منذ أكثر من أسبوعين، يرابط مهاجرون من مختلف الأعمار في حديقة قليلة الأشجار، بعضهم ينتظر مرور الأزمة التي عصفت بهم إثر مقتل تونسي في طريق المهدية، وآخرون يسابقون الوقت من أجل الحصول على فرصة لإيجاد مكان لهم في أحد قوارب الهجرة غير النظامية التي تنطلق من أحد شواطئ مدينة صفاقس، رغم أملهم الضئيل في الوصول إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط. نجا أغلب المرابطين في حديقة باب الجبلي من حافلات الترحيل التي رمت بقرابة أربع مائة مهاجر غير نظامي في الصحراء على الحدود التونسية الليبية، غير أن هؤلاء الناجين لا تزال تحاصرهم تفاصيل ما سمَّوه بليلة الرعب وحكايات أصدقائهم الذين رمت بهم الشرطة التونسية في الصحراء.

ضحايا السرقة والعنف

يؤمن أغلب من حاورهم موقع نواة من سكان مدينة صفاقس أن اختيار المهاجرين غير النظاميين الإقامة في مدينتهم هو مخطط من أجل الاستحواذ عليها، وكان ذلك أحد نتائج الحملة الكثيفة التي قادها الحزب القومي التونسي طيلة أكثر من عام لما زعموا أنه كشف لمخططات استيطانية لتونس من قبل أفارقة جنوب الصحراء، وهو الخطاب ذاته الذي تبناه الرئيس قيس سعيد. يقول هيكل الطرابلسي وهو بائع خضر لنواة ”هؤلاء يحملون مخططا استيطانيا إجراميا يجب محاربته. المشكل أن الشرطة لم تضعهم عند حدهم بسبب خوفها من العراك الذين يخوضونه فيما بينهم، لذلك تولى سكان الأحياء طردهم وبقي أكثر من الثلثين منهم في صفاقس“.

تطوّق الشرطة جزءًا من حديقة باب الجبلي، أحد الأعوان الموجودين هناك قال لنواة إن الشرطة تراقب الحديقة من أجل حماية المهاجرين من السكان. وبمجرّد الاقتراب منها يظهر أحد المهاجرين ممددا تحت شجرة صغيرة يستظلّ بها، واضعًا بجانبه عكازا، كان يتوسد كيسا به صور شعاعية لساقه المُضمَّدة، بينت الأضرار التي لحقته جرّاء سقوطه من الطابق الثاني حين هرب من بعض السكان الذين اقتحموا شقته الكائنة بزنقة طقطق بالكلم 1. اسمه بانييل نووكو وهو مهاجر قدم من بوركينا فاسو.  يقول بانييل، الذي تبين شهادة طبية من القسم الاستعجالي بمستشفى الحبيب بورقيبة أنه زار القسم يوم 5 جويلية، إن جمعا من السكان اقتحموا شقته ليلا، فخاف وقفز صحبة صديقيه من الطابق الثاني، كُسرت ساقه ونُقل إلى مستشفى الحبيب بورقيبة قبل أن يستقر بحديقة باب الجبلي قرب جمع من المهاجرين الآخرين.

كان مصير عزيز كراموكو الذي قدم إلى تونس من بوركينافاسو شبيها بمصير بانييل. التقته نواة وكانت ذراعه ملفوفة بجبيرة. يروي عزيز ليلة اقتحام شقته من قبل سكان الحي الذي يقطنه ويقول:

”كسر أكثر من ثلاثين شخصا قرابة الساعة الحادية عشرة ليلا باب الشقة وكانوا مسلحين بهراوات وسكاكين، طلبوا منا الخروج من المنزل قبل أن يسرقوا كل وثائقنا وهواتفنا وأموالنا. سرقوا كل شيء بما في ذلك قوارير الغاز. خفت كثيرا وتركت كل أمتعتي، قفزت صحبة ثلاثة من أصدقائي من شرفة الطابق الأول ما تسبب  في كسر بذراعي قبل أن أنقل إلى المستشفى ثم العودة إلى العراء“.

