ما إن تطأ قدم الموقوف مكتب باحث البداية في بعض مراكز الاحتفاظ، حتّى تشرع الشرطة في كسر لوائح حقوقه. فحسب تقرير أصدرته الرابطة التونسية لحقوق الإنسان حول واقع الاحتفاظ بتونس، حُرم بعض الموقوفين المشمولين بالاستمارة التي كانت قاعدة بيانات لنتائج التقرير، في خمس عشرة مناسبة من حقّهم في إعلامهم بالإجراءات وبحقوقهم، قبل أن يُزجّ بهم في غرف لا تتلاءم مع حاجياتهم الانسانية. يقول رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فتحي جراي في تصريح لنواة:

”لا تستجيب غرف الاحتفاظ لأبسط المعايير، حيث يتم الاحتفاظ بالموقوفين في ظروف مهينة للذات البشرية والمسيئة للكرامة الإنسانية، ويجب على هذا الوضع أن يتغير. فكيف يمكن لغرف احتفاظ أن تكون مطابقة للمعايير الدولية في الوقت الذي ينام فيها الموقوفون -من الذكور خاصة- على الأرض. حين نتحدث عن مراكز الاحتفاظ التابعة لوزارة الداخلية فإّننا نعني بذلك المراكز التي يحوّل إليها الموقوفون قبل إتمام التحقيق معهم. وأغلب الانتهاكات التي تسّجلها الهيئة تكون لدى باحث البداية، وفي غرف الإيقاف الوقتية التي توجد داخل مراكز الشرطة أو الحرس والتي غالبا لا يمكث فيها الموقوف سوى ساعات“.

الكرامة فوق بلاط غرف الاحتفاظ

يمكّن تقرير ”قراءة لواقع الاحتفاظ في تونس“ من رسم ما يشبه خارطة الانتهاكات لجملة من أبسط حقوق الموقوفين، بعد رصد وضعية الموقوفين في عشرين غرفة احتفاظ تابعة للوزارة، شملتها 102 زيارة. هذا التقرير يعطي صورة عن ظروف مراكز الاحتفاظ التابعة لوزارة الداخلية تتناقض مع تلك التّي قدّمها المسؤول عن الاتصال بوزارة الداخلية.

22 جويلية 2022، اقتياد أحد المتظاهرين إلى مركز الإيقاف خلال مظاهرة ضد الاستفتاء على الدستور في شارع الحبيب بورقيبة-نواة-طارق العبيدي

عاينت الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان مراكز إيقاف تابعة لوزارة الداخلية في مناطق مختلفة من البلاد، وبيّنت أنّ قرابة 16% منها متهالكة، وأنه لا يمكن واقعيّا استغلالها لإقامة ثلاثة أشخاص فحسب كحدّ أقصى، غير أنّها في الواقع تتجاوز ضعف طاقتها الاستيعابية. كما لا تتوفّر في قرابة 58% من هذه الغرف منافذ للتهوئة. ”في الغالب، تكون هذه الغرف بالطوابق السفلية وهو ما يعزل مجرى الهواء داخل الغرفة حيث تقتصر عملية تجديد الهواء على ثلاث فتحات صغيرة في الجانب العلوي من الحائط وتكون مغطاة بمشبك حديدي، وهي غرف تتجاوز فيها طاقة الاستيعاب الضعفين إضافة إلى أنّها تحتوي داخلها على المرفق الصحي“، وفق ما ورد بتقرير الرابطة. هذه الانتهاكات تضرب الحقّ في الخصوصية، بالإضافة إلى انبعاث دائم للروائح النتنة منها بسبب ضعف تدفق الهواء إليها. ولا يتمكّن الموقوفون من الحصول على الماء الصالح للشرب، حيث ينالون حاجتهم من الماء من ثقب بالحائط الملاصق للفضاء الصحي ويتمّ التحكم في تدفق الماء منه من خارج الغرفة. في المقابل، لا يوفّر الأعوان سوى قارورة ماء واحدة لكل غرفة عند الطلب.

