عادة ما يعتبر المنتجون ومالكو القنوات التلفزية شهر رمضان موسم الذروة بسبب عائدات الإشهار والمسابقات. حكم السياق الاقتصادي لقطاع الإعلام والإنتاج السمعي البصري على المنتجين بحكمين لا ثالث لهما، إما التراجع عن الإنتاج في ظل وضع اقتصادي لا يضمن عائدات إشهار جيّدة أو الدخول في مغامرة مجهولة العواقب.
”الفلوجة“ للمخرجة سوسن الجمني على قناة الحوار التونسي و”الجبل الأحمر“ على الوطنية الأولى، هذا كل ما تم الإعلان عن بثه كمسلسلات خلال شهر رمضان.

بينما وئدت مشاريع أخرى عدة منها سلسلة بعنوان ”العيشة“ التي كانت مرتقبة على قناة التاسعة، وسط غياب بقية القنوات الخاصة الأخرى عن إنتاج مسلسلات، باستثناء 3 انتاجات من نوع السيتكوم وهي ”للا سندرلا“ على الوطنية و ”كابتن ماجد“ و”سبق الخير“ على قناة نسمة. غياب يرجعه أهل الاختصاص إلى أزمات مالية تعاني منها تلك القنوات.

هشاشة مناويل الإنتاج

تخضع عملية إنتاج المسلسلات في تونس خاصة خلال شهر رمضان إلى ثلاث خيارات، الأول تعتمده التلفزة العمومية وهي أن تخصص ميزانية وتختار منتجا منفذا لإنتاج المسلسل، منوال قلما اعتمدته القنوات الخاصة باستثناء تجارب نادرة خاضتها قناة التاسعة وقناة قرطاج +. أما الخيار الثاني فهو أن تقوم القناة التلفزية بإنتاج مسلسلها بنفسها، خيار تعتمده قناة الحوار التونسي. أما الخيار الثالث فهو لجوء منتجين إلى المغامرة بإنجاز مسلسل ثم عرض بثه على قناة تلفزية، على أن يتم تقاسم أرباح الإشهار التي سيجلبها العمل بين المنتج والتلفزة الباثة. وهو أكثر الصيغ تداولاً في السوق التونسية وأكثرها مجازفة من طرف المنتجين.
يقول عباس بن يوسف، الذي عمل مسؤولا على تسويق مسلسل ”كان يا ماكانش“ في جزئه الأول، في تصريح لنواة : ”يعتبر الخيار الثالث، المعروف تقنيا بالبارترينغ، الخيار الأصعب للمنتجين، حيث يقوم المنتج بتسويق فكرة عمله أو تصوير جزء منه ليطرحه على وكالات الاتصال، وهي شركات بمثابة الوسيط بين القنوات التلفزية والمستشهرين. %80 تقريبا من سوق الاشهار في تونس تستحوذ عليه وكالتا اتصال .شركة الاتصال تطرح العرض الذي قدمه المنتج على المستشهرين ثم تتفق مع بعضهم. بعد ذلك يبحث المنتج عن قناة تبث العمل، مقابل حصولها على جزء من عائدات الإشهار المتفق عليه، وهي في الواقع عملية معقدة ومغامرة بسبب الضائقة الاقتصادية. في العام الماضي مثلا، غاب إشهار العجين والجبن لأن الإقبال عليهما بديهي بسبب قلتهما في السوق فلا يحتاج المصنعون للإشهار أصلا“.

تراجع ميزانيات الإشهار

يصف عباس ين يوسف الوضع بالضبابي فلا أحد من المنتجين يمكنه تقدير مداخيل عمله الرمضاني، بسبب تخفيض المؤسسات الصناعية والخدماتية والغذائية في ميزانياتها المخصصة للإشهار، مضيفا: ”شهر رمضان هو موسم الذروة للإنتاج الدرامي في تونس وللقنوات التلفزية أيضا، بما أن الإعلانات تصل إلى ذروتها خلال أوقات معينة في رمضان، لكن الأزمة الاقتصادية جعلت الوضع ضبابيا والمنتج أو القناة التي لا تستطيع توفير ميزانية ذاتية لا يمكنها المغامرة. الوضع صعب وهو ما كشفه إنتاج مسلسلين فحسب، مسلسل ”الجبل الأحمر“ الذي ستبثه القناة الوطنية الأولى و”الفلوجة“ الذي ستعرضه قناة الحوار التونسي“.
لم تعلن قناة التاسعة عن إنتاج أي مسلسل لبثه خلال شهر رمضان هذا العام، رغم أنها بثت في رمضان 2022 عملين وهما ”البلاص“ و”13 نهج غاريبلدي“. كان من المنتظر أن تبث القناة هذه السنة سلسلة بعنوان ”العيشة“، تمتد على 15 حلقة، غير أن التصوير لم يبدأ إلى حد الآن. يقول مصدر من طاقم العمل في تصريح لنواة، إن القناة أمضت على عقد مع الشركة المنتجة ولكن لاحت بوادر لإمكانية عدم خلاص الشركة من قبل قناة التاسعة لذلك توقف المشروع قبل البدء في التصوير.مضيفا : ”يبدو أن المشروع توقف ولم يعد هناك وقت كاف للجوء إلى شركات الاتصال وطرح مشروع السلسلة عليها لبثه في إحدى القنوات مقابل عائدات الإشهار“.

ارتفاع كلفة الإنتاج

تعوّل قناة الحوار التونسي على إنتاج مسلسلاتها اعتمادا على ميزانيتها الخاصة، رغم ذلك يعتبر أحد المسؤولين فيها في تصريح لنواة، أن القناة ستخوض مغامرة خلال رمضان لصعوبة تقدير المداخيل التي يمكن أن يحققها مسلسل ”الفلوجة“ الذي سيعرض هذا العام.

