في 21 سبتمبر 2023، صدر بالرائد الرسمي ثلاثة أوامر رئاسية، يتعلّق الأول بالدعوة إلى الاقتراع على الانتخابات المحليّة في 24 ديسمبر 2023. أمّا الثاني فيتعلّق بتحديد تراب أقاليم الجمهورية التونسيّة، والمحدّدة بخمسة أقاليم، والولايات الرّاجعة إليها بالنّظر. فيما يخصّ الأمر الرئاسي الثالث تقسيم الدوائر الانتخابية وضبط عدد المقاعد المخصصة لها لانتخابات أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم. ”هي مجموعة من الأفكار المتناقضة ولا يوجد فيها قراءة معمّقة للأوضاع ومسألة التنمية والسلطة المحليّة“، يقول حاتم المليكي، الخبير في الحوكمة والتنمية المحليّة لنواة.
تقسيم انتخابي أم إداري؟
الانتخابات المحليّة التي ستفضي إلى إحداث المجلس الوطني للجهات والأقاليم هي تتويج لمسار ارتآه قيس سعيّد وحلم بتحقيقه منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وهو لا ينفكّ يردّد ذلك على مسامع وزرائه. هذا المسار ينطلق من المجالس المحليّة التي يُنتخَب أعضاؤها انتخابًا مباشرا من الأفراد المسجّلين في دفاتر هيئة الانتخابات، ثمّ تُنظّم قُرعة على مستوى المجالس المحليّة لاختيار أعضاء المجالس الجهويّة. أمّا مجالس الأقاليم، فتتكوّن من أعضاء المجالس الجهوية الراجعة بالنّظر ترابيّا إلى ذلك الإقليم. ”إلى حدّ الآن لا يوجد مبرّر لتقسيم التراب إلى أقاليم. فبالنسبة إلى تونس لا توجد مطالب من بعض الجهات لتكوين أقاليم تعبّر عن إرادتها نظرًا لخصوصيتها التاريخية أو الثقافية أو الاقتصادية المشتركة“، يُحلّل حاتم المليكي، مضيفًا أنّ هذا الأمر يُمكن أن يُقبل في دول مُقسَّمة بطبيعتها إلى أقاليم وهو ما لا ينطبق على تونس لأنّ ترابها موحّد.
من ناحية ثانية، لم يتمّ تسجيل صعوبات في التنسيق بين الولايات فيما بينها حتّى يتطلّب الأمر تقسيمًا إضافيًّا للتراب الوطني على أساس الأقاليم، بالإضافة إلى عدم التفكير في كيفيّة تمويل مجالس الأقاليم وفي مدى حاجة الناخبين إلى إضافة جسم وسيط إلى جانب البلديات والمجالس المحليّة، للتعبير عن إرادتهم. ”لا شيء يستوجب خلق فضاء آخر للتعبير عن أفكارهم“، يضيف الخبير في الحوكمة، موضّحًا الفرق بين الأقاليم الإدارية والأقاليم المنتخَبة، إذ هناك فرق بين أن تنسّق الإدارات الجهوية فيما بينها، على مستوى شبكات المياه أو التطهير أو بين الوزارات مثل وزارة النقل أو وزارة التجارة، وبين أقاليم تسيّرها مجالس منتخبة تعبّر عن إرادة شعبية وتمارس صلاحياتها بتفويض شعبي وديمقراطية انتخابية. ”لا يوجد نصّ قانوني إلى حدّ الآن يوضّح صلاحيات هذا المجلس، ولا توجد مؤشرات حول الاعتبارات التنموية المستوجبة لإحداث أقاليم تسيّرها مجالس منتخبة. إلى حدّ الآن هو سبب سياسي يتعلّق بتركيز المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي يمثل غرفة تشريعية ثانية”، يُعلّق المليكي.
