ثمانية وثلاثون شخصا من سكان عقارب يواجهون أحكاما بالسجن تصل إلى عامين بتهم مختلفة، منها تعطيل سير العمل والتهديد والإضرار عمدًا بملك الغير، على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها منطقة عقارب ضمن حراك مانيش مصب البيئي. احتجاجات احتدمت في نوفمبر 2021، تسبب قمعها في وفاة عبد الرزاق لشهب على يد قوات الشرطة. ظل غرافيتي لشهب، الذي رسم على جدران محلات كثيرة وسط مدينة عقارب، أحد شواهد المعركة الحامية بين وزارة البيئة وسكان المدينة من أجل تنفيذ قرار قضائي بغلق مصب القنة، وهو ثاني أكبر مصب في تونس، قبل أن يعطي الرئيس قيس سعيد أمره لوزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين، بـ”وضع حدّ للأوضاع السائدة في صفاقس“ بعد تكدس الفضلات في المدينة نتيجة إغلاق مصب القنة بعقارب، وكان ذلك الأمر قطرة الزيت التي أججت غضب سكان عقارب وأدت إلى مواجهات مع الشرطة قبل انسحابها ليحل الجيش مكانها.
جريمة بيئية يحاكم فيها المحتجون
يقول ثامر بن خالد الناطق باسم حراك مانيش مصب في تصريح لنواة، إن كلاّ من مجمع أبو وليد المتخصّص في تصدير الزيت الغذائي، وشركة إيكوتي المتخصصة في التصرف في النفايات، قد رفعَا خمس قضايا ضد نشطاء حراك مانيش مصب، إضافة إلى احتجاج عدد من النشطاء ضد أحد المصانع الذي لوثت مداخنه المنطقة. تعود تلك القضايا إلى سنة 2021 خلال الاحتجاجات التي شهدتها مدينة عقارب مطالبة بتنفيذ قرار قضائي صادر عن محكمة الناحية بعقارب في 11 جويلية 2019. قرار يقضي بالتوقف الفوري عن استعمال مصب القنة وإزالة الفضلات المجمعة في ظرف ستة أشهر على أقصى تقدير، وهو قرار جاء على خلفية شكوى تقدم بها سكان عقارب لإغلاق مصب القنة.
يضيف ثامر بن خالد: ”القضايا متعددة ولكنّها قامت على خلفية الحراك ضد التلوث. فمحاكمة مجموعة من سكان عقارب إثر اعتصام غلق مصب القنة جاء بعد تعهد الولاية بإغلاقه في أوت 2020، ومحاكمة بعض أبناء منطقة المرعنية تعود إلى مطالبتهم بالتزام أحد المصانع بكراس الشروط فيما يخصّ الدخان الذي ينفثه. أما التّهم الموجهة فهي متنوعة تتراوح بين تعطيل سير العمل إلى تكوين وفاق ومحاولة الإضرار بملك الغير ومحاولة الحرق وصولا إلى الثلب. الغريب أن كل القضايا التي حكم فيها يوم 8 جوان تعود إلى فترات زمنية مختلفة منها سنة 2021 وأخرى 2020“.
يواجه كلّ من ثامر بن خالد وشكري البحري النائب بالبرلمان عن منطقة عقارب حكما بالسجن مدة ثمانية أشهر، بتهمة تعطيل سير العمل.
يقول بن خالد إن الشركة المستغلة للمصب قدمت قضية ضده في أوت 2020 اتهمته فيها بمنع أحد الموظفين من دخول المصب، مضيفا أنّ القضية تمّ حفظها بسبب تضارب أقوال الشهود وعدم تنصيص التقارير الأمنية على تعطيل حرية العمل أو التنقل، حسب ما أفاد به لسان الدفاع المتطوع للمرافعة في قضيته.
تجاهل شكري البحري، النائب في البرلمان، اتصالات نواة لتقديم تصريح بخصوص الأحكام الصادرة في حق المشاركين في حراك ”منيش مصب“. تعددت المحاولات للتواصل معه للتعليق على تلك الأحكام القضائية، خاصة أن وصوله للبرلمان كان بفضل ذلك الحراك، وللاستفسار عن استعداده لتنفيذ وعوده الانتخابية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، بأنه ”إذا تمكن من الفوز في الانتخابات فإنه سيحمل معه حزمة من التصورات التي سيدافع عنها من أجل أن تصبح قوانين منها التنصيص على عدم تجريم الحركات الاجتماعية وحماية البيئة وعلى أولوية الشركات التونسية في التصرف في النفايات“.
