حب واحد هو عنوان فيلم السيرة الذاتية لملك الريغي بوب مارلي (6 فيفري 1945 – 11 ماي 1981) من انتاج مؤسسة ”توف غونغ“ التابعة للعائلة مارلي واخراج الأمريكي رينالدو ماركوس غرين وبطولة البريطانيين كينغسلاي بان أدير ولاشانا لينش، عمل حقق في أسبوع عرضه الأول بالولايات المتحدة مداخيل اقبال فاقت 45.6 مليون دولار ليحتل صدارة ”البوكس أوفيس“ الأمريكي ثم البريطاني فالفرنسي ويواصل الانتشار في 47 بلدا بترجمات للغات متعددة.
وإن ابتعدنا عن القراءات البسيطة للفيلم، التي اعتبرته دافعا لعودة إشعاع موسيقى الريغي في العالم، فإن التدقيق في دواعي إنتاج هذا الفيلم والتجاذبات التي سجلت اثناء انجازه إضافة إلى الانطباعات التي خلفها في جامايكا بلد بوب مارلي وفي صفوف معتنقي فلسفة الراستفارية حول العالم، تحيلنا إلى روايات مختلفة تماما في علاقة بتقييم العمل في أبعاده الفنية والتوثيقية.
دوافع الإنتاج وانتظارات العائلة مارلي
سنة 2011، أسابيع قليلة بعد ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي، زارني بصحيفة الطريق الجديد فريق تصوير أجنبي للحديث عن مدى تأثر الشباب التونسي بالأغاني الثورية لبوب مارلي والتقاط بعض المشاهد من شارع الثورة دائم الحركية في تلك الأيام الخوالي اعدادا لوثائقي شامل حول حياة بوب مارلي. سنة بعد ذلك صدر الوثائقي للمخرج الاسكوتلندي ”كيفين ماكدونالد“ والذي أظهر في خاتمته مشاهد لشباب يرددون أغاني مارلي على عتبات المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة. وثائقي تعرض لأدق تفاصيل مسيرة بوب مارلي بما فيها تلك التي لم ترق لأرملته ريتا وأبناءه القائمين على شركة ”توف غونغ“، رغم مساهمتهم في انتاج الوثائقي وتمكينهم فريق العمل من الحصول على وثائق وصور لم تعرض من قبل.
من هذا المنطلق قرر ”زيغي“ أكبر أبناء بوب مارلي أن تتكفل توف غونغ بإنتاج عمل سينمائي آخر حول بوب مارلي في شكل سيرة ذاتية بالشكل الذي تريده العائلة مارلي ولتجاوز الأجزاء غير المرغوب فيها من حياة بوب التي وردت بالوثائقي، من ذلك انهيار إحدى بناته (سيديلا) باكية ضمن سياق ذكريات طفولتها وعلاقة بوب مارلي الزوجية والأسرية في أوج مغامراته العاطفية المتعددة والتي خلفت 9 أطفال من 6 نساء مختلفات إضافة الى طفلين بالتبني، ونزاعا حول الميراث وعائدات مبيعات ألبوماته المتواصل حتى الآن.
من محاولة الاغتيال الى العودة من المنفى
الفيلم الذي يدوم ساعة و47 دقيقة يبدأ بصور من ذاكرة بوب مارلي الطفل تجسد نزوحه رفقة والدته سيديلا بوكر من قرية سانت آن بالريف الجماييكي نحو العاصمة كينغستون بداية خمسينات القرن الماضي. عقب ذلك يأخذنا المخرج إلى سنة 1976 في أوج الصراع السياسي المسلح بجاميكا بين اليسار المدعوم من كوبا فيدال كاسترو وبين اليمين الليبرالي المدعوم من المخابرات الامريكية، في فترة اعلان مارلي تقديمه حفلا مجانيا ”سمايل جاميكا“ لإصلاح ما أفسده الاستقطاب والصراع السياسي في الجزيرة الكاريبية. في 3 ديسمبر 1976، أي قبل الحفل بيومين، يتعرض بوب مارلي إلى محاولة اغتيال أصيب خلالها برصاصتين في المرفق والصدر إضافة الى إصابة زوجته وبعض أصدقاء عمله…نجا الجميع من الموت بأعجوبة وأصر مارلي على اجراء الحفل المجاني ليصعد على الركح امام 80 ألف متفرج مظهرا أثار الرصاص على جسده متحديا من حاول اغتياله.
بعد الحفل اختار مارلي العيش بلندن لمدة سنتين قبل أن يعود منتصرا إلى جامايكا ويحيي حفل ”وان لوف“ بالعاصمة كينغستون ويجمع زعيمي اليسار واليمين مايكل مانلي وإدوارد سياغا في صورة تاريخية انتصرت فيها قوة فن مارلي على قوة الأيديولوجيات السياسية وصراعاتها المسلحة.
