في 1 فيفري 2023، قال البنك المركزي في بلاغ له إن ”تمويل الميزانية من خلال اللجوء المتزايد للتداين في السوق الداخلية خلال الثلاثي الأول من سنة 2023 قد يؤدي إلى تفاقم الضغوط المسلطة على السيولة وإلي تيسير المقايضات بين مختلف التوظيفات، بما من شأنه تعطيل نشاط الأسواق المصرفية والمالية وسوق التأمينات“. كما نبهت وكالة فيتش للتصنيف في أفريل الماضي إلى ضغط الحكومة التونسية المتزايد على القطاع المصرفي لتعزيز المالية العامة، مضيفةً أنّ الحكومة اقترضت ما يعادل 2400 مليون دينار من البنوك في السنة المالية 2023 – 2024، مقابل زيادة ضئيلة في النمو السنوي للودائع الذي يبلغ 7000 مليون دينار في العامين الماضيين.

البنوك الخاصّة ورقاع الخزينة: تُفيد وتستفيد

يقول معز حديدان الخبير في الاقتصاد والأسواق المالية في تصريح لموقع نواة إن البيانات الرسمية لعدد من البنوك المحلية التونسية في جوان 2022، تفيد بأن الدولة اقترضت منها 15.7 مليار دينار من ضمنها 12.3 مليار دينار في شكل رقاع خزينة و1 مليار دينار قرض رقاعي وطني و2.8 مليار دينار من العملة الصعبة، دون احتساب مبلغ 400 مليون دينار التي أعلنت وزارة المالية عن اقتراضها من 12 بنكا تونسيا يوم 16 ماي الجاري.

ويفسر الخبير الاقتصادي معز السوسي لنواة إقبال البنوك المحلية على شراء سندات الخزينة، قائلا : ”تعتبر سندات الخزينة التي تصدرها الدولة هدفا ذا أولوية لجميع البنوك، حيث تقبل البنوك التجارية على عملية شراء تلك السندات، وهي شكل من أشكال إقراض الدولة، حتى تتمكن من الاستفادة من الحصول على سيولة هامة من البنك المركزي الذي يضخ تمويلات لفائدتها وفق نسبة امتلاكها لتلك السندات“.

ويضيف السوسي أنّ كل بنك يمكنه شراء سندات الخزينة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك عبر شرائها وإعادة توزيعها على بنوك أخرى لتتحصل في مرحلة ثانية على السيولة التي تطلبها من البنك المركزي، وهو ما يجعل البنوك تلهث وراء إقراض الدولة عن طريق شراء سندات من الخزينة للاستفادة من سيولة من البنك المركزي، إضافة إلى أن شراء سندات الخزينة يضمن نسبة فائدة أعلى من الفائدة في السوق النقدية بما من شأنه أن يوفر هامشا كبيرا من الربح، حسب الخبير الاقتصادي.

وفق تقرير ”النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى فيفري 2023“، فإنّ حجم الدين العمومي الإجمالي بلغ 117.151 مليار دينار من ضمنها 50.771 مليار دينار دين داخلي (ص.11)، فيما ارتفع حجم الدين الداخلي لبداية سنة 2023 مقارنة بالعام 2022، ليبلغ 48.273 مليار دينار إلى موفى العام الماضي، وفق تقرير ”النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى ديسمبر 2022“ (ص.11). وحسب التقرير ذاته فقد وصل حجم الدين الداخلي لتونس العام الماضي إلى 42.1 %من الناتج الوطني الخام وهي نسبة ارتفعت في بداية العام الحالي لتصل إلى 43.3%.

الدولة تجر الاقتصاد في حلقة مفرغة

سدّ القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق بالنظام الأساسي للبنك المركزي المنافذ على الحكومة للاقتراض مباشرة من البنك المركزي، حيث نص الفصل 25 من القانون الأساسي صراحة على عدم منح الدولة قروض وجاء في الفصل المذكور: ”لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة تسهيلا في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة“، وهو ما يعني تضييق خيارات الدولة في الاقتراض ودفعها للتوجه للبنوك التجارية أو للجهات الدولية للحصول على قروض بنسب فائدة أعلى.

