جلسة برلمانية ستبقى خالدة في الأذهان امتزج فيها الحرج بالبكاء وانتهت بضياع فرصة تاريخية انتظرها التونسيون جيلا بعد جيل، لكنها على ما تحمله من مرارة أكدت حدود البرلمان وعجزه الفعلي عن تمرير قانون لم يصدر عن الملف الأحمر الذي يتأبطه الرئيس في خرجاته الشعبوية.

هذا العجز والخوف من قول لا للرئيس قيس سعيد لم يكن حبيس قصر باردو بل انتشرت عدواه بسرعة جنونية بين أجهزة الدولة وسلطها السعيدة بتحولها إلى وظائف متناغمة مع عزف قرطاج المنفرد. والحقيقة هنا أن الرئيس لم يجد صعوبة تذكر في جر البلاد إلى مربع التسلط والاستبداد، مرسوم هنا وتقريع للوزراء وكبار الموظفين هناك مع ما تيسر من زيارات ليلية لوزارة الداخلية، أعلن في احداها حل المجلس الأعلى للقضاء، مسطرا بذلك لأجهزة الدولة مسار التعامل مع المعارضين بما يرضي قرطاج.

ما سبق سرده كان على ما يبدو كافيا لإقناع شرائح واسعة من المسؤولين وكبار موظفي الدولة بأن تجربة 2011-2021 كانت مجرد فسحة ركيكة مملة، اتضح أن عربتها المجرورة لم تكن سوى حصان طروادة مليء بجحافل الذباب والجرذان المتعطشة لتذوق خمر السلطة. فما أروع ذلك القول المأثور من بهو الداخلية ” من يبرئهم هو شريك لهم” وما أجمل ان يعود حامي الحقوق والحريات إلى حماية كرسي العرش، فمن لم يتهم بالتآمر نبحث له عن تهمة على المقاس لا تخرج من دائرة الامر الموحش أو مقصلة المرسوم 54 سيئ الذكر. فألف أهلا وسهلا بعودة الاستبداد ومرحبا برجوع الخوف ولجم الأفواه والرقابة الذاتية، وما أسعدنا باكتساح موسوعة غينيس في عدد قضايا التآمر على أمن الدولة وان تطلب الامر اعتذارا جبانا من الموقوفين والتذرع بتطبيق التعليمات حفاظا على “خبزة الأولاد”.

وتناغما مع الفهلوة والحنكة التشريعية التي نجحت بقوة الحجة وبلاغتها في اقناع النواب بضرورة التخلي عن افراد تجريم التطبيع بقانون خاص به والاكتفاء بأجراء تنقيح على المجلة الجزائية يدرج التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي في خانة الخيانة العظمى، وتماشيا مع غمرة تحرير ربطة العنق الإدارية من الفصل 96 المكبل لمبادرات كانت قادرة على وضع البلاد في مصعد الرقي نحو العلو الشاهق… ماذا لو اقترحنا اجراء تعديل آخر على المجلة الجزائية يجرم الانحناء للاستبداد والتطبيع مع الدكتاتورية والتسلط؟ قانون يحرر المسؤولين من الصمت أمام المظالم خشية من مغبة ضياع خبزة الأولاد، قانون يحرر أبواق الدعاية من التشفي في عذابات المساجين السياسيين وعائلاتهم والسخرية من إضرابات الجوع وراء القضبان وخارجها، قانون يرفع الحرج عن حقوقيي الامس القريب من الذين دفعتهم خبزة الأولاد إلى تبرير القمع وبولسة الحياة السياسية وتبييض العنصرية والتقليل من شأنها، قانون يشجع مراهقي الديمقراطية على التمسك بها دون خوف من غضب أولي الامر أصحاب السعادة والسمو. فلنترك المعارضة في رحلة بحثها عن “سميق” ديمقراطي جديد ونقاش جدوى المشاركة في الرئاسيات المقبلة من عدمها، ولنترك المفدى سعيدا بنوستالجيا السبعينات بين ذكريات الحافلة رقم 28 وأطلال مسبح البلفدير ونافورة ساحة باستور… ونركز عصارة جهدنا على مشروع القانون المجرم للتطبيع مع الاستبداد، حتى نطلق أجنحة الكفاءات المكبلة ونرفع عنها حرج الانصياع للتعليمات والخوف من المساس بخبزة الأولاد.