رغم صيتها الذائع عالميا في المجال السياحي، تبقى ولاية نابل من أبرز المناطق الفلاحية بمساهمة تبلغ 15% من إجماليّ الإنتاج الوطني الفلاحي الممتد على نحو 4% من الأراضي الخصبة بالبلاد. وكغيرها من ولايات الجمهورية، التي مسها الجفاف وتراجع منسوب مياه السدود فيها، واجهت ولاية نابل إشكاليات عدة في زراعتها السقوية ما انعكس سلبا على الإنتاج والفلاحين رغم الإجراءات المتعثرة التي أقرتها وزارة الفلاحة.
قوارص منزل بوزلفة: صعوبات رغم وفرة الإنتاج
تمثّل غراسة القوارص النشاط الاقتصاديّ الأهم في منطقة منزل بوزلفة من ولاية نابل. قطاع يمثل شريان الحياة لأهالي الجهة المشتغلين بضيعات القوارص المرتبطة بمياه سد ”بزيغ“ الذي شهد كأغلب السدود تراجعا حادّا في مخزونه. تشير الأرقام الرسمية، للإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى بتاريخ 20 فيفري 2024، إلى أنّ نسبة امتلاء هذا السدّ لم تتجاوز 3.6% فيما بلغت نسبة امتلاء السدّ الأكبر في ولاية نابل ”سدّ لبنة“ 3% فقط. نسب تفسر في جزء منها خيبة المنتجين رغم وفرة الإنتاج كنتيجة للنقص الواضح في مياه الري وانتشار عدد من الأمراض التّي تصيب الثمار، لعلّ أخطرها فيروس ”تريستيزا“ القاتل الذي يصفه فلاحو الجهة بالسكتة القلبية التّي تصيب شجرة البرتقال، إضافة إلى مرض الجليديّة الذي يصيب قوارص ”المادالينا“.
فلاحة القوارص بمنزل بوزلفة نبهوا إلى تراجع جودة منتوجهم بسبب نقص مياه الري واعتماد سياسة الأقساط والتوزيع الزمني للمياه على الضيعات الفلاحية. الأمر الذي خلّف تراجعا ملحوظا في سعرها مقارنة بالسنوات الفارطة متسبّبا في مشاكل مالية كبرى للفلاحين والوسطاء (الخضّارة).
جفاف وحلول مبتورة
لم يكن قطاع القوارص المعني الوحيد بأزمة المياه في ولاية نابل، حيث أصدرت المندوبية الجهوية للفلاحة بنابل بلاغا بتاريخ 8 نوفمبر 2023 دعت فيه الفلاحين من مستغلّي منظومة الريّ العمومي إلى تفادي زراعة الخضر الورقية والقرعيّة والطماطم. كما نبهّت إلى تجنّب إبرام عقود إنتاج مع مصانع تحويل الطماطم، معلّلة القرار بندرة التساقطات واستهلاك هذه النباتات لكميات هامّة من المياه.
في هذا السياق، يعلّق محمد الدلاجي عن الفرع الجهوي للفلاحة بنابل التابع للاتحاد العام التونسي للشغل خلال حديثه مع نواة قائلا: ”المنطقة تعرف حالة عزوف كبيرة عن العمل من قبل صغار الفلاحين، فيما يذهب عدد منهم إلى بيع أراضيهم الزراعية لرجال الأعمال بسبب عدم قدرتهم على تحمل المصاريف وضعف تزويد المياه“.
كما يتطرّق محدّثنا إلى غياب العدالة في توزيع المياه بين الفلاحين، معتبرا أنّ الفلاحين الصغار يحصلون على حصة أقلّ بكثير من تلك التّي تصل إلى بعض كبار الفلاحين المعروفين بنفوذهم. ليجد هنا الفلاّح نفسه أمام تحديّات كبرى تتمثّل في ندرة المياه وغياب العدالة إضافة إلى عدم وجود أي سياسة حكوميّة واضحة للخروج من الأزمة. ليضيف: ”الفلاح تُرك لوحده يصارع الصعوبات. والدولة غابت منذ 2011 وأهملت الفلاحة والأمن الغذائي“.
يشير الدلاجي إلى أنّ وزارة الفلاحة ومندوبيّتها في نابل أصدرت قرارها بمنع زراعة الطماطم التّي تتطلّب كميّات كبيرة من الماء دون تقديم أيّ تعويض على أرض الواقع للمتضرّرين باستثناء الحديث عن صندوق الجوائح، مؤكدا غياب أيّ إثباتات حول تلقّي فلاّحي الجهة هذه التعويضات.
ممثّل الفرع الجهوي للفلاحة بنابل تعرض إلى ملّف العقود المبرمة بين شركات التعليب الكبرى للطماطم والفلاّحين قائلا: ”هذه الشركات تمارس سلطتها على الفلاّح المهمّش وتفرض سعرا محدّدا لا يغطي حاجيّاته ومصاريف الإنتاج، كما لا يضمن له هامش ربح مريح. إذ لا يتجاوز سعر البيع للمصنع في بعض الحالات 200 مليم للكيلوغرام الواحد ليُعاد بيعها معلبة بأسعار مرتفعة جدّا“.