بناء على ما سبق كان خيار المنتجين التركيز على تلك الفترة من حياة مارلي أي بين سنتي 76 و78، مع اختصار بعض المحطات السابقة في شكل ذكريات طفولة ومراهقة يسترجعها مارلي بين جامايكا ولندن.
تعسف الإنتاج الهوليوودي على مارلي ورفاقه
خلال تصوير الفيلم والكشف عن قائمة الممثلين الذين تم اختيارهم للمشاركة في العمل، خاصة الممثل البريطاني من أصول ترينيدادية كينغسلاي بان أدير، واجه المنتجون انتقادات لاذعة. معتنقو فلسفة الراستفارية والمتعاطفون معها من عشاق موسيقى الريغي استنكروا تجاهل المنتجين لممثلين من جامايكا وبحثهم عن نجم أوروبي حليق الشعر لتجسيد شخصية بوب مارلي في الفيلم، حتى التبريرات التي قدمتها شركة الإنتاج بأنها لم تجد ممثلا محليا واحدا قادرا على لعب الدور لم تقنع أحدا. حدة الانتقادات ارتفعت بعد العروض الأولى للعمل، فالبطل تحدث بلكنة جامايكية مصطنعة لم يستسغها الجامايكيون الذين يعتبرون لهجتهم ”الدرادتالك“ إرثا ثقافيا يعتزون به من المخجل الإساءة إليه في عمل فني لتجسيد إحدى أيقونات البلاد. كما أن البطل حاول تقليد حركات بوب مارلي وابتساماته وبعض ردوده الشهيرة على أسئلة الصحافة، لكن الفيلم كشف فشله الذريع في ذلك ما جعل أداءه بعيدا تماما عن الكاريزما التي طبعت صورة بوب مارلي في العالم.
وبقدر فشل بان أدير في تقمص شخصية مارلي، رغم شعر ”الدرادلوكس“ الذي تم تركيبه له، فإن الممثلة لاشانا لينش نجحت باحترافية عالية في تجسيد شخصية ريتا مارلي زوجة بوب، والأمر ينسحب كذلك على أداء ويلفراد شامبرز الذي نجح في إحياء شخصية ”مورتيمر بلانو“ معلم الراستفارية الذي تأثر به مارلي.
الفيلم الذي غابت الحركية عن أغلب مشاهده بدا رتيبا بلا خيط ناظم لأحداثه كأنها أرخبيل جزر متناثرة يتم القفز بينها بلا هدف يخدم السردية، حتى أنه لم ينجح في تقريب المشاهد من واقع حياة الراستا في جامايكا عكس أعمال سنيمائية أخرى تعود للسبعينات والثمانينات مثل فيلم ”روكرس“ أو ”بابيلون“ مثلا.
أما المؤاخذات الأهم التي واجهت الفيلم فقد تعلقت بالتعتيم على مغامرات بوب مارلي العاطفية المتعددة بعد زواجه، رغم الظهور المقتضب لأومي ميارس (صورة لم تتجاوز ثانيتين) والتي جسدت شخصية ”سيندي بريكسبير“ ملكة جمال العالم 1976 التي أنجب منها مارلي ابنه داميان الأشهر والانجح موسيقيا من بين أبنائه اليوم. الفيلم تضمن مقطعا يظهر غضب ريتا ولومها لزوجها جراء كثرة مشاغله خاصة في لندن لكنه تعمد بوضوح اغفال ذلك الجانب من حياة ملك الريغي والحديث عنه بسطحية اضطرارا لا غير.
أما القطرة التي أفاضت الكأس فتمثلت في تغييب خلافات بوب مارلي مع رفيقي درب البدايات ”بوني وايلر“ وخاصة ”بيتر توش“ المعروف بثوريته وراديكاليته ومساندته للقضية الفلسطينية منذ سبعينات القرن الماضي، فبعد اختيار الممثل الجمايكي آليكس آغايم للعب دور بيتر توش وعمله لسبعة أشهر في الفيلم قرر المنتجون حذف كل المقاطع التي ظهر فيها رغم اتقانه للدور حسب تعبيره. ليقتصر ظهور توش على مقطع من ذكريات بدايات مجموعة ”الواليرز“ سنة 1962. آغايم كشف لمجلة ”دانسهال ماغازين“ عن خيبة أمله الكبيرة وغضبه بعد إبلاغه بقرار حذف كل المقاطع التي شارك فيها. ردود الفعل الغاضبة أحرجت على ما يبدو زيغي مارلي وبقية فريق الإنتاج ما دفعهم الى الاستدراك والإعلان عن إمكانية العمل على نسخة ثانية مطولة، تظهر فيها المقاطع المحذوفة الخاصة ببيتر توش وشخصيات أخرى قريبة من مارلي.
