يوم 19 جويلية الماضي، كان كريبان مبينغي الملقب ”باتو“، وهو مهاجر غير نظامي من الكاميرون، جالسا في شقته في مدينة زوارة أقصى الغرب الليبي، يفكر في طريقة للوصول إلى أخبار تخص زوجته فاتي وابنتهما، إلى أن اتصل به صديقه طالبا منه القدوم إلى منزله. كان باتو متأكدا أن صديقه يحمل أخبارا بخصوص زوجته وطفلته اللّتين رآهما أخر مرة يوم 16 جويلية الماضي وهو في شبه غيبوبة وسط الصحراء على الحدود التونسية الليبية، بعد أن رمتهما الشرطة التونسية هناك. طلب منه صديقه أن يكون قويا قبل أن يريه صورة جثة امرأة تحتضن ابنتها تحت شجرة صغيرة وسط الصحراء. يقول باتو لنواة ”بكيت حين رأيت الجثتين. كانت جثتا زوجتي فاتيما دوسو وطفلتي ماريا“. ومنذ تلك اللحظة، ما يزال باتو ينتظر مكالمة من أحد الليبيين ليدله على المكان الذي دفنت فيه عائلته الصغيرة.

آخر صور عائلة مبينغي قبل أن تعصف بها سياسات الهجرة

رحلة العذاب من ليبيا إلى تونس

يروي باتو مبينغي لنواة رحلة الموت التي خاضها مع زوجته وابنته طيلة يومين في الصحراء، تحت شمس حارقة وحرارة تجاوزت المعدلات العادية دون ماء أو أكل.

بدأت قصة عائلة مبينغي حين قرر الدخول إلى تونس من مدينة زوارة التي يقيم بها مع عائلته الصغيرة منذ سبع سنوات، ويقول لنواة:

خرجنا من ليبيا يوم 14 جويلية الماضي، بعد أن قضينا بها سبع سنوات دون أن نحقق حلمنا بتحسين أوضاعنا، وقررنا العبور خلسة نحو تونس. سرنا يوما كاملا تحت شمس شديدة الحرارة، ولم نكن نعلم في أي اتجاه نسير قبل أن يلوح لنا كوخ من بعيد، فتوجهنا نحوه وقضينا ليلتنا هناك. في الصباح، قدم أحد الرعاة إلى الكوخ وتبيّن أنه ملكه، طلب منا المغادرة. سألته عما إذا كنا في الأراضي التونسية أم الليبية فأجاب أننا في الصحراء التونسية ودلّنا على الطريق الذي يخلو من دوريات حرس الحدود التونسي.

نجح باتو وزوجته في الوصول إلى مدينة بنقردان يوم 15 جويلية، كانا مجهدين ونصحهما أحد السكان هناك بالتوجه إلى جامع المدينة للحصول على بعض الماء والأكل، ولكن بعد خروجهما من الجامع اعترضتهما دورية شرطة ليتم إيقافهما ونقلهما الى المنطقة الحدودية العازلة مع ليبيا.

 يقول باتو ”كانت زوجتي تعاني من آلام الدورة الشهرية، توسلت الشرطة نقلها إلى المستشفى حتى تحصل على مسكنات للألم، واستجابوا لنا قبل أن يرمونا في مكان محاط بأكياس من الرمل. يبدو أن ذلك المكان هو ما يعرف بالمنطقة العازلة. كان هناك قرابة ثلاثين مهاجرا من أفارقة جنوب الصحراء، وفي كل مرة كان عددنا يزيد“.

يقول باتو إنه تعرض إلى الضرب من قبل الشرطة التونسية، قاموا بافتكاك هاتفه الجوال، غير أنه نجح في الاحتفاظ بشريحة الهاتف. وبعد مرور ساعات هناك قدمت شاحنات تابعة للقوات التونسية وحملتهم إلى منطقة أخرى غير بعيدة عن المنطقة العازلة، وتركتهم هناك. يقول باتو مبينغي ”طلبوا منا عدم محاولة عبور التراب التونسي مرة أخرى، حينها كان خيارنا صحبة بقية المهاجرين محاولة العبور نحو ليبيا، وقررنا السير في مجموعات صغيرة حتى لا نجلب الانتباه“.

مهاجرون بمدينة صفاقس ينتظرون المجهول عقب موجة الترحيل نحو الحدود – صورة محمد كريت

سار باتو وفاتي وابنتهما صحبة جمع صغير من المهاجرين الأفارقة الذين رمت بهم الشرطة التونسية في الصحراء، غير أنه لم يستطع تحمّل الحر والعطش فانهار فيما قررت بقية المجموعة مواصلة سيرها. أصرت زوجته على البقاء معه لكنه حاول منعها. يقول باتو ”كان ذلك يوم الأحد 16 جويلية، لم أتحمل شدة العطش وخلت أنني سأموت لذلك أصررت على أن تلتحق فاتي صحبة ابنتي بمجموعة المهاجرين الذين كنا معهم، كانت تريد البقاء معي لكنني قلت لها أنني لا أقوى على الحركة وأنني لن أكون قادرا على حمايتهما، وأنه من المرجح ان أموت وأقنعتها بالالتحاق ببقية المجموعة. وفعلا تركتني فاتيما للالتحاق بالمجموعة ولا أعلم كيف وصل بها الأمر إلى الموت تحت شجرة صغيرة صحبة طفلتي“.

