حراك ثائرات هو حراك نسوي ساهمت جمعية أصوات نساء في تأسيسه مع نساء عاملات في القطاع الفلاحي، يصل عددهنّ إلى مائتَي عاملة من مناطق مختلفة على رأسها سيدي بوزيد وصفاقس والقيروان، رفضًا لسياسات التفقير والتهميش والتشغيل الهشّ. هذا الرفض كان محور التحرك أمام وزارة المرأة في إطار حملة ضد السياسات المسببة للهشاشة الاقتصادية والإقصاء الاجتماعي المسلّط على النساء، يومًا قبل إحياء اليوم العالمي لمناهضة جميع أشكال العنف ضد النساء الّذي يصادف يوم 25 نوفمبر وحملة الستة عشر يوما لمناهضة العنف ضد النساء الّذي تنظّمه وزارة المرأة. ”دورنا يتمثّل في دعم العاملات بالقطاع الفلاحي وليس السطو على مطالبهنّ وأصواتهنّ، فهو دور وساطة ومساعدة على التنظّم“، تقول سارة بن سعيد، المديرة التنفيذية لجمعية ”أصوات نساء“ لنواة، وتضيف: ”النساء العاملات في القطاع الفلاحي هنّ اللاتي قرّرن الانتظام في حراك، ودورنا كان مساعدتهنّ على البناء والتأسيس. لديهنّ وعي كبير بحقوقهنّ وبقيمة عملهنّ ويخطّطن لتنظيم إضراب نسوي عن العمل، فهنّ يمثلّن 80% من القوة العاملة في القطاع الفلاحي“.

ظروف عمل صعبة

تحرّك النساء العاملات في القطاع الفلاحي لتحسين ظروف عملهنّ بدأ يتطوّر منذ 2019 إثر الحادث الّذي أدّى إلى وفاة أكثر من 10 عملة نتيجة اصطدام الشاحنة التي كانت تقلّهم بشاحنة أخرى. هذا الحادث كان سببًا في التعجيل بالمصادقة على القانون عدد 51 لسنة 2019 المتعلق بإحداث صنف نقل خاص بعاملات وعمال القطاع الفلاحي. ”إلى الآن مازلت الشاحنات تحمل أعدادًا كبيرة منّا، تصل أحيانا إلى الثلاثين أو الأربعين شخصًا. يوم الحادث المروّع أذكر أنّني حملت ذراعي حوريّة (إحدى ضحايا الحادث) ووضعتهما في الشاحنة. عندما أتذكّر هذا المشهد يقشعرّ جسدي“، تستحضر نورة العاملة بالقطاع الفلاحي تفاصيل الحادث وما حدث لزميلتها.


تبدي بعض النساء العاملات في الحقول تذمّرا من العمل بأجر زهيد لا يتجاوز 12 دينارا عن كلّ يوم عمل. ولكنّهن يُبدين في المقابل تعاطفهنّ مع المؤجّر، الّذي يتكبّد بدوره خسائر بسبب شراء المبيدات والأسمدة وخلاص أجور سائقي شاحنات نقل العاملات. هنّ لا يطلبن سوى العيش بكرامة في ظلّ تضخّم الأسعار وينتقدن السّلوك السّلبي للعازفين عن العمل اليدوي والفلاحة الجاهدة. ويسردن روتينهنّ اليوميّ بشكل يجمع بين الرّضا والأمل في غد أفضل، مبديات فخرهن بالعمل في الحقول بعيدا عن صخب المدينة وضغطها.


لا يخضع العمل الفلاحي إلى وقت إداريّ ينظّمه، ولا تعلم المرأة عند خروجها في أيّ حقل ستعمل. ”على المرأة أن تكون مستيقظة منذ الرابعة صباحًا، وفي كلّ مرّة أشتغل في مكان. نتنقّل في بعض الأحيان مسافات تصل إلى أربعين كيلومترًا عن محلّ سكنانا“، تقول ناجية، عاملة في القطاع الفلاحي من جبنيانة التابعة لولاية صفاقس، وتضيف: ”أستيقظ في الساعة الرابعة وأعود إلى بيتي في وقت متأخر، يصل إلى السابعة مساءً“.

24 نوفمبر 2023، عاملات في القطاع الفلاحي يتظاهرن أمام وزارة المرأة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة رفضا للسياسات الرسمية المتسببة في معاناتهن