لعنة تلة الفضلات
يقع مصب القنة للفضلات على بعد كيلومترين من مدينة عقارب، غير أن الغازات التي كانت تنبعث من قرابة 600 طن من الفضلات يوميا، تجاوزت تلك المسافة وحكمت على سكان المدينة بإغلاق أبوابهم ونوافذهم طول العام.
في أكتوبر سنة 2018، أصدرت الوكالة الوطنية لحماية المحيط تقريرا عقب حملة لقياس جودة الهواء بمعتمدية عقارب تحصلت نواة على نسخة منه. تقرير أثبت أن التلوث في الهواء تجاوز الحدود المتعارف عليها، وأن ”التلوث الجوي في محيط معتمدية عقارب مرتفع خاصة بالنسبة للغبار ولسولفيت الهيدروجين“. وأرجع التقرير هذا التلوث إلى احتمال تسبب مصانع هناك منها مجمع أبو وليد، في التلوث إضافة إلى مصب القنة.
بعد أقل من عام، تحرك سكان عقارب ضد وزارة البيئة وقدموا شكوى قضائية من أجل غلق المصب، صدر قرار من محكمة الناحية بعقارب وجه إلى وزارة البيئة ووزارة الشؤون المحلية والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات والديوان الوطني للتطهير، إضافة إلى شركة المناولة العاملة بالمصب.
استندت شكوى سكان عقارب على الفصل 45 من دستور 2014 الذي ينص على أن الدولة ”تضمن الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي“، غير أن الشركات العاملة في مصب القنة، إضافة إلى الوزارات، لم تحترم القرار القضائي بإغلاق المصب، ما دفع بعض نشطاء الحراك إلى رفع قضية ضد الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات. يقول ثامر بن خالد لنواة: ”أنا من رفعت شكوى ضد الوكالة أواخر سنة 2019، والغريب أن اتهامي بتعطيل العمل كان الشاهد فيها من وكالة التصرف في النفايات الذي ادعى أنني منتعته من الدخول للقيام بعمله“.
في أخر أوت 2020، توصل حراك مانيش مصب إلى اتفاق مع الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، تعهدت فيه الوكالة بالحد من انبعاثات الغازات والروائح من المصب إلى حين إتمام غلقه نهائيا. لم تحترم الوكالة ذلك الاتفاق إلا مدة عشرين يوما فقط، قبل أن تلتزم بقرارها إغلاق مصب القنة يوم 27 سبتمبر 2021. في المقابل، فتح ذلك القرار أزمة تكدس النفايات في مدينة صفاقس، ما دعا الرئيس قيس سعيد إلى التدخل خلال اجتماع مع رئيسة حكومته ووزير الداخلية يوم 8 نوفمبر 2021، تحدث فيه عن أزمة مفتعلة ودعا فيها وزير الداخلية إلى حل الأزمة. في اليوم ذاته، أعلنت وزارة البيئة عن استئناف عمل مصب القنة ”باعتباره مرفقا عموميا للحد من المخاطر الصحية والبيئية والاقتصادية بالولاية“ حسب بلاغ الوزارة، ما أجج الاحتجاجات في عقارب التي تطورت إلى مواجهات مع قوات الشرطة كانت حصيلتها وفاة عبد الرزاق لشهب يوم 9 نوفمبر 2021، لتطوق قوات الشرطة المصب تأمينا لدخول شاحنات الفضلات.
جثم مصب القنة عقارب طيلة ثلاثة عشر عاما على صدور سكان عقارب، وظلت لعنته تلاحق الرافضين لوجوده حتى بعد إغلاقه. تقول منال بنعرفية من حراك ”مانيش مصب“ في تصريح لنواة ”سنستأنف الحكم ضد النشطاء وسيكون تحركنا على ضوء الحكم الذي سيصدر عن محكمة الاستئناف. لقد خبرنا الدفاع عن حقوقنا، لا ذنب للمتهمين سوى الدفاع عن الحق في بيئة سليمة وكان الأجدى محاكمة المخالفين لا المحتجين على الجرائم البيئية التي ترتكب في حقنا“.
ذكرت توطئة دستور 2022 أنّ البيئة السليمة ”ستزيد تونس الخضراء اخضرارًا“، وأنّه ”لا تنمية مستمرة دائمة إلا في بيئة سليمة خالية من كل أسباب التلوّث“. لكنّ تجريم الحراك البيئي والحكم على نشطائه بأحكام سالبة للحريّة، يكشف أنّ النضال من أجل الحقوق البيئية مازال أمرًا مزعجا للسلطة.
iThere are no comments
Add yours