 تضرب ظروف الاحتفاظ بحق الموقوفين في الصحة. فغرف الإيقاف في مراكز البحث لدى الشرطة والحرس، لا تملك ميزانية خاصة لتقديم أكلة للموقوفين، ولا يتحصّلون وهو داخلها على أية أكلة مهما طالت فترة مكوثهم بها. وحسب تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، لا يكون الوصول للغذاء إلا من خلال العائلة أو اضطرار الموظفين لاقتناء الأكل على نفقة المحتفظ به أو تقاسم الوجبة مع موقوفين آخرين لأن إدخال الأكل ممنوع داخل مراكز البحث. فيما لا تستجيب الأكلة التي تُقدم للموقوفين في غرف الاحتفاظ للمعايير الصحية، وهي غير كافية للحفاظ على السلامة الجسدية والتوازن الصحي حسب التقرير.

10 ديسمبر 2023، زيارة وزيرة العدل ليلى جفال إلى سجن المرناقية-وزارة العدل

ينص الفصل 13 مكرّر من القانون عدد 5 لسنة 2016، على أنه ”يتولّى وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه إجراء الرقابة اللازمة بصفة منتظمة على السجّل المذكور وعلى ظروف الاحتفاظ وحالة المحتفظ به“، غير أن ممثّلي النيابة العمومية لا يتنقّلون لإنجاز المهمّة الرقابية بمراكز البحث وغرف الإيقاف بسبب نقص عدد ممثلي النيابة العمومية واتساع مرجع النظر الترابي وتشتّت مراكز البحث.

موت مستراب في مراكز إيقاف

في العام 2021، توفي أحمد عمارة البالغ من العمر 32 سنة في مركز الاحتفاظ بسيدي حسين، واتهم خمسة من الشرطة من ضمنهم رئيس فرقة الشرطة العدلية ورئيس مركز الشرطة بالجيارة بسيدي حسين، بالقتل. لم يكن أحمد عمارة حالة الوفاة الوحيدة في مركز الاحتفاظ، فحسب تقرير المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، للعام 2021، تم توثيق 14 حالة موت مستراب بين العام 2013 و2021، 14 حالة منها أثناء وجود الضحايا في مراكز الإيقاف التابعة للداخلية أو وزارة العدل أو خارجها.

1نوفمبر 2013، وفاة وليد دنقير بعد إيقافه في مركز شرطة سيدي البشير-لقطة من فيديو لشهود صوروا الجثّة

وفي العام 2015، توفي عبد المجيد الجدّي بعد إيقافه في مركز الأمن الوطني بسيدي بوزيد، وذكرت الشرطة آنذاك أن وفاته ناجمة عن انتحاره بواسطة لحاف داخل غرفة الاحتفاظ بالمركز المذكور، حسب روايتها. وقبل عام من ذلك، أي في سنة 2014، توفي محمد علي السنوسي البالغ من العمر 32 سنة بعد قضائه يومين في الاحتجاز إثر إيقافه من قبل أعوان الشرطة بالملاسين. وتعرض السنوسي إلى الضرب على رأسه وحمل كدمات على ظهره ورجليه، كما توفي عبد الرؤوف الخماسي بعد تعرضه للتعذيب في مقر الشرطة العدلية بسيدي حسين السيجومي سنة 2012، حيث رجّح تقرير الطب الشرعي أن يكون النزيف الحاد الذي أصابه ناتجا عن إصابة بواسطة جسم صلب في رأسه.


  • 2021
  • 8 جوان 2021

    وفاة أحمد بن عمارة، 32 سنة، في مركز الإيقاف بسيدي حسين. وتتّهم عائلة المواطن قوات الأمن بقتله تحت التعذيب، في إنتظار صدور تقرير الطبيب الشرعي.
  • 3 مارس 2021

    وفاة عبد السلام زيّان، 30 سنة، بعد تعكّر حالته الصحيّة خلال إيقافه بالسجن المدني بصفاقس إثر إيداع بطاقة سجن ضدّه وضدّ شقيقه بسبب “خرق قانون حظر الجولان وهضم جانب موظّف عمومي”. وكان المواطن عبد السلام الزيان مصابا بالسكّري ويحتاج إلى جرعات من الأنسولين. ورغم معرفة المشرفين على الاحتفاظ بالحالة الصحيّة لهذا المواطن وتسلّمهم لجرعات الأنسولين، إلا أنّهم رفضوا تمكينه من الدّواء، وفق بلاغ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وقد أقرّ تقرير الطبّ الشرعي بوفاة الضحية بسبب عدم منحه جرعات الأنسولين.
  • 2019
  • 8 جوان 2019

