دعوات شعبية علت إلى السطح لمقاطعة البضائع التي لها علاقات مع الكيان المحتل، فراجت صفحات التواصل الاجتماعي ومجموعاته التي تنشر لوائح لهذه المنتوجات دون أن تتغاضى عن تقديم البدائل والدعوة النشطة للمقاطعة ونشر هذا الفعل السياسي بين الناس والمواصلة فيه.
“بويكوت”
سنة 1879، شهدت إيرلندا، التي مازالت خاضعة للتاج البريطاني الاستعماري، مجاعة أثارت اضطراب ما بعد الصدمة التي خلّفتها المجاعة الكبرى (1845 – 1849) والتي راح ضحيتها حوالي مليون إيرلندي علاوة عن المهاجرين قسرا. لم تكن مجاعة 1879 بنفس وحشية سابقتها من حيث عدد الموتى كما أنها تمركزت محليا في غرب أيرلندا فقط. لكن ما يزال القاسم المشترك قائما من حيث مسؤولية التشريعات الاستعمارية البريطانية في قتل الناس جوعا وتخلخل النظام الرأسمالي الذي تأزّم خلال ”الكساد الطويل“ انطلاقا من سنة 1873.
نشبت في نفس السنة حركات احتجاج ومقاومة فلّاحية عُرفت باسم ”حرب الأرض“ التي امتدت – حسب أكثر التقديرات محافظة – حتى سنة 1882. قادت ”رابطة الأرض الوطنية الأيرلندية“ التحركات ضد قوانين ملكية الأرض الجائرة التي تنحاز للمُلّاك الكبار مطالبين بإصلاح زراعي يحقق حدا أدنى للفلّاحة من الوصول إلى الأراضي. تكثّف احتجاج في ”مقاطعة مايو“ شمال غرب ايرلندا ضد مالك أرض متغيب يُدعى ”اللورد إيرني“ بعد أن تضررت المحاصيل سنة 1880 فطالب الفلّاحة بتخفيض في معاليم استئجار الأرض ولكنهم قوبلوا بالرفض والقمع حيث أن اللورد كلّف وكيل أعماله بطرد 11 مستأجر للأرض.
على إثر ذلك، دعى القائد ”تشارلز ستيوارت بارشال“ الفلّاحة لمقاطعة اللورد إيرني وكل من يتعامل معه حتى المستأجرين الجدد الذين عوّضوا المستأجرين المطرودين. شملت حركة المقاطعة وكيل أعمال اللورد الذي كان مسؤولا على تطبيق أوامر المالك المتغيب واقتطاع أجور الكراء من الفلّاحة فتم نبذه في المقاطعة الريفية الأيرلندية لدرجة أن ساعي البريد كان يرفض إيصال الرسائل إليه. تلاقفت الصحف المحلية والعالمية مثل نيويورك تريبيون والتايمز أخبار حملة المقاطعة فأطلقت على هذه الحركة الاحتجاجية إسم ”بويكوت – Boycott“ نسبة للقب وكيل الأعمال ”تشارلز بويكوت – Charles Boycott“.
المقاطعة وحركات التحرير الوطني
يمكن اختزال الاستعمار في كونه عملية تحويل قسرية للقيمة من منطقة إلى أخرى من خلال القهر العسكري والاقتصادي عبر تحالف الحكومات الاستعمارية مع الشركات الخاصة تحت غطاء قوانين التجارة العالمية. ولعل من أبلغ الأمثلة على هذا المسار ”شركة الهند الشرقية“ البريطانية التي عششت في جنوب شرق آسيا لما يقارب 270 سنة تنهب ثروات المنطقة وذلك بـ ”أمر من ملك انجلترا وبرلمانها“ كما يشير إلى ذلك شعارها[1]. يفضي هذا التحالف بين السياسة والاقتصاد إلى ضمان استمرارية الوضعية الاستعمارية من خلال تمويل العمليات العسكرية وترسيخ التبادل غير المتكافئ وتعميق تبعية المستعمَر للمستعمِر.
مثلت حملات المقاطعة عنصرا مهما في حروب التحرير الوطني بالتوازي مع الدور القيادي للمواجهة المسلّحة والتحالفات الدولية والتظاهرات السياسية. ففي الهند مثلا، انطلقت ”حركة سواديشي“ سنة 1905 كحركة مقاومة للاستعمار البريطاني من خلال الدعوة إلى الاعتماد على الإنتاج المحلي من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي. ركّزت الحركة على منتجات النسيج خاصة والتي مثلت أهم أعمدة الاستعمار البريطاني الذي حققت من خلاله انقلترا ”الثورة“ الصناعية من خلال نهب القطن من الهند وإغراق السوق المحلية بمنتجاتها[2]. مثلت ”حركة سواديشي“ عنصرا هاما في حركة تحرير الهند التي قادها المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وغيرهما ممن كانوا منخرطين بعمق في حركة مقاطعة المنتجات البريطانية حتى بلغت نسبة انخفاض مبيعاتها إلى 20%.