خمسة أجسام وسيطة جديدة
بعد أيّام من اتّخاذ التدابير الاستثنائية، لم ينفكّ رئيس الدّولة ينتقد بشدّة الأجسام الوسيطة، ثمّ بادر بحلّ عديد الهيئات والمؤسسات مثل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والمجلس الأعلى للقضاء، ملغيا البناء اللامركزي الّذي لم يكتمل ليقيم على أنقاضه ”البناء القاعدي“. وبينما كان المسار اللامركزي مبنيًّا على مرجعيّة دستورية وقانونية ممثّلةً في مجلّة الجماعات المحليّة -الّتي لم يعد لها معنى الآن-، فإنّ البناء القاعدي يندرج في إطار التجربة فقط، ما يعكس تخبّط السلطة في إرساء ديمقراطية محليّة. فالآن هناك بلديات، ومجالس محليّة قائمة على أساس المعتمديات، ومجالس جهوية، ومجالس أقاليم، ثمّ المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الّذي قد يكون نسخًا للمجلس الأعلى للجماعات المحليّة المنصوص عليه بدستور 2014 وبمجلّة الجماعات المحليّة، إضافة إلى أن البناء اللامركزي لم يكتمل ولم يتمّ تقييمه حتّى يُلغى تمامًا ويحلّ محلّه تمشٍّ آخر.
غياب النصوص التنظيمية والموارد المالية
يُعزى فشل المسار اللامركزي لعدّة أسباب من بينها غياب الموارد الماليّة الكافية لتطوير البلديّات كجزء من الجماعات المحليّة، -وهي الجزء الوحيد الّذي تمّ إحداثه في فترة الانتقال الديمقراطي-. أمر يتكرّر الآن مع المجالس المحليّة والجهوية ومجالس الأقاليم. فهي مجالس منعدمة الموارد لا يوجد نصّ قانوني واضح يحدّد صلاحياتها وكيفيّة تمويلها، خاصّة وأنّ الفصل 3 من الأمر المتعلق بتحديد تراب أقاليم الجمهورية التونسية ينصّ على أن ”تضع الولايات المكوّنة للإقليم على ذمّة مجالس الأقاليم كلّ الوسائل البشريّة والماديّة اللازمة بما يضمن حسن أدائها لمهامّها“، ما يعني أنّ المشاريع والنفقات المحمولة على الأقاليم تعود بالضرورة إلى السلطة المركزية ممثّلة في والي الجهة المكوّنة للإقليم، الّذي يحدّد سقف النفقات وكيفيّة صرفها وشفافية المحاسبة وطريقة خلاص منح الأعضاء وأجور الموظّفين، في ظلّ غياب نصّ قانوني ينظّم هذه الإجراءات. وفي ذلك تراجع عن مكسب اللامركزية التي تأسست على فكرة التدبير الحرّ والاستقلالية الإدارية والمالية عن السلطة المركزية.
ومن المطروح أيضًا أن تتنازع المجالس البلدية الصلاحيات مع المجالس المحليّة، خاصّة فيما يتعلّق بخدمات القرب، مثل التنوير وتعبيد الطرقات. ما يقتضي إمّا ملاءمة أحكام مجلّة الجماعات المحليّة مع مقتضيات البناء المحلّي الجديد، أو إحداث نصّ قانوني جديد يُصادق عليه البرلمان من أجل نقل صلاحيات البلديات إلى المجالس المحليّة.
ضعف نسبة التأطير وتواضع إمكانيات البلديات في استخلاص الموارد الجبائية هي السمة الأساسية للجماعات المحليّة منذ تركيز البلديات سنة 2018. الدولة لم تحاول إيجاد حلول لهذه المعضلة ولم تكلّف نفسها مساءلة الهياكل المحليّة والمركزية والاستئناس بالخبراء لإيجاد الحلول المناسبة. لكنّها فضّلت نسف المسار وإعادة الأخطاء نفسها من خلال عدم التفكير في موارد المجالس المحلية والجهوية والإقليمية، على أمل أن تكون النتائج مغايرة. الانتخابات المحليّة ستُجرى في 24 ديسمبر الجاري، وهي رابع انتخابات تُنظّم في ظرف سنتين ونصف منذ قلب المنظومة في 21 جويلية 2021، إثر تنظيم الاستفتاء على تغيير الدستور، والانتخابات التشريعية بدورتَيها، التي كشفت عزوف الناخبين عن الشأن العامّ وعدم قدرة الانتخابات كحدث سياسي على التعبئة الشعبية.
iThere are no comments
Add yours