ليست هذه المرة الأولى التي تُثار فيها تتبعات جزائية ضد الصحفي محمد بوغلاب، ولكنها المرة الأولى التي يُودع فيها السجن في قضية رفعتها ضده موظفة سامية بوزارة الشؤون الدينية. تهمته في ذلك ”نسبة أمور غير حقيقية لموظف عمومي“ على معنى الفصل 128 من المجلة الجزائية و ”الإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصال“ على معنى الفصل 86 من مجلة الاتصالات. وحسب نقابة الصحفيين التونسيين فإن هذه هي الإحالة الثامنة (في سنة 2024 فقط) لصحفيين بموجب نصوص غير القوانين المنظمة لمهنتهم، وهذا في حد ذاته انتهاك خطير يدل على الطبيعة الكيدية والممنهجة لهذه القضايا حيث كان من الأسلم قانونا أن يُحال الصحفيون وكل المتهمين في قضايا النشر والرأي على معنى المرسوم 115 المنظم لحرية الصحافة والنشر.

ربما لا يتسع هذا المجال للعودة على جميع القضايا التي رفعتها جهات رسمية في الدولة ضد الصحفيين والمحامين والنقابيين والنشطاء السياسيين من مختلف المشارب الفكرية والقطاعات المهنية، لكن المؤكد أن ما يجمع بين مختلف هذه القضايا أمر واحد: السلطة التنفيذية ترفع قضايا ضد منتقديها والقضاء يستجيب لذلك بسرعة البرق دون احترام لقرينة البراءة ومبدأ التلبس وقيمة الحرية ورفض الرقابة وهي جرائم يمنعها الدستور التونسي بكل وضوح وتمعن السلطة في خرقها دون حياء. أبعد من ذلك، فقد شهدنا في أكثر من مناسبة ما يشبه عملية استدراج تعتمدها السلطة لأصحاب الرأي، حيث يكون استدعاء المثول بموجب نص قانوني سرعان ما يتغير إلى نص قانوني آخر بغاية سلب الحرية، أو تحويل صفة صاحب الرأي من شاهد إلى متهم خلال السماع لمنعه من اصطحاب محام، وأحدثها إلزام فرق الدفاع بالاقتصار على محام واحد دون غيره في بدعة قانونية جديدة تزيد من فضح العداء الصارخ الذي تحمله السلطة للكلمة الحرة ومن هلعها الشديد من كل صاحب رأي.

أعلنت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في بيان نشرته يوم 26 مارس، نيتها ”التقدم بشكاية جزائية ضد وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس من أجل اتهامه بارتكاب جريمة الاحتجاز غير القانوني“ وذلك على خلفية الاحتفاظ بالصحفي محمد بوغلاب دون مبرر قانوني حسب نقابة الصحفيين. وهذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها النيابة العمومية اتهامات بَفتح أبحاث وقضايا كيدية ضد صحفيين ونشطاء ونقابيين ومحامين، بل ان غالبية القضايا والملاحقات في قضايا الرأي كانت تبدأ بشكاوى يرفعها وزراء ومسؤولون في السلطة التنفيذية فتأخذ طريقها بعد ذلك في شكل تعليمات إلى النيابة العمومية، ليجد بذلك الضحية نفسه امام فرق الابحاث مهددا ب5 سنوات سجن (او 10 سنوات) بمقتضى المرسوم 54، والتهمة هي التعبير عن الرأي أو اتخاذ موقف أو نقد هذه الممارسات التي تحولت إلى  سيف مسلط على كل صوت مخالف أو ناقد للسلطة، ما دفع نقابة الصحفيين إلى التحذير من ”خطورة انحراف السلطة القضائية عن دورها من حامية  للحقوق والحريات إلى سيف يسلط على الصحفيين ويسلب حريتهم بعد صدور حكمين منذ بداية هذه السنة بالسجن في حقهم على معنى نصوص قانونية ذات طابع زجري، وقرارات الإيداع بالسجن والاحتفاظ في ثلاث مناسبات“.
عبارة ”الحريات مضمونة أكثر من أي وقت مضى“ ليست مجرد شعار أو وعد انتخابي، بل هي نقطة من ضمن 14 نقطة نشرتها الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة باللغتين العربية والفرنسية، تحت عنوان تذكير وكأننا في حضرة مراهقي حب الظهور وتسجيل النقاط على حساب الخصوم وتصنيف ذلك السقوط الاتصالي ضمن خانة الانجازات التي تتبجح بها السلطة في تونس.
طبعا إلى جانب الانجازات الهلامية الأخرى من قبيل ”شركاء تونس منبهرين من قدرة الدولة التونسية على الصمود ماليا واقتصاديا“، كان انجاز ”الحريات مضمونة في الدولة التونسية أكثر من اي وقت مضى“ الأكثر اثارة للجدل والسخرية في آن واحد، ذلك أنها لا تعدو كونها عبارة سخيفة جاءت في سياق يُساق فيه الناس إلى المحاكم فقط لأنهم عبروا عن أراءهم او انتقدوا السلطة بأي شكل كان. نعم هي عبارة سخيفة لأنها تسخر من وجع أم تونسية يقبع ابنها في السجن فقط لأنه رسم ”غرافيتي” على جدار، ومن تونسي أودع شقيقه السجن لأنه انتقد وزيرا أو مسؤولا في الدولة. سخيفة لدرجة تعفف أعتى ”المطبلين” من مناصري هذا الحيف عن تبريرها كما عودونا.

كل المعطيات تؤكد لنا أمرا واحدا جليا، إن موجة ايقافات الصحفيين والنقابيين والمحامين وأصحاب الرأي بصفة عامة ليست سوى سياسة ممنهجة بطابع تصاعدي تتبعها الدولة التونسية منذ 25 جويلية 2021. رئاسة الجمهورية أصدرت المرسوم 54 سيء الذكر وهو الغطاء القانوني لغالبية المحاكمات والانتهاكات، الوزراء يرفعون الدعوى ضد كل من ينتقدهم أو ينتقد عملهم، النيابة العمومية تستجيب بسرعة قياسية وتفتح البحث وفي بعض الحالات تأذن بالإيداع بالسجن بعد الأبحاث التي تتم في فرق الشرطة المكلفة بذلك… مؤكد اذا أنها سياسة ممنهجة لأن الأطراف المتداخلة في هذه السياسة هي أطراف سيادية من أعلى مستوى (رئاسة جمهورية، نيابة عمومية ، وزراء، فرق بحث)، سياسة حذرت من خطورتها كل الأطراف السياسية والقطاعية والحقوقية وحذرت من استمرار الاحتقان وتسميم الفضاء العام بالمحاكمات والملاحقات وتبادل الشتائم والاتهامات، لكن السلطة اليوم هي الجهة الوحيدة التي لا تزال مقتنعة بها كسياسة ناجحة وناجعة كأنها تسارع دق المسامير في نعش مصداقيتها منتهية الصلