ينتظر عبد الستار، وهو صاحب محل لبيع ”الشاباتي“ و”الملاوي“ بأحد أنهج العاصمة، يوميا مرور دراجات نارية تجوب الشوارع التي تنتصب بها المحلات المتخصصة في بيع تلك الأكلات، لتقديم عروض لبيع السميد والدقيق بأسعار تصل إلى ضعف سعرها الحقيقي. يقول عبد الستار لموقع نواة إنه يقتني حاجته من السميد التي تقدر يوميا بعشرة كيلوغرامات بسعر يصل إلى ثلاثين دينارا، مضيفا ”نضطر لقبول أسعارهم التي تتجاوز الضعف حتى لا نضطر إلى إغلاق محلاتنا، وهي حلول لجأ إليها بعض أصحاب محلات بيع الملاوي“.

منذ أكثر من 6 أشهر، يواجه عبد الستار يوميا، شأنه شأن أصحاب محلات الملاوي التقتهم نواة، هاجس عجزهم عن تحصيل المواد الأولية من سميد ودقيق أبيض وبالتالي إغلاق محلاتهم. يمثل محل عبد الستار وجهة جيدة لموظفين كثيرين في منطقة لافايات، ورغم الأزمة التي يواجهها بسبب نقص المواد الأولية، رفض الترفيع في سعر منتوجه. يقول لنواة ”تقلص هامش ربحي لسببين الأول هو الحصول على السميد والدقيق الأبيض بضعف سعره والثاني هو اضطراري لتغيير مواعيد فتح المحل وتقليص ساعات العمل. قبل أشهر كنت أقتني 50 كلغ من السميد ب 25 دينار أما الآن فقد وصل الثمن إلى 75 دينارا في السوق الموازية. منذ أشهر اضطررت إلى تسريح عاملتين من المحل بسبب عجزي عن دفع مرتبيهما خاصة أنني قلصت ساعات العمل. لا أملك حلولا أخرى سوى الرضوخ للسوق ”السوداء“، فانا أعيل عائلة تتكون من خمسة أفراد وعلى أن أضمن حدا أدنى من الدخل الذي يمكنني من العيش“.

الملاوي: من مصدر دخل إلى نفقات إضافية

في محل آخر لصنع الملاوي بالعاصمة، يقف صف طويل من الحرفاء الأوفياء للمحل بهدوء، يمد بعضهم أعناقهم ليطمئنوا إلى وصول دورهم قبل نفاذ العجين المرصف على لوحة معدنية، داخل المحل الصغير يطوي أحد العمال بعصبية كرات العجين قبل أن يرميها بقلق واضح فوق طبق ساخن، يقول العامل لنواة ”امتهنت صنع الملاوي قبل قرابة ثلاثين عاما، وفتحت هذا المحل منذ أكثر من عشر سنوات، صحبة ابن خالتي وهو مصدر دخل عائلتين. لكن منذ عام تقريبا نعيش هاجسا يوميا لاضطرارنا غلقه بسبب صعوبة تحصيل المواد الأولية لصنع الملاوي، اشتدت أزمتنا منذ أشهر ووجدت نفسي أمام حلين إما إغلاق المحل أو الرضوخ إلى واقع فرض علي تقليص ساعات العمل قبل وبعد فترة الذروة حتى أستطيع تلبية طلب الحرفاء وقت الغداء، وشراء السميد بضعف سعره من السوق السوداء“.

يقول صاحب المحل الذي رفض الإفصاح عن اسمه خشية غضب مزوديه بالدقيق، إنه يضطر إلى شراء عشر كيلوغرامات من السميد ب 25 دينارا في حين أن سعره لم يكن يتجاوز 14 دينارا للكمية ذاتها، ويضيف ”هناك حلقة من التجار تستغل الأزمة حيث يعمل أصحاب البيع بالجملة على بيع السميد والدقيق الأبيض بسعر أعلى إلى أشخاص من معارفهم، يقومون بدورهم ببيعها إلى محلات صنع الملاوي بضعف سعرها“.