يقول معز السوسي في تصريح لنواة : ”تصل نسبة الفائدة بالنسبة إلى القروض طويلة المدى والممتدة بين سبع وعشر سنوات إلى 9.8 %من إجمالي القرض. أما القروض قصيرة المدى فإن نسبة الفائدة أقل نسبيا. لكن عند رفع حجم القروض التي تتحصل عليها الدولة من البنوك فإن تلك النسبة ترتفع وترفع معها نسبة الفائدة في القروض المخصصة للحرفاء الخواص“.

حسب وثيقة ”النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى ديسمبر 2022“، ارتفعت تكاليف خزينة الدولة في تسديد أصل الدين الداخلي بين 2020 و2023 من 3.108 مليار دينار إلى 9.121 مليار دينار، وكانت الحكومة قد تحصلت في ماي 2020 على قرض بالعملة الصعبة من 12 بنكا محليا قيمته 387 مليون أورو أي ما يعادل 1.180 مليار دينار بفترة سداد تبلغ ثلاث سنوات وبنسبتي فائدة تقدّران بـ2 و2.75%، وهو ما يعني أن إجمالي الدين يبلغ 29.03 مليار دينار.

يقول الخبير المالي معز حديدان إن إجمالي استحقاقات البنوك لدى الدولة قد بلغ منتصف العام 2022 مبلغا قدره 16.5 مليار دينار، منها 13 مليار دينار قروض في شكل سندات خزينة و928 مليون دينار قروض رقاعية وطنية و2.5 مليار دينار قروض مجمعة أي قروض بالعملة الصعبة. ويقول حديدان إن أكثر البنوك التي أقرضت الدولة هي البنك الدولي العربي بتونس بـ2.3 مليار دينار، يليه البنك الوطني الفلاحي بـ2.2 مليار دينار ثم الشركة التونسية للبنك بـ1.4 مليار دينار.

وحسب تقرير للبنك الدولي العربي بتونس، فإن مساهمة البنك في تمويل خزينة الدولة في العام 2021 بلغت 2.578 مليار دينار، مسجّلة زيادة بـ28.7 %مقارنة بنهاية ديسمبر 2020 .ويُرجع التقرير ذاته ارتفاع صافي الدخل المصرفي للبنك المذكور سنة 2021 لارتفاع عائدات تغيير العملة وارتفاع سندات الخزينة التي اقتناها من الخزينة بنسبة 38  % مقارنة بالعام 2020.

يقول الخبير معز حديدان لنواة إن قروض القطاع البنكي إجمالا تبلغ 123 مليار دينار، من ضمنها 16% موجهة إلى الدولة، ويضيف: ”هذه النسبة مرتفعة، فقبل عشر سنوات لم تتجاوز 10 %من إجمالي القروض البنكية، وهو ما يؤثر على الاستثمار“.

وصلت نسبة الفائدة المديرية التي حددها البنك المركزي إلى 8%، وهو ما تسبب في ارتفاع نسب الفائدة على القروض للخواص. يقول الخبير معز السوسي: ”الدولة واعية بأنها استحوذت على حيز كبير من الدين الداخلي وأن ذلك يؤثر في الاستثمار الخاص، لأنّ اقتراضها الداخلي يتسبب في نقص السيولة ويسد المنافذ أمام المستثمرين للحصول على القروض، وهو ما يؤثر سلبا على قدرة الاقتصاد للخروج من أزمته. لجوء الدولة إلى الاقتراض من البنوك يتمّ في أغلب الحالات من أجل دعم الميزانية لا الاقتصاد، وأغلبها مخصصة لصرف الأجور وجرايات التقاعد. لذلك يجب على الدولة أن ترشّد نفقاتها أوّلا، وأن تحسّن المداخيل غير الجبائية للدولة ثانيًا، حيث تمثّل المداخيل الجبائية 25% من الناتج الوطني الخام“.

حسب تقرير ”النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى فيفري 2023“ يبلغ نصيب المبالغ المخصصة للاستثمار من ميزانية هذا العام 6 %من مجمل نفقات الميزانية، مقابل 60.1 % لنفقات التأجير، ما يعني أن القروض التي تتحصل عليها الدولة موجهة أساسا لتغطية نفقات التسيير والتأجير، وأنّ سياسة الحكومة الاقتصادية لا تراهن على الاستثمار وتفتقر إلى الحلول الناجعة للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.