موسيقى مميزة ووفاء لفكر مارلي السياسي
رغم كل المآخذ التي سبق ذكرها فإن الكأس لم تكن فارغة بالكامل، فالمقاطع الموسيقية كانت بجودة عالية وبصوت مارلي الحقيقي رغم الإضافات التقنية على مستوى العزف التي تفطن إليها المختصون. الفيلم نجح كذلك في إعادة تجسيد محاولة الاغتيال سنة 1976 بأدق تفاصيلها أو عملية إيقاف مارلي في لندن ومضايقات الشرطة التي يلقبها الراستافاريون ومارلي ”بابيلون“. العمل نجح كذلك في تقريب صورة مارلي الرياضي العاشق لكرة القدم والإصابة التي تعرض لها ليكتشف من خلالها إصابته بالسرطان. مشاهد الذكريات كذلك التي صورت طفولة البطل كانت ناجحة خاصة فيما يتعلق بعلاقة مارلي بوالده ”نورفال سينكلار مارلي“ الرجل الأبيض البريطاني الذي تركه طفلا وتخلى عنه وعن والدته، ثم توفي بداعي المرض سنوات قليلة بعد ذلك. المخرج نجح هنا في إعادة الحياة للصورة الوحيدة التي يملكها بوب مارلي لوالده والتي تظهره ممتطيا دابة بيضاء اللون، مشهد تكرر عبر ذكريات مارلي خلال الفيلم قبل ان يتحول طيف والده البيولوجي إلى طيف والده الروحي والحديث هنا عن الملك الاثيوبي هايلي سيلاسي ( 1892-1975) الذي يتشبث به الراستافاريون حد التقديس.
سياسيا نجح الفيلم كذلك في إبراز علاقة مارلي بالصراعات السياسية التي مزقت بلده خلال السبعينات، فهو من جهة رفض تدخل الامبريالية الأمريكية ومخابراتها في بلده ومن جهة أخرى بقي على مسافة من المد الاشتراكي القادم من كوبا جارة جامايكا بمنطقة الكاراييب. مرد ذلك نزوع اليمين واليسار الجامايكي في تلك الفترة إلى الاعتماد على رجال العصابات المسلحة في تصفية الخلافات السياسية، ما أدخل البلاد في دوامة الحرب الأهلية ودفع المفقرين إلى الاقتتال في الشوارع انتصارا لقيادات سياسية استعملتهم كحطب محرقة.
توف غونغ نار تخلف الرماد
تعرضنا في هذا المقال لدور شركة توف غونغ التابعة للعائلة مارلي منتجة الفيلم، والتسمية في الأصل هي كنية لبوب مارلي خلال فترة شبابه، شركة الإنتاج الفني هذه التي عين زيغي مارلي زوجته الاسرائيلية أورلي آغاي على رأسها كانت قد أصدرت بيانا في 9 أكتوبر الماضي يدعم الاحتلال في عدوانه على غزة مع حديث معوم عن ضرورة حماية المدنيين…لينشر زيغي مارلي بعد ذلك وسما يطالب فيه بتحرير غزة من ”ارهابيي حماس“، موقف قوبل باستنكار من كل من عايش أو خبر الرسائل الفنية الثورية لوالده. فالريغي موسيقى ملتزمة بقضايا الشعوب المفقرة والمضطهدة بالأساس يشحذ نجومها بأغانيهم عزائم الثوار المنتفضين ضد الاحتلال والأبارتايد والظلم إجمالا. زيغي مارلي نفسه لا تخلو ألبوماته المتعددة من هذه القضايا لكن يبدو أن نار بوب مارلي خلفت رمادا باهتا جسده نفاق أكبر أبنائه وتنكره لا فقط لرسائل والده بل لقضايا التحرر التي طالما حملتها موسيقى الريغي الملتزمة.
أما في تونس فلم يخرج حدث عرض الفيلم عن صبغته التجارية والسعي أساسا إلى جلب الجمهور باستعمال موسيقى وصورة مارلي الكاريزماتية. حتى في صفوف الشباب القائم على حملات مقاطعة كل ما له علاقة بجرائم الاحتلال لم نسجل ردة فعل أو تحركا يستحق الذكر، عدى بعض التعاليق والتوضيحات على شبكات التواصل التي لم تلق صدى وتجاوبا رغم جديتها.
iThere are no comments
Add yours