دخل عزيز من الجزائر إلى الحدود التونسية بعد أن دفع صحبة مجموعة من المهاجرين غير النظاميين أموالا لمهرّب تونسي. وحسب روايته، فإنّ وصوله إلى تونس جاء بعد رحلة بآلاف ال@أميال مشيا على الأقدام. يقول عزيز لنواة:

”لو توفرت لي الفرصة، لعدت إلى بلدي. أفضّل ذلك على ترحيلي إلى الصحراء، خاصة أن أصدقائي تحدثوا عن موت امرأتين وعن حالة ولادة على الحدود التونسية الليبية. لا أريد أن أواجه الموت هناك. جئت إلى تونس من أجل عمل مؤقت لتوفير ثمن رحلة غير نظامية إلى إيطاليا، لكن بعد سرقة أموالنا لا أريد البقاء هنا“.

لا تختلف قصص أغلب المهاجرين غير النظاميين الذين تكدّسوا في ساحة باب الجبلي، بدأ بعضهم في التنظم وسط مجموعات يحكمها التشارك في اللغة أو الثقافة. في الشق الغربي للحديقة، يكافح الحسن المرابط هناك صحبة طفليه وزوجته الحامل من أجل تحصيل قوارير الماء وإيجاد غطاء لأطفاله.  قدم الحسن إلى تونس من سيراليوني ويقيم في صفاقس منذ شهرين. يقول الحسن لنواة ”جئت إلى صفاقس عبر الحدود الجزائرية من جهة قفصة. أحمل شهادة اختصاص في الكهرباء. شهدنا أكثر الليالي رعبا بعد مهاجمتنا في شقتنا”. قطع الحسن حديثه حين شاهد متطوعين بسترات الهلال الأحمر يوزعون قوارير صغيرة من الماء وقطعًا من الكايك الصناعي. طلب من أحد المتطوعين غطاء لكنه اعتذر بالقول إنهم لا يوزعون سوى الأكل والشرب. وبدا أن اللحاف الوحيد الذي تملكه العائلة قد استغلته فطيمة زوجة الحسن الحامل في شهرها السادس، ولفته على جسدها بعد أن تركت ملابسها في شقتهم. تقول فطيمة لنواة ”تركنا كل امتعتنا في الشقة التي كنا نستأجرها. كان أغلب من اقتحم الشقة أطفالا، كسروا باب المنزل وطلبوا منا تسليمهم كل أموالنا وهواتفنا ثم طلبوا منا الخروج وأخذوا كل أمتعتنا“. تخشى فطيمة زيارة المستشفى لتفقّد جنينها وتقول إن أصحاب سيارات الأجرة يرفضون حمل المهاجرين الأفارقة، كما أن الأطباء هناك يتعاملون معهم كأنهم “كيس قمامة“ حسب وصفها.

تكديس أدباش المهاجرين في الشارع بعد طردهم من المنازل التي كانوا يتسوغونها، صور محمد كريت

الترحيل إلى الصحراء كابوس المهاجرين

ضاقت لائحة أماني كأغلب المرابطين في ساحة باب الجبلي من تحصيل ثمن رحلة غير نظامية لإيطاليا إلى انتظار وقوف سيارات في ساعات متفرقة من اليوم قرب الحديقة لتوزع الطعام وقوارير المياه الباردة على المهاجرين، خاصة أن أغلبهم قد سُرقت أموالهم. يقول عبد الله وهو شاب يبلغ من العمر 23 عاما قدم إلى صفاقس من السينغال منذ أكثر من عام:

”افتك سكان الأحياء جواز سفري ومبلغ 500 دينارا. كنت أقطن بحي كلم 4، ودخل مجموعة من السكان إلى المنزل وطردونا منهم وأخرجوا كل أمتعتنا. قاموا بذلك في خمس شقق في العمارة التي نسكنها. قدموا ليلا وكسروا الباب واقتحموا الشقة وهددنا البعض بآلات حادة وهربنا إلى غابة تبعد قرابة كلم عن وسط المدينة. لم نعد إلى الشقة لأن أصحابها أعلمونا أنهم لن يقبلوا بتأجيرها للأفارقة رغم أننا دفعنا ثمن كراء الشهر مسبقا. قبل اقتحام منازلنا جاءت قوات الشرطة، طلبوا منا الخروج من منازلنا حفاظا على سلامتنا لكننا رفضنا ذلك، ثم غادروا قبل اقتحام منازلنا من قبل سكان الحي الذي أقطنه وهم يصيحون تونس ليست لكم“.