الهروب من تونس إلى ليبيا

حين تركته زوجته، ظن باتو أنه توفي حتى أنه لاح له شبح شخص يرشه بالماء. يقول باتو ”فتحت عيني فوجدت مهاجرا سودانيا أمامي قدم لي قارورة ماء لأشرب وحملني إلى مجموعة أخرى تتألف من قرابة ثلاثين مهاجرا من أفريقيا جنوب الصحراء قرروا بدورهم الدخول إلى ليبيا بعد أن استحالت عودتهم إلى تونس. سرنا في الصحراء ضمن مجموعات صغيرة حتى لا نجلب الانتباه إلى أن وصلنا إلى الحد الليبي ليلا، انتظرنا توقيت الأذان حتى نستغل انشغال حرس الحدود الليبي بالصلاة من أجل العبور ونجحنا في ذلك بعد أن دفع كل منا مبلغ 150 دينارا لمهرب ساعدنا في الدخول إلى ليبيا. عدت إلى الشقة التي كنت أقطنها في زوارة وكنت أظن أنني سأجد زوجتي وطفلتي قد سبقتاني إلى هناك لكنني لم أجد أحدا“.

دخل باتو إلى ليبيا يوم الأحد 16 جويلية ليلا، وظل يستفسر عن مصير زوجته وابنته لدى بعض المهاجرين، قيل له إن مجموعة تتكون من قرابة ثلاثين شخصا من أفارقة جنوب الصحراء قد أوقفهم الدرك الليبي على الحدود وافترض أن زوجته قد تكون ضمن تلك المجموعة. كان يقوده إحساس بأن مكروها قد أصاب زوجته وابنته إلى ان نشر الصحفي الليبي أحمد خليفة على مواقع التواصل الاجتماعي صورة جثتي امرأة وطفلتها.

 يقول الصحفي خليفة لنواة ”كنت اول من نشر صورة جثتي المهاجرة الإيفوارية وابنتها. لم أكن صاحب الصورة لكنني تحصلت عليها من درك الحدود الليبي الذي عثر على الجثتين بعد أن أخبرهم أحد المهاجرين كان ضمن العالقين في الصحراء بعد أن طردتهم الشرطة التونسية من أراضيها، أنه شاهد في طريقه جثتين لامرأة وابنتها تحت شجرة صغيرة، ودلّهم على مكانهما، قبل أن تدفنا في إحدى المقابر قرب مدينة طرابلس“.

كانت فاتيما دوسو تبلغ من العمر ثلاثين عاما، وهي مهاجرة غير نظامية قدمت من الكوت دي فوار فقدت والديها منذ مدة طويلة وعاشت مع أقربائها. تقول دجينيبا دوسو وهي إحدى قريباتها في كوت ديفوار، التي تربت معها فاتيما في تصريح لنواة ”دُفنت فاتي وماريا في طرابلس ولن نسعى إلى جلب جثتيهما لدفنهما في بلدنا لأن ذلك هو قدرهما ومن الأفضل بقاء جثتيهما دون نبش حيث دفنتا في طرابلس“.

تدافع تونس عن سياستها تجاه ملف المهاجرين غير النظاميين منذ احداث صفاقس بداية جويلية الماضي، بالقول إنها تلتزم بكل المواثيق الإنسانية في معاملة المهاجرين غير النظاميين، وكانت وزارة الداخلية قد قالت في بلاغ لها صدر يوم 23 جويلية الماضي بعد انتشار صورة جثة فاتيما دوسو وابنتها، بأنها ”مزاعم وافتراءات من شأنها المساس بصورة تونس والتونسيّين وتشويه المؤسّسة الأمنيّة لغايات مشبوهة وتوظيف بعض الأطراف لملفّ الهجرة غير الشرعيّة لغايات سياسويّة خاسرة“،

في حين تفيد الشهادات وتقارير المنظمات الحقوقية إضافة إلى عشرات مقاطع الفيديو والصور، بإلقاء السلطات التونسية لإعداد هامة من مهاجري جنوب الصحراء على الحدين الليبي و الجزائري. وبعيدا عن حسابات السلطة السياسية ولعبة الكواليس بين السلطات التونسية والليبية وحتى الجزائرية، تطعن جثث المهاجرين المبعثرة وسط الصحراء الإنسانية أو ما تبقى منها في مقتل، لتفوح رائحة العنصرية المقيتة ممزوجة بشعوبية منفلتة، سيطول حتما أمد محو آثارها المخزية.


مهاجرو أفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس: الرواية المضادة

وسط ساحة باب الجبلي بمدينة صفاقس، يتكدّس أكثر من مائتي مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء بعد أن طُردوا من منازلهم التي استأجروها. كانت تلك إحدى أكثر علامات حنق سكان مدينة صفاقس على تواجد المهاجرين هناك ومشاركتهم العيش في مدينتهم.