واقع يتناقض مع الخطاب الرسميّ للدولة الذي يتحدث عن دعم القطاع الفلاحي مبرزا حرص الدولة على الأمن الغذائي. لعلّ آخر الأمثلة هي الإجراءات الواردة في قانون المالية لسنة 2024 والمتمثّلة في ثلاث نقاط أساسيّة تتضمّن مواصلة العمل بامتياز التكفّل بالفارق في نسبة الفائدة على القروض الموسميّة لصغار المزارعين وتخفيض الجباية على بعض المواد العلفيّة المخصّصة للتغذية الحيوانية والتمديد في إجراء تمويل بناء المواجل.
يعلّق هنا خبير السياسات الفلاحية فوزي الزياني في تصريح لنواة أنّ الدولة التونسية استقالت من دورها الطبيعي في حماية القطاع الفلاحي، رغم الخطابات والوعود المتتالية التّي لم تطبّق على أرض الواقع. محدثنا شدد على أن تعامل الدولة مع أزمة المياه وتقلص المساحات المزروعة كان سلبياً منذ 20 سنة تقريباً، مؤكدا غياب أي إجراء استباقي أو حلول جذرية تنقذ القطاع الفلاحي والفلاح والمستهلك. لا ينكر محدثنا وجود تناقض بين الخطاب الرسمي وما يعيشه الفلاح على أرض الواقع، ما يترجم بغياب حلول الدولة رغم التحذيرات المتتالية التي أطلقها الخبراء من أزمة مائية قد تعصف بالقطاع الفلاحي المستهلك ل80% من رصيد المياه بالبلاد. مضيفا أن ”كمية التساقطات في تونس قد تبلغ 30 مليار متر مكعب، إلا أن طاقة استيعاب السدود لا تتجاوز 2.6 مليار متر مكعب ليتم إهدار باقي الكمية دون أن تستفيد منها الفلاحة“
وانتقد الخبير القرارات الصادرة عن وزارة الفلاحة والتي تدعو فيها الفلاحين إلى تجنب بعض الزراعات على غرار الطماطم بولاية نابل، معللا الأمر بغياب توفير بدائل أو تقديم تعويضات لصغار الفلاحين بعد نهيهم عن زراعة ما يضمن قوتهم ويقيهم شر الحاجة والعطالة.
إلا أن وزير الفلاحة الحالي عبد المنعم بلعاتي أقر خلال جلسة استماع تحت قبة البرلمان بتاريخ 20 فيفري 2024 أن الوزارة لا تمتلك عصا سحرية، لإنقاذ الفلاحة في ظل البيروقراطية الإدارية القاتلة وسيطرة لوبيات الفساد، التي تحاول الوزارة مقاومتها بكل السبل، حسب قوله.
تقلص متواصل في المساحات الزراعية
بين خطاب حكومي دعائي وواقع فلاحي متأزم يجد الفلاح نفسه في مواجهة صعوبات المناخ وشح المياه وغياب سياسة حكومية فعالة، عوامل تترجم دقة الوضع الحالي وتقلص المساحات الفلاحية التي كانت مخصصة للزراعات الحيوية في ولاية نابل.
كاتب عام الجامعة الجهوية لمنتجي الطماطم المعدة للتحويل بنابل، أفاد في تصريحات إعلامية بتقلص المساحات المخصصة للطماطم من 11 ألف هكتار سنة 2009 إلى 3.5 آلاف هكتار خلال الموسم الأخير مما أدى إلى تراجع مساهمة الجهة في الإنتاج الوطني من 65 إلى 40 بالمائة.
الحال كان مماثلا فيما يخص زراعة الفراولة حيث يقول رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بنابل عماد الباي إن المساحات المزروعة من الفراولة تراجعت من 520 هكتارا خلال الموسم الفارط إلى 380 هكتار فقط خلال السنة الحالية، إضافة إلى تقلص مساحات زراعات أخرى في ولاية نابل على غرار الكروم و الحبوب. ”عدد كبير من الفلاحين أجبروا على بيع أراضيهم لرجال الأعمال الذين غيروا صبغتها الفلاحية وتحولت إلى مناطق سكنية“.
في المقابل كانت الحلول الفردية ملجأ عدد هام من الفلاحين خارج مظلة تدخل الدولة وكان أبرزها حفر الآبار العشوائية للظفر بما يروي زراعتهم رغم خطر استنزاف المائدة المائية، بعد أن فقدوا الأمل في مياه السدود والمجمعات المائية التي تحتكرها الدولة. وامام غياب أرقام رسمية محينة تشير تقديرات أهل الاختصاص أن عدد الآبار العشوائية في البلاد يقارب 30 ألف بئر، في حين تفيد آخر الأرقام المعلنة من قبل وزارة الفلاحة سنة 2021 أن عدد الآبار الموجودة في ولاية نابل بلغ نحو 3800 بئر أكثر من نصفها تم حفره خارج الإطار القانوني بصفة عشوائية.
على الرغم من أهمية القطاع الفلاحي في ولاية نابل، تنذر المعطيات الحالية بأزمة قد تكون أكثر حدة خلال السنوات القادمة. فالجفاف متواصل والطبيعة أنهكت ما فتح الباب لعصر التقلبات المناخية الحادة، أما التحذيرات التي أطلقها الخبراء منذ سنوات فقد قللت السلطات من شأنها ما أدى إلى غياب إجراءات مدروسة مبنية على نظرة استشرافية كان بالإمكان الاتفاق على سلم زمني لتنفيذها. لتكون النتيجة مزيدا من القضم من المساحات الزراعية الخصبة وشبه عزوف عن مواصلة النشاط الفلاحي بعد أن مل المزارعون الوعود الجوفاء وصار شبح الإفلاس يتهدد موازناتهم السنوية.
iThere are no comments
Add yours