تأرجحت التحليلات حول المغزى من طرح هذا الموضوع في السياق الحالي من قبل سعيّد، حيث لم تتبع تصريحاته تصوّرات عمليّة ضمن هذه القضية السياديّة. وهو مما دفع إلى القول بأن هذه الإشارة من سعيّد لم تكن إلا انتقادا غير مباشر لدور رئيس اللجنة التونسيّة في النزاع العميد الصادق بلعيد وتحميله ضمنيا مسؤولية فشل الملف التونسي أمام محكمة العدل الدولية، خصوصا وأن بلعيد قد أضحى من المنتقدين الشرسين للرئيس منذ أواخر جوان 2022. غير أنّ الطابع الشخصيّ للمسألة لا يتيح تفسيرا مقنعا لإطار هذا التصريح، فالعلاقات التونسية الليبية بعد 25 جويلية 2021 تأرجحت بين الفتور ومحاولات رأب الصدع والتقارب، وقد أعادت هذه التصريحات جدل العلاقات إلى الواجهة اليوم، في سياق تواترت فيه الأخطاء الاتصاليّة لرئاسة الجمهوريّة على المستوى الديبلوماسي وليس آخرها ما نتج عن تصريحات سعيّد حول الهجرة.

عود على بدأ

تعرّض سعيّد أثناء زيارته للمؤسسة التونسية للأنشطة البتروليّة إلى ملابسات ملف الجرف القارّي حسب قراءته، انطلاقا من 12 جانفي 1974، تاريخ إعلان الوحدة بين تونس وليبيا، التي سرعان ما انفكّت عُراها بعد سويعات قليلة من الإعلان عنها، حيث أكد أن ”النيّة كانت تتجه حينها إلى قسمة هذا الحقل إلى نصفين بين تونس وليبيا، ما من شأنه أن يؤمن كل حاجيات تونس وأكثر“.

وأشار في نفس السياق إلى أن فكرة اقتسام الحقل كانت باقتراح من وزير الخارجية الليبي حينها قبل أن تسوء العلاقات الثنائيّة على إثر فشل مشروع الوحدة ويتم رفض مقترح تقاسم الحقل. وفي سرده لبقيّة الوقائع، أضاف سعيد بأن ”ليبيا قد أتت بشركة أمريكية على وشك الإفلاس ووضعت منصّة استخراج للبترول، فتوترت العلاقات التونسية الليبية مرّة أخرى“. قبل أن يتطرق إثر ذلك إلى وساطة أمين عام جامعة الدول العربية محمود رياض بين تونس وليبيا واللجوء إلى محكمة العدل الدوليّة التي منحت تونس ”الفتات“ بعد صدور الحكم سنة 1982.

يبقى التساؤل المفتوح هنا عن الدافع وراء مثل هذه التصريحات، وفي قضيّة قد تمّ الحسم فيها على مستوى محكمة العدل الدوليّة. فالخيارات السياسية للدولة التونسيّة حينذاك بالتوجه للمحكمة لم يرافقها إعداد جيّد ومُحكم للملف في أبعاده القانونيّة والتقنيّة على عكس الطرف الليبي الذي تحرّك على جميع المستويات وتحصّل على عدد من الوثائق المهمّة من الأرشيف الإيطالي التي تؤيد وجهة نظره في الخلاف. لذا، فالعودة إلى هذا الخلاف اليوم هي غير ذات موضوع، قانونيا أولا لأنه لا يمكن مراجعة الحكم، خصوصا وأن تونس طلبت إعادة النظر فيه قبل أن تتمّ مجابهة مطلبها بالرفض من قبل المحكمة في 10 ديسمبر 1985. وواقعيا كذلك، إذ لا توجد أية نية لدى الطرف الليبي لمراجعة ما قرره هذا الحُكم.

ليبيّا، أثار خطاب سعيّد جدلا هامّا. بدئا من الجانب الرسميّ، حيث صدرت تصريحات من وزير النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية محمّد عون جاء ضمنها ”أّن القضية تمّ الفصل فيها بحُكم من محكمة العدل الدوليّة، وقد قبل الطرفان بالحكم والحدود البحريّة بين ليبيا وتونس“، في حين أكّد رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب عيسى العريبي تشكيل لجنة لدراسة تصريحات سعيّد للرد عليها بشكل رسمي. فيما تُشير عدّة قراءات إلى أن قرار وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية بتسيير دوريات أمنية على طول الشريط الحدودي مع تونس من منطقة العسّة إلى نقطة الأحيمر هو نوع من الردّ غير المباشر على تصريحات الرئيس. كما استعادت بعض الصفحات الليبية على مواقع التواصل الاجتماعيّ بعض ما ورد في مذكرات رئيس الوزراء الليبي الأسبق زمن معمر القذافي عبد السلام جلود حول نيّة القذافي مقاسمة حقل البوري مع تونس إثر زيارة له لجزيرة جربة ولقائه بالرئيس الأسبق بن علي هُناك في 1988، ثمّ زيارة الوزير الأول التونسي حينذاك الهادي البكوش ووزير الداخلية الحبيب عمار إلى ليبيا حول هذا الملفّ ومعارضة عبد السلام جلود الشديدة للمقترح، وهو ما ساهم في وأد هذه الفكرة التي لقيت ترحيبا من القذافي نفسه في البداية.

