المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية عبئا على الدولة، أو أريد لها أن تكون كذلك، لسببين أساسين هما غياب خطط إنقاذ فعلية للمؤسسة وفشل المؤسسات العمومية أو تغافلها عن استخلاص حقوقها من الجهات العمومية أو الخاصة، وضع سيؤدي عاجلا إلى سقوط مدو لصخرة سيزيف ستطال شظاياها البلد بأسره.