ويضيف : ”إنتاج المسلسلات أصبح مكلفا ويقدر بملايين الدينارات. في الحقيقة ارتفعت تكلفة الإنتاج بسبب التضخم المالي الذي تعيشه تونس، لتكتفي قناة الحوار التونسي هذا العام بإنتاج مسلسل واحد يبث على عشرين حلقة بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج. هي مغامرة ولا أحد يضمن الربح بل بالعكس يمكن توقع خسائر لا مرابيح، فالوضع ضبابي ووكالات الاتصال لم تقدم وعودا واضحة بشأن الإشهار. في السابق، كان يمكن توقع المداخيل وإقبال المستشهرين قبل شهر رمضان بمدة طويلة. الأسواق تعيش أزمة فقدان بعض المواد مثل السكر والحليب والقهوة، فلا معنى لوجود إشهار لها أو لمشتقاتها، التي يقبل عليها التونسيون عادة خلال شهر رمضان“.

قنوات تجر أزمة مالية

تظهر وثائق تحصلت عليها نواة، أن عائدات الإشهار والإرساليات القصيرة لثلاث قنوات وهي التاسعة والحوار التونسي وحنبعل قد تراجعت بين 2019 و2021، فقد انخفضت عائدات الإشهار بالنسبة لقناة التاسعة من 10.723 مليون دينار في 2019 إلى 6.975 مليون دينار سنة 2021، الشأن ذاته لقناة الحوار التونسي رغم تحصيلها مداخيل اشهارية أعلى من القنوات الأخرى، إذ انخفض نصيبها من مداخيل الإشهار من 22.323 مليون دينار في العام 2019، إلى 17.736 مليون دينار سنة 2021. أما قناة حنبعل فقد ارتفعت مداخيلها الإشهارية من 570.161 ألف دينار إلى 2.755 مليون دينار سنة 2021.
إليكم تفاصيل هذه الوثائق التي أفادتنا بها الهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي البصري (الهايكا) إثر طلب نفاذ للمعلومة تقدمت به نواة حول القوائم المالية للسنوات 2019 و2020 و2021 وعائدات الإشهار للسنوات 2019 و2020 و2021 لقنوات الحوار التونسي والتاسعة وحنبعل:

⬇︎ PDF

الموازنات المالية للقنوات الثلاث المذكورة كشفت عن عجز مالي بالنسبة لقناة الحوار التونسي سنة 2019 بأكثر من مليون دينار، رغم أنه انخفض سنة 2020بعد أن حققت القناة أرباحا صافية بقيمة تتجاوز 96 ألف دينار،وتجاوزت القناة عجزها في العام 2021، بتحقيق ربح صاف إيجابي ب132 ألف دينار سنة 2021. كما تجر قناة حنبعل عجزا منذ سنوات تجاوز586 ألف دينار سنة 2019، والتي حققت في تلك السنة صافي ربح سلبي ب950 دينارا، مقابل صافي ربح سلبي سنة 2020 ب2 مليون دينار، وهو الحال ذاته بالنسبة إلى قناة تونسنا، التي تجر وراءها عجزا ماليا ناهز6.555 مليون دينار سنة 2020 انخفضإلى 6.385 مليون دينار سنة 2021، بعد أن حققت ربحا صافيا إيجابيا ب170 ألف دينار سنة 2021، وهو ربح لا يكفي لتغطية العجز المالي الذي تجره القناة والذي فاق 6 مليون دينارا.

يبدو الوضع أفضل بالنسبة لقناة التاسعة التي حققت صافي دخل إيجابي سنة 2019 ب2.260 مليون دينار، مقابل 3.206 مليون دينار سنة 2020 والتي انخفضت أرباحها سنة 2021 إلى 3.173 مليون دينار، رغم أن مساهمة مالكيها في عائدات الإشهار توقفت سنة 2019 حسب وثيقة مداخيلها من الإشهار والإرساليات القصيرة.

رغم أن قنوات مثل قناة التاسعة والحوار التونسي حققت أرباحا خلال العامين 2020 و2021، إلا أن تلك الأرباح لا تمكن تلك القنوات سوى من تغطية بعض النفقات وتحدّ من هامش تطوير تلك القنوات وتمويل إنتاجها.

في المقابل، سلطت على هذه القنوات عقوبات مالية بين العامين 2020 و2022، وصلت إلى أكثر من 500 ألف دينار بسبب تجاوزات للمرسوم عدد 116 المنظم للقطاع أو لكراس الشروط والبث دون رخصة قانونية، كما هو الشأن بالنسبة لقناة حنبعل التي تواصل بثها عن طريق شركة واجهة ”توني ماد“. وكان نصيب قناة التاسعة من الخطايا هو الأكبر ب 200 ألف دينار بين العامين 2020 و2022، تليها قناة حنبعل التي صدرت في حقها خلال تلك الفترة خطية إجمالية ب 110 ألف دينار ثم قناة تونسنا وقناة الحوار التونسي بقرابة 100 ألف دينار، والسبب تجاوزات متعلقة بالإشهار.

تعرف المؤسسات التلفزية على وجه الخصوص أزمات مالية متشعبة، في ارتباط وثيق بالمضامين التي تقدمها وضبابية مناويلها الاقتصادية المعتمدة، وسط إضعاف سياسي متعمد للهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري، المكلفة بمراقبتها وفقا للمرسوم المنظم للقطاع.