بدا مجلس النواب الجديد مُرتبكًا في عمله، خاصّة في ظلّ العزوف الواضح عن الشأن السياسي الّذي تترجم في ضعف نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات التشريعيّة بدورتيها، ومن قبلهما خلال الاستفتاء على الدّستور. يُضاف إلى ذلك نظام الاقتراع على الأفراد الّذي ضيّق الخيارات والأفق أمام النّاخبين والمترشّحين على حدّ السواء. ولكن رغم ذلك بدا النوّاب متحمّسين لأداء دورهم الرقابي والتشريعي، رغم كلّ ما يُقال عن البرلمان بأنّه مجرّد واجهة ولا صلاحيّات فعليّة له.

هيمنة القروض على الحصيلة التشريعية

صادق البرلمان على تسعة مشاريع قوانين منذ بداية عهدته، منها خمس اتفاقيات قروض، يتعلّق الأوّل بدعم التطوير المندمج والمستدام لمنظومة الحبوب بقيمة 87 مليون دولار مسند من البنك الأفريقي للتنمية، فيما يتعلّق الثاني بالموافقة على اتفاقية بين تونس والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بقيمة 16 مليون دينار كويتي لتأهيل الطّرق المصنّفة. أمّا القرض الثالث فيهمّ اتفاقية قرض بين تونس والمملكة العربية السعودية لتمويل ميزانية الدّولة بمبلغ 400 مليون دولار أمريكي، فيما تخصّ الاتفاقية الرابعة تمويل ميزانية الدولة من عدد من البنوك المحليّة، مثل بنك الأمان وبنك الزيتونة وبنك تونس العالمي، إلى جانب الموافقة على عقد القرض المبرم بتاريخ 04 أفريل 2023 بين الجمهورية التونسية والبنك الافريقي للتوريد والتصدير لتمويل ميزانية الدولة بمبلغ قدره 500 مليون دولار أمريكي.

بقيّة مشاريع القوانين الّتي صادق عليها البرلمان تهمّ قطاع الصحة من خلال إحداث الوكالة الوطنية للدواء ومواد الصحة، ومذكّرة تفاهم في مادّة الضمان الاجتماعي بين تونس والكيبيك، وضبط النظام الأساسي الخاصّ بالقضاة العسكريّين، إلى جانب الموافقة على انضمام الجمهورية التونسية الى الاتفاق المنشئ لمؤسسة افريقيا للتمويل المقترح من رئاسة الجمهورية.

معظم مشاريع القوانين المصادق عليها تمّ اقتراحها من رئاسة الجمهورية، التي أسند إليها دستور 2022 في فصله 68 صلاحية المبادرة التشريعية ومنحها أولوية النظر فيها أمام المجلس التشريعي، وأفرد رئيس الدولة باقتراح مشاريع القوانين المتعلّقة بالمعاهدات ومشاريع قوانين المالية. والغريب في الأمر أنّ الرئاسة لم تكن حاضرة في اجتماعات اللجان والجلسات العامّة المخصّصة لمناقشة مشاريع هذه القوانين وشرح أسبابها، ولكنّ وزيرة الماليّة هي الّتي كانت جهة الاستماع وكأنّها تمثّل جهة المبادرة. ما يُفسّر أنّ الحكومة جهاز يساعد رئيس الجمهورية في تنفيذ سياساته، وهي بذلك تمثّل رئاسة الجمهورية في الدّفاع عن توجّهاتها لأنّ الحكومة لا تملك حقيقةَ سلطة القرار، لأنّ السلطة التنفيذيّة لم تعد ذات رأسين، وإنّما هي سلطة أُحاديّة يمثّلها رئيس الدّولة، ويعود ذلك إلى طبيعة النظام السياسي الّذي يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الدّولة بشكل يحدّ من سلطة الأحزمة السياسيّة المحيطة به. 

دور رقابي محدود

أما أداء النوّاب الرقابي، فلم يختلف كثيرًا في إجراءاته وجوهره عن المجلسَين السّابقين، حيث تطغى المداخلات ذات الطابع المحلّي ورفع مشاغل الجهات في النقاش العامّ عوضًا عن الحديث عن السياسات العامّة ومساءلة أداء ممثّلي الحكومة. ولئن كان حضور المعارضة في المجالس السابقة يمثّل علامة فارقة في الدّور الرقابي للنواب قد تحرج الحكومة وممثليها، فإنّ غيابها في المجلس الحالي يجعل من جلسات الحوار جلسات تقنية مفرغة من الطابع السياسي. فحين تمّ الاستماع إلى وزير الداخلية في 26 جويلية الجاري، لم يتمّ الحديث عن العنف البوليسي خلال المظاهرات وعن التعامل غير الإنساني مع مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء، بل تمحورت أغلب المداخلات حول تنظيم سلك العُمَد وتحسين وضعية الأمنيين وإحداث مراكز أمن وحرس. كما تميّزت مداخلات النوّاب حول مهاجري جنوب الصحراء خلال الجلسة العامّة المنعقدة بتاريخ 5 جويلية الجاري بتداول عبارات عنصرية إزاء مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء، من قبيل “الوفود غير المرغوب فيهم” وتبنّي عبارة “الهجرة غير الشرعية” عوضًا عن الهجرة غير النّظامية ورفع شعار لا سيادة وطنية وصفاقس تئن من الهجرة غير النّظامية. وهو أمر خطير وبديهي في الوقت ذاته، طالما أنّ رئيس الدّولة نفسه تبنّى نظريّة “الاستبدال العظيم” وتغيير هوية الشعب التونسي في حديثه عن “جحافل المهاجرين” غير النظاميين الوافدين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.

اختار البرلمان الحالي أن يضيّق أفق العمل المشترك عبر الاستبعاد التدريجي للصحافة ومنعها صراحة من حضور اجتماعات اللجان، وهو أمر فسّره عدد من النوّاب بعدم جاهزيّتهم في الوقت الرّاهن لحضور ممثلي وسائل الإعلام، في انتظار أن يتمكّنوا تدريجيّا من أدوات العمل البرلماني، حتّى لا تُسجَّل ضدّهم مداخلات أو مواقف قد تضرّهم مستقبلاً. ورغم قِصر الفترة التي مارس فيها النوّاب عهدتهم، إلاّ أنّها كانت كافية لتقديم صورة رديئة لبرلمان شبه صوري، يتسابق نوابه فيما بينهم لطلب ود شعبوية الرئيس ضمن منظومة سياسية ذات رأس واحد، شاركوا فيها وكانوا على وعي تامّ بمساوئها وبخطورة النهج الأحادي الّذي يسير فيه رئيس الدّولة.