بدورها تواجه خولة وهي عاملة نظافة، استغلال بعض تجار المواد الغذائية أزمة نقص مادة السميد وتقول لنواة ”بدأت بصنع الملاوي في منزلي وبيعها تحت الطلب، بعد إصابة زوجي بمرض نفسي وانقطاعه عن العمل. لم أكن أصنع كميات كثيرة فقد كنت أقتني علبتي سميد وكانت كافية لتحصيل خمسة عشر دينارا يوميا تمكنني من قضاء جزء من الحاجيات اليومية لعائلتي، غير أنني انقطعت منذ أشهر عن عملي الإضافي بسبب فقدان مادتي السميد والدقيق الأبيض، توجهت مرات كثيرة لمتاجر المواد الغذائية غير أنني أعدل عن شراء حاجتي حين يكون متوفرا بسبب ارتفاع السعر الذي يصل إلى ثلاثة دنانير للكيلوغرام الواحد، حيث يستغل التجار نقص هذه المادة ليحققوا هامش ربح أكبر“. تختم خولة حديثها بالقول ساخرة ”نحاول فتح أبواب جديدة للتمكن من العيش غير أنها تُغلق في كل مرة. أصبحت أفكر في الهجرة غير النظامية بعد أن كنت أخشى أن يفكر بها أحد أبنائي“.

خطاب شعبوي لمواجهة أزمة هيكلية

تواجه تونس منذ أكثر من عام أزمة غير مسبوقة في توفير الحبوب، التي تمثل قرابة 30 بالمائة من جملة وارداتها الغذائية في العام 2022. وحسب بيانات ديوان الحبوب، استوردت تونس 2.387879 مليون طن، نصفها من القمح اللين. وحسب البيانات ذاتها، بيعت 917ألف قنطار من الحبوب في جوان الماضي، وهي كمية منخفضة مقارنة بشهري جانفي وفيفري الماضيين، في حين أن الكميات المجمعة من قبل الديوان إلى غاية جوان الماضي، بلغت 7.278 مليون قنطار.

تنتقد منظمة ”آلرت“ غياب العدالة في توزيع الحبوب، وتقول في أحد بياناتها،  ”نجد نفس هذا الاختلال في توزيع مادة ”الفارينة“ المدعمة على مختلف المخابز المصنفة إذ تهيمن أقلية من أصحاب المخابز على أهم الكميات الموزعة فتكون حصة أغلب المخابز في حدود 118 قنطارا شهريا أي ما يعادل 4,5 أكياس يوميا، فتلتجأ تلك المخابز إلى استعمال مادة السميد والفارينة لتغطية الطلب على الخبز. فالقطاع شهد اضطرابات كبيرة على مستوى استيراد مادة القمح الصلب التي انخفضت بنسبة 30% خلال الخمس الأشهر الأولى من سنة 2023 مقارنة بالسنة الفارطة جراء شح السيولة وعجز ديوان الحبوب عن تمويل حاجيات السوق“.

وحسب المنظمة ذاتها، تنتفي العدالة في بيع القمح الصلب، حيث تنتفع أربع شركات متخصصة في صنع المواد الغذائية المشتقة من الحبوب على النصيب الأكبر من حصص القمح الصلب، إذ تستحوذ شركة الوردة البيضاء على 34.3 بالمائة من القمح الموزع في ماي 2022، تليها شركة السنبلة الذهبية ب 14.7 بالمائة ورندة ب 11.9 بالمائة وسنابل قرطاج ب 9.7 بالمائة.

تعجز تونس عن إيجاد حلول لتوفير حاجياتها من الحبوب في ظل مواجهتها لسنوات جافة ولارتباطها بالسوق الأكرانية التي تعيش حربا لا يعلم أحد مآلها.

 وفي الوقت الذي تراهن فيه السلطة على مواجهة الأزمة بالخطابات الشعبوية المعادية لمن أسماهم سعيد القطط السمينة، فإن انعكاسها يبدو أوضح على الفئات الأقل حظا التي تحمست بداية للخطاب السياسي الجديد، قبل أن تقف على نتائجه المباشرة التي عصفت بما تبقى من موازناتهم المالية.