تزامنا مع العدوان على غزة، كثف نشطاء الحملة التونسية لمناهضة التطبيع الدعوات لمقاطعة منتجات شركات متهمة بالتعامل مع الاحتلال الاسرائيلي والاستثمار في الأراضي المحتلة. نواة التقت الناشطة الاء الهادف، عضوة الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، للحديث عن مقاييس المقاطعة الاقتصادية ومدى تفاعل التونسيين و تأثرهم بهذه الحملة.
أما في الصين، فقد انبثقت حركة الرابع من ماي سنة 1919 كحركة ثقافية معادية للإمبريالية تضم ضمنها طلبة يعارضون الاحتلال الياباني لمنطقة شاندونغ الصينية بمقتضى معاهدة فرساي. خيّر هؤلاء الطلبة المرور من التعبئة السياسية النخبوية إلى استنهاض قواعد أكثر شعبية. دعوا إلى مقاطعة البضائع اليابانية لتحقيق غايتيْن متوازيتيْن: الضغط الاقتصادي على اليابان من جهة والسعي لتطوير الصناعة الوطنية الصينية من جهة أخرى. لاقت حملة المقاطعة استجابة شعبية واسعة حيث أن الغرف التجارية قطعت علاقاتها الاقتصادية مع الشركات اليابانية كما أن العمال الصينيين قاطعوا العمل في المصانع الممولة من قبل الحكومة الاستعمارية اليابانية مثلما تخلّى المستهلكون الصينيون عن البضائع اليابانية بينما كثّف الطلبة تحركاتهم لنشر حملة المقاطعة ومنع الناس من التعامل مع الشركات اليابانية واقتناء منتجاتها.
لم يخل تاريخ الحركة الوطنية التونسية من حملات المقاطعة أيضا، ففي سنة 1912، بعد ما يناهز الأشهر الثلاث من أحداث الجلاز في العاصمة التونسية، شب حادث دهس بالترامواي في محطة باب سعدون راح ضحيته طفل تونسي. خرجت الجماهير متظاهرة في الشوارع وقررت خلال تحركاتها مقاطعة شركة الترامواي بتونس، المملوكة فرنسيا، وذلك ضد السياسات التمييزية التي تتوخاها ضد العمال التونسيين. كانت لحملة المقاطعة هذه آثار مالية باهظة على الشركة مما دفع السلطات الاستعمارية الفرنسية إلى قمع قياداتها من حركة الشباب التونسي. وتعتبر هذه الحملة وما رافقها من تحركات محطة من محطات بناء الحركة الوطنية.
عند ذكر حملات المقاطعة، لا يمكن التغاضي عن النضال ضد الفصل العنصري الذي جثم على جنوب إفريقيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أرست حركة المؤتمر، رافعة حركة التحرير الوطني في جنوب إفريقيا، شكل المقاومة هذا بين المواطنين السود داخل البلاد المفصولة عنصريا كما أنها وسّعت من دائرته من خلال دعوة قائد الحركة ”ألبرت لوثولي“ للشعب البريطاني مقاطعة المنتجات الجنوب-إفريقية. لاقت هذه الدعوة رواجا كبيرا في صفوف الشعب البريطاني وبقية النشطاء السياسيين الأفارقة اللاجئين والمنفيين.
حركة BDS
يوم 9 جويلية من سنة 2005، أرسلت 171 منظمة غير حكومية فلسطينية نداء يدعو إلى مقاطعة الكيان الصهيوني. تكونت إثر هذا النداء حركة اشتهرت بإسم BDS وهي الأحرف الأولى من عبارات Boycott (مقاطعة) وDivestment (سحب الاستثمارات) وSanctions (فرض العقوبات).
تُعرّف الحركة نفسها كالتالي:
”حركة فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار-الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولاً إلى حق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات“.
استلهمت الحركة نمط احتجاجها ومقاومتها من حركة معاداة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا وذلك إثر اللقاءات التي جرت بين قيادات الحركتين. تعتمد الحركة العديد من الوسائل النضالية المتاحة مثل المظاهرات أمام المنشآت الاقتصادية الإسرائيلية أو تلك التي تدعم الكيان علاوة على نشر العرائض وحث الأفراد على المقاطعة التي تشمل المجالات الاقتصادية والثقافية والأكاديمية. تدعو حركة BDS إلى مقاطعة الشركات التي تقدم خدمات للاحتلال أو تلك التي تستغل الموارد الطبيعية الواقعة على الأراضي الفلسطينية أو التي تستعمل يدا عاملة فلسطينية بأجور خسيسة.
سجلت BDS نجاحات مهمة من خلال تكثيف جهودها حيث أن حملة المقاطعة قد تسببت في انخفاض بنسبة 64% من الاستثمار المباشر ما بين سنتي 2014 و2013. من جهة أخرى، غادرت شركة ”فيوليا“ الفرنسية مجال الكيان المحتل إثر خسارة ناهزت 20 مليار دولار من العقود العمومية.
تشير ورقة بحثية نشرها معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) سنة 2014 إلى أن قطاع الزراعة يخسر ما يناهز 30 مليون دولار جراء حملات مقاطعة السلع الغذائية القادمة من المستعمرات. كما أن جهود المقاطعة على الصعيد العالمي قد تسببت، سنة 2012، في تراجع الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 7% مقارنة بسنة 2011. يمكن ترجمة هذه النسبة بخسارة ما يقارب 3500 وظيفة داخل الكيان.
أما وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية فقد نقلت عن رئيس الغرفة التجارية للاحتلال بأن نسبة الاستهلاك والشراء الفلسطينيين لمنتجات المستعمر قد انخفضت بنسبة 35% جراء حملة المقاطعة التي انطلقت سنة 2010. هكذا تضررت حوالي 30% من الشركات الصهيونية حيث تم غلق 70 منشأة اقتصادية وطرد 10 آلاف عامل وعاملة في المستعمرات. وعلى مستوى المقاطعة في البلدان الأوروبية، فإن الصادرات الصناعية والتجارية نحو الإتحاد الأوروبي قد انخفضت بنسبة 13% وانحدرت الصادرات الفلاحية والغذائية بنسبة 50% سنة 2013.
حاصر حصارك
إن الاستعمار بجميع أشكاله المباشرة والجديدة تمظهر شَرطي للنظام الرأسمالي العالمي المحكوم بالتوسّع. فالإنتاج السلعي اللامتناهي بغاية الربح الدائم لا يتحقق دون استغلال المواد الأولية للإنتاج واليد العاملة المنتجة كما أنه يسعى باستمرار نحو فتح الأسواق لترويج هذه السلع وإعادة إنتاج النظام برمّته. يرتكز النظام الاقتصادي العالمي على التبادل اللامتكافئ بين مركز يراكم رأس المال وأطراف يتم امتصاص القيمة منها وذلك لإعادة إنتاج نفسه والاستمرار في الهيمنة السياسية. تتمثل أعمدة إعادة إنتاج هذا النظام في تواصل جهود نهب الثروات الطبيعية واستغلال اليد العاملة الرخيصة والعمل الدؤوب على منع المشاريع الاقتصادية السيادية واستدامة حالة التبعية.
ليس مفهوم التبادل اللامتكافئ خطابا إيديولوجيا بل إن هذا المسار مثبت بالأرقام. فقد قام عالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية جيسون هيكل سنة 2021 بحساب قيمة هذا التبادل غير المتكافئ في الفترة ما بين 1960 و 2018، أي في الفترة التي نعتبرها ”ما بعد-استعمارية“ عند أفول الاستعمار المباشر وتركيز دول مستقلة. بلغت نسبة تحوّل القيمة من أطراف العالم إلى مركزه ما يناهز 62 تريليون دولار أمريكي (بحساب 2011). من أجل فهم أوضح لهذا الرقم، بلغت هذه النسبة 2.2 تريليون دولار سنة 2017 أي ما يُعادل كلفة القضاء على الفقر المدقع في العالم 15 مرة.
إن تنصيب الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي ليس إلا امتدادا للذراع الإمبريالية وترسيخا للنظام الاقتصادي العالمي حيث أن هذا الكيان يعمل باستمرار على منع انعتاق منطقة غنية بالموارد الطبيعية الوفيرة وباليد العاملة الكثيرة وبالوعي السياسي التاريخي الممتد لقرون وإن أفل نجمه فإن شمسه لا تغيب. تتمثل أهمية المقاطعة في أنها تضرب النظام العالمي في قلب وسائله الاقتصادية التي يعتمد عليها لديمومة هيمنته واعتدائه على البشرية. كما أنها تعبير عن تكاتف جماعي بين مجموعات بشرية تتعرض للظلم ولا تملك وسائل أخرى لرفعه.
آخر القول، فإنه من الحري بالطبع الإشارة إلى أن المقاطعة وحدها غير ذات جدوى إن لم تترافق مع الدعوة إلى العمل على بناء اقتصادات سيادية وطنية تفك الارتباط مع النظام العالمي.
[1] Auspicio Regis et Senatus Angliae – By command of the King and Parliament of England
[2] Utsa Patnaik (2021), An alternative perspective on the agrarian question in Europe and in the developing countries, Handbook of Critical Agrarian Studies, Edward Elgar Publishing, 45-51, ISBN: 978 1 78897 245 1 يمكن الإطلاع على تلخيص ومراجعة لهذا المقال باللغة العربية هنا.
iThere are no comments
Add yours