 ينتظر عبد الله فرصة للعبور خاصة أنه لم يعد هناك معنى لوجوده في صفاقس في ظلّ انعدام أية فرصة للعمل من أجل تحصيل ثمن الرحلة إلى إيطاليا. يقول عبد الله:

” الحل الوحيد هو العبور إلى إيطاليا. بعض أصدقائي أُجبروا على امتطاء حافلات وهم الآن على الحدود التونسية الليبية دون ماء أو طعام. لم يعد بإمكاني الاطمئنان عليهم لأنهم لا يحملون هواتف. أحد أصدقائي ذهب إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى ضدّ من اقتحموا الشقة بعد سرقة هاتفه وأمواله، لكنه وجد نفسه مرحلا إلى الصحراء في الحدود مع ليبيا. لا أعلم لِمَ يظنون أننا جئنا لنستوطن تونس. هذا البلد بالنسبة إلينا هو نقطة عبور إلى أوروبا فقط“.

 يوافق أبو زيان رأي عبد الله ويروي لنواة نجاته من الصحراء على الحدودية التونسية الليبية، بعد أن استظهر ببطاقة طالب للشرطة هناك.

قدم أبو زيان (اسم مستعار)، من تونس العاصمة حين بدأت الأوضاع تتأزم في صفاقس بناء على طلب بعض أصدقائه، لكنّه وجد نفسه مُرحَّلا إلى الحدود الليبية التونسية. يقول أبو زيان:

”قدمت إلى تونس قبل سبعة أشهر من أجل تحصيل العلم، ولدي عمل خارج أوقات الدراسة وجئت إلى صفاقس بطلب من بعض أصدقائي. لكن في إحدى الليالي اقتحم بعض السكان الشقة وأحرقوا كل شيء وأجبرونا على الخروج. تعرّضت إلى الضرب ووجدت نفسي في حافلة قبل أن نرمى على الحدود التونسية الليبية. هناك تقدم نحونا مجموعة من الشرطة الليبية وقسمونا إلى أربع مجموعات وقدموا لنا الحليب والماء. أعوان الشرطة التونسية افتكوا جوازات سفرنا وبعض وثائقنا ومزقوها وكسروا هواتفنا ولكن البعض نجح في الاحتفاظ بهواتف خبّأوها في حفاظات الأطفال“.

يُقدّر أبو زيان عدد الذين رمت بهم السلطات التونسية على الحدود مع ليبيا بين 500 و600 شخص. ويقول إن أشخاصا كانوا يرتدون سترات الهلال الأحمر، لكنهم كانوا مسلحين، قدموا لهم استمارات من أجل الحصول على بياناتهم الشخصية من ضمنها جنسياتهم وإذا ما كانوا يرغبون في ترحيلهم إلى بلدانهم.  قضى أبو زيان قرابة أسبوع في الحدود دون أكل ثم نُقل صحبة مجموعة من المهاجرين إلى معهد ثانوي في مدنين قبل السماح له بالخروج بعد التأكد من أنه طالب يملك وثيقة إقامة قانونية في تونس، حينها قرّر العودة إلى صفاقس ثم العاصمة.  يقول أبو زيان “أغلب من يريدون العودة من مدنين لا يملكون أموالا، كما أنّ أصحاب سيارات الأجرة رفضوا حمل كل من لا يملك وثائق إقامة في تونس، لذلك اضطر كثيرون منهم إلى العودة إلى صفاقس مشيا على الأقدام. هناك أشخاص دون ملابس نساء وأطفال. لا أعلم لم يُعامل المهاجرون بهذه الفظاعة فصفاقس ليست إلا مدينة للتجمع من أجل العبور نحو إيطاليا“.

يظهر تقرير للمعهد الوطني للإحصاء بعنوان ”المسح الوطني للهجرة الدولية“ أن 65 بالمائة من أفارقة جنوب الصحراء الذين شملهم المسح لا ينوون البقاء في تونس، كما قدر المسح عددهم بأكثر من 21 ألف شخص حتى نهاية العام 2021، وهو عدد ينافي الإحصاءات التي يقدمها قادة حملات الكراهية على الانترنت والتي تدعي أن عدد المهاجرين من جنوب الصحراء يصل إلى مليون شخص. خطاب الكراهية الذي اعتنقته الرئاسة بعد بيان 21 فيفري العنصري، ألحق المهاجرين بفيالق المتآمرين على النظام ومنح الضوء الأخضر لحملات العنف والترحيل القسري التي سلطت عليهم بصفاقس وغيرها من المدن التي تجمعوا بها.