في النتيجة تعكس تصريحات سعيّد خللا واضحا فيما يجب أن تتّسم به دبلوماسيّة الدولة إزاء ملفات حيويّة، وفي سياق انغلاق غير مسبوق تمرّ به الدولة التونسية في علاقاتها مع الخارج. إذ تحتاج العلاقات الثنائيّة مع ليبيا أكثر من غيرها إلى دراسة متأنية لمختلف الخطوات والتصريحات الرسميّة، باعتبار تلك العلاقات تمسّ الأمن الاستراتيجيّ لتونس. وضمن كلّ ذلك، تقتضي الحكمة عدم منح الفرصة لأي طرف إقليمي أو دولي يُريد المناورة في الملف الليبي عبر البوابة التونسية، والاتعاظ من بعض الأخطاء السابقة التي كادت تؤدي بالعلاقات إلى بعض المنعرجات السلبيّة.

استدعاء المظلومية التاريخيّة

بالتزامن مع إثارة مسألة الجرف القارّي من جديد، انتشرت بعض المنشورات والخرائط في وسائل التواصل الاجتماعيّ حول ما يُعرف بحدود تونس ”التاريخيّة“. وجُلّ ما نُشر لا يمُتّ بصلة إلى الواقع التاريخيّ للحدود التونسيّة قبيل الاستعمار، بل تبدو الخرائط المنشورة أقرب إلى مجال إقليم ”إفريقيّة“ زمن بدايات الدولة الحفصيّة.

غير أنّه بعيدا عن المغالطات المتعلّقة بهذا الموضوع، وبالتوظيف الشعبويّ لها دعائيّا. لازالت قضيّة رسم الحدود، ومن بينها المناطق الصحراويّة الغربيّة خصوصا في حاجة إلى مزيد من البحث التاريخيّ للخوض في ملابساتها السياسية. ويُمكن التّذكير هنا بخطاب الحبيب بورقيبة الشهير في 5 فيفري 1959 حول الحقوق التونسيّة في منطقة الصحراء الكُبرى، وخصوصا قرب منطقة Fort-Saint (برج الخضراء حاليّا). إذ أثارت مطالب بورقيبة بالمنطقة التي تمتدّ من برج الخضراء إلى منطقة قرعة الهامل غرب مدينة غدامس (تقع حاليّا ضمن الحدود الجزائريّة)، خلافات مع الفرنسيين ومع قيادة جبهة التحرير الجزائريّة على حدّ سواء في حينها. وقد وضّح محمد المصمودي، كاتب الدولة للأخبار ووزير الخارجية لاحقا في سنة 1960 جُملة من أبعاد الموقف التونسي حيال هذه المسألة في مقال بعنوان ”الصحراء والمغرب الكبير“، جاء فيه أن : ”كل العالم يعرف أن تصحيح الحدود أي حق تونس في مجالها الصحراوي كان من أهمّ النقاط المتنازع عليها بين فرنسا وتونس بينما النقاط الأخرى مثل مدينة بنزرت واسترجاع أراضي المعمّرين لم تُثر أي ّ اعتراض…هل يُمكن تصور عدم الاعتراف بالحدود الرسميّة المحدّدة بالنقطة 233، وعلى فرنسا أن تفهم أن مرحلة الاستعمار قد انتهت فعندما نُطالب باسترجاع حقوقنا فلا يعني أننا نعترف بالجميل…هناك امتداد صحراوي من وراءنا وهو جزء من تونس مثل أي إقليم في البحر الأبيض المتوسط، فلماذا تحرموننا منه؟ وفي جميع الحالات فإن هذا الامتداد الصحراوي الذي نطالب به لن نتخلّى عنه أبدا“.

 ثمّ اكتست هذه المطالبة السياسيّة فيما بعد بُعدا عسكريا، عبر معركة الناظور أو معركة النقطة 233.

صور توثق معركة الناظور من كتاب “شهادة للتاريخ” للقائد العسكري عبد الله العبعاب

تلك المعركة المنسيّة المتزامنة مع حرب الجلاء ببنزرت، والتي دارت رحاها في المنطقة التي كانت تطالب تونس بها ابتداء من يوم 18 جويلية 1961 حيث استمرّت على مدى أربعة أيام وشهدت اقتحام قوّة من الجيش التونسي بقيادة الضابط عبد الله عبعاب مع متطوّعين من الجنوب للبرج الموجود في المنطقة ورفع العلم التونسي فوقه، مع تسجيل خسائر في صفوف الجيش الفرنسيّ. إلا أن تونس قامت إثر استقلال الجزائر بالاعتراف بالسيادة الجزائريّة على المنطقة.

وفي المحصّلة، لا يُغني خطاب المظلوميّة التاريخيّة شيئا في تغيير الوقائع على الأرض. فترسيم الحدود التونسيّة قد أنتج التزامات قانونيّة للدولة، وكل نقاش رسمي يُرافق هذه المسألة عليه أن يكون متزنا ومتبصّرا بالنتائج.