    وفاة عبد الرزاق السالمي، 58 سنة، هو بائع خضر متجوّل خلال التحقيق في مركز الشّرطة ببوحجلة-القيروان إثر منعه من عرض بضاعته للبيع. خلال التحقيق معه يفيد شقيق الضحيّة أنّه تعرّض لسوء المعاملة وأنّ جثّته تحتوي رضوضا في وجهه وجسده.
  • 2016
  • 20 أوت 2016

    وفاة حامد ساسي، 23 سنة، وهو على ذمّة التحقيق بالسجن المدني بالمرناقية بشأن قضيّة تحقيقيّة منذ 22 نوفمبر 2015. وفق مرصد الحقوق والحريّات بتونس فإنّ جثّة حامد ساسي تحمل آثار كدمات على مستوى الرأس والركبة.
  • 2015
  • 18 سبتمبر 2015

    وفاة سفيان الدريدي في مستشفى شارل نيكول بالعاصمة في ظروف مسترابة إثر إيقافه على خلفية تهمة مرتبطة بقضيّة حقّ عام تعود أطوارها إلى سنة 2011. وتمّت معاينة آثار تعذيب في الوجه و الرأس و بعض الأماكن الأخرى من جسد المتوفى.
  • 7 أكتوبر 2015

    وفاة قيس بن رحومة، 36 سنة، إثر تعرّضه للتعذيب والتعنيف على أيدي أعوان فرقة مكافحة المخدرات للحرس الوطني بالوردية، وهو ما أودى بحياته حسب شهادات عائلته وجيرانه.
  • 13 ماي 2015

    تمّ إيقاف عبد المجيد الجدي بمنطقة الأمن بسيدي بوزيد يوم 12 ماي 2015 دون إعلام أهله بذلك. وفق رواية منطقة الأمن فإنّ الضحيّة “انتحر”، ولكن العائلة تكذّب هذه الرّواية وتؤكّد وجود آثار كدمات على الجثّة.
  • 26 أفريل 2015

    وفاة عبد المنعم الزياني، 22 سنة، إثر تعرضه لصعقات كهربائية وإلى عنف شديد لدى إيداعه بالسجن المدني بالمرناقية، وذلك إثر خلاف مع عوني أمن بسبب الانتصاب الفوضوي بنهج إسبانيا بتونس العاصمة.
  • 2014
  • 3 أكتوبر 2014

    تعرّض محمّد علي السنوسي، 32 سنة، إلى إصابات في الجزء الخلفي من رأسه وكدمات على ظهره وكتفيه ورجليه، كما تمّ تجريده من ثيابه وتهديده بالاغتصاب أثناء اقتياده من منزله إلى مركز الشرطة بالملاّسين بتونس العاصمة، وذلك “لارتكابه جرائم مثل الاعتداء على أعوان الشرطة، واستهلاك وترويج المخدرات” وفق بلاغ لوزارة الداخلية. بعد قضاء يومين في الاحتجاز، تمّ نقل السنوسي إلى المستشفى حين تدهورت حالته الصحية، وفارق الحياة هناك بسبب ما تعرّض له من ضرب وتعنيف.
  • 2013
  • 1 نوفمبر 2013

    تمّت ملاحقة وليد دنقير، 32 سنة، عندما كان يقود درّاجته الناريّة واقتياده نحو سيّارة الشرطة بباب جديد بتونس العاصمة، وهو متورّط بجرائم تتعلّق باستهلاك وتجارة المخدّرات و”الانتماء إلى شبكات إجرامية”. بعد 45 دقيقة من إيقافه، اتّصلت الشرطة بوالدة المواطن لتعلمها بوفاته. ووفق المنظّمة التونسية لمناهضة التعذيب، فإنّ جثّة وليد دنقير كانت تحمل “جروحا ودما جافّا وآثار عنف في الجمجمة والوجه والركبتين وآثار أصفاد في اليدين والرجلين”، ممّا يوحي بمواصلة اعتماد طريقة “الدجاجة الروتي” في استنطاق المتّهمين.
  • 2012
  • 8 سبتمبر 2012

    وفاة عبد الرؤوف الخماسي، 40 سنة، اثر تعذيبه بمقرّ فرقة الشرطة العدليّة بسيدي حسين- السيجومي على خلفيّة تتبّع عدلي في قضيّة جنائيّة تتعلّق بقتل عمد مع سابقيّة القصد و المشاركة. ووفق بلاغ أصدرته وزارة الداخلية آنذاك فإنّ عبد الرؤوف الخماسي تعرّض إلى ارتجاج في المخّ أدّى إلى حالة إغماء. وذكر التقرير الأوّلي للطبيب الشرعي أنّ “النّزيف الحادّ الذي أصاب الهالك يُرجّح أن يكون سببه تعرّضه إلى إصابة على مستوى الجمجمة و ذلك بواسطة جسم صلب من قبيل عصا غليظة أو ما شابه ذلك، ممّا يستبعد فرضيّة أن يكون سبب الإصابة سقوطا”.
  • 4 سبتمبر 2012

    وفاة عصام المرواني، 29 سنة، بمركز الحرس بمنطقة بو مهل- تونس العاصمة. ويفيد التقرير الأوّلي للطب الشرعي بوجود ما لا يقلّ عن 20 كدمة في جسد الضحيّة، كما تمّ تداول مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي تظهر آثار عنف على جسده.

يقول المحامي منذر الشارني، العضو بالمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب في تصريح لموقع نواة إنّ التجاوزات الجسيمة في مراكز الاحتفاظ والتي يصل أقصاها إلى الموت، تطرح حاجة استعجالية إلى تطبيق حرفيّ لما جاء في الفصل 13 مكرّر من القانون عدد 5 لسنة 2016، وخاصة وجوب حضور المحامي فور الإيقاف لدى الشرطة، ويضيف الشارني:

”يجب إصدار قانون ينظّم غرف الاحتفاظ ويُطرح فيه حقوق المحتفظ به وواجبات الضابطة العدلية تجاهه. ففي تونس لا يوجد قانون خاص بعملية إدارة مراكز الاحتفاظ لدى الشرطة، على عكس السجون. ومن الضروري أن ينصّ هذا القانون على مكان تلك الغرف وطاقة استيعابها وفرز المحتفظ بهم حسب العمر وخطورة التهم، والتنصيص الواضح على ضمان الحقوق الأساسية في الاكل والرعاية الطبية. فخلال الاحتفاظ، تُطرح إشكالية الفحص الطبي رغم أن هذا الإجراء ضروري للحفاظ على سلامة الموقوفين وإنهاء الإفلات من العقاب. ففي بعض الدول، يخضع الموقوف إلى فحص طبي قبل فترة الاحتفاظ وبعدها، لذلك من الضروري أن تحتوي كل منطقة شرطة على غرفة للفحص الطبي والاستعانة بأطباء حتى تُطوّق مسألة التعذيب أو الوفاة المسترابة، وحتى يضمن المُحتفظ به حّقه في العلاج“.


قيس بن الرحومة، 36 سنة من متساكني حي ”محمد علي“ بالوردية، توفي يوم الإثنين 05 أكتوبر 2015 وتم تشييع جنازته إلى مقبرة الجلاز يوم الإربعاء 07 أكتوبر 2015. جنازة شهدت مواجهات مع قوات البوليس التي إستعملت الغاز المسيل للدموع ضد المشيعين، اثر رفعهم لشعار ”يا بوليس يا سفاح يا قتال الأرواح“. يأتي هذا الإحتقان نتيجة لما تعرضت له الضحية من تعذيب وتعنيف على أيدي أعوان فرقة مكافحة المخدرات للحرس الوطني بالوردية، وهو ما أودى بحياته حسب شهادات عائلته وجيرانه. وقد أصدرت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بلاغا طالبت فيه وزارة الداخلية بفتح بحث عاجل و جدي لتوضيح أسباب وفاة قيس بن رحومة ولوضع حد للتجاوزات الصادرة عن أعوان الأمن.


تواجه تونس تقارير المنظمات بنفي قيام مسؤولين في مراكز الاحتفاظ بانتهاكات ضد المحتفظ بهم، دون الاعتراف بوجود سلسلة من أوجه القصور اللوجيستي والفراغ التشريعي. وهو ما يعطي هامشا كبيرا لانتهاكات متعدّدة الجوانب لحقوق المحتفظ بهم، في انتظار تفعيل الاتفاقيات التي صادقت عليها تونس والمتعلقة بالوقاية من التعذيب وكلّ ضروب سوء المعاملة، وإقرار الإصلاحات الضرورية في المنظومة السجنية ومراكز الإيقاف حتّى لا تُمتهن كرامة الإنسان في الفضاءات السالبة للحرية.