هذا الانطباع تتقاسمه النساء الّلاتي حاورتهنّ نواة، رغم أنّ كلّ واحدة منهنّ تعمل في منطقة، وهنّ لا يعرفن بعضهنّ البعض بالضرورة. فسناء من القيروان تقول إنّ على المرأة أن تكون مستيقظة منذ الرابعة صباحًا، فيما تقول نورة القادمة من سيدي بوزيد إنّ يومها يبدأ في الثالثة صباحًا، لتعدّ الأكل لعائلتها وتنطلق لعملها في الرابعة والنصف صباحًا، ثمّ تعود إلى بيتها تقريبا في الرابعة مساءً، بعد اثنتَي عشرة ساعة من العمل. ”في حرارة الصيف القائظ أعمل جنبًا إلى جنب مع الرّجل لجمع رؤوس الثوم. هو يتقاضى 25 دينارًا وأنا لا آخذ سوى عشر دنانير“، تضيف نورة بمرارة، لتكشف عن التمييز في الأجور بين الرجل والمرأة في العمل الفلاحي. ”أجرتنا اليوميّة تُمنح لسائق الشاحنة، ليوزّعها على العاملات، فيأخذ منها أجرة التنقّل ويمنحنا ما تبقّى من المال. صاحب الأرض يفضّل تشغيل المرأة لأنّها تتقاضى أجرًا أدنى وتتقبّل مختلف ظروف العمل ولا تعارض ولا تشكو. في حين أن الرجل يعترض على سوء المعاملة، ما يجعل صاحب الأرض يفضّل المرأة على الرجل“، تلخّص سناء وضعية المرأة العاملة في القطاع الفلاحي.

عمل ذو مخاطر وبلا تأمين

أمّا عن المخاطر التي تحفّ العمل الفلاحي، تستحضر كلّ النساء اللائي تحدّثت إليهنّ نواة عن الصعوبات التي تعترضهنّ. ”عندما تصعدين إلى الشاحنة، لا تدرين ماذا سيحلّ بك“، تقول سناء، فيما تقول ناجية إنّها تقطع مسافة بين الخمس والست كيلومترات للالتحاق بشاحنة النقل، لتواجه البرد والخنازير البرية وحتّى عناصر إرهابية. ”أتقاضى 13 دينارًا في اليوم لقاء جني الزيتون، في حين يجني صاحب الأرض خيرات ربي من تعبنا وجهدنا“، تضيف ناجية بمرارة. فيما تتدخّل سناء بالقول: ”هم يمرّون بجوار الأتربة ولكنّهم لا يعرفون رائحتها. نحن من نجمع الغلال والخضر بأيدينا ونحملها فيما بعد على ظهورنا“. وتضيف: ”هناك امرأة تشتغل معنا في جني الزيتون سقطت من السلّم وخضعت للعلاج وهي الآن طريحة الفراش وربّما لن تعود إلى العمل ولن تستطيع تأمين قوت يومها“. ”لنا الله!“ تقول ناجية من الطرف الآخر.

تسعى المحتجات لتحسين وضعيّتهنّ، وقرّرن القدوم إلى العاصمة في محاولة منهنّ لوضع الدّولة أمام مسؤوليّاتها. ”تحدّثت إلى وزيرة المرأة في 2021 ورأت عن كثب ظروف عملنا. سألتني عن الضمان الاجتماعي فقلت لها إنّنا لا نعمل لدى فلاح واحد ولكنّنا في كلّ مرة نشتغل في حقل. ونحمد الله أنّ أصحاب الأرض يمنحوننا أجرتنا اليومية، فكيف لنا أن نطمع في الحصول على الضمان الاجتماعي؟“ تقول نورة أصيلة سيدي بوزيد لنواة، وتضيف: ”بعد يوم واحد من حديثي مع الوزيرة، قدم مسؤول وطلب منّا تقديم بطاقات تعريفنا والتوجه إلى مقرّ المعتمدية، وإلى يومنا هذا لم يحدث شيء“.

 مماطلة المسؤولين أمر أشارت إليه كلّ من سناء وناجية، إذ قالت سناء إنّها قدمت العام الماضي إلى العاصمة صحبة عدد من النساء، ووعدهنّ المسؤولون بالنظر في ملفّهنّ ولكن عبثًا، فيما أكّدت ناجية أنّها ظلّت تطالب المسؤولين المحلّيين والجهويّين وحتّى على مستوى الإدارات المركزيّة منذ ثلاث سنوات، دون أن تتغيّر وضعيّتها ووضعية نظيراتها من النساء العاملات في القطاع الفلاحي.

عاملات القطاع الفلاحي يؤطرن التحرك ويرفعن شعارات وصل صداها إلى مكاتب المسؤولين بوزارة المرأة

”هناك ميزانية تُناقَش الآن في البرلمان، فأين النساء العاملات في القطاع الفلاحي منها، وأين السيادة الغذائية؟ كلّها غير موجودة“، تقول سارة بن سعيد عن جمعية أصوات نساء مضيفة أن وزارة المرأة من أفشل الوزارات الموجودة من خلال البرامج التي تفاقم هشاشة النساء نظرًا للشروط المجحفة للانتفاع بالقروض التي وضعتها هذه البرامج.

يعمّق العنف الاقتصادي هشاشة المرأة ويجعلها عرضة لأنواع أشمل من العنف الجنسي والأُسري والنّفسي. فرغم أنها لا تغيب عن برامج الحملات والوعود الانتخابية ورغم تعدد المناسبات المحلية والعالمية التي تحتفي بالنساء وحملات المناصرة والتوعية، إلا أن واقع النساء العاملات يؤكد أن هذه الشعارات لا تتعدى اليافطات التي كتبت عليها، في انتظار تعامل جدي من السلطة مع العمل الفلاحي بما يقطع مع عقود طويلة من الاستغلال والتهميش الذي تعانيه النساء العاملات في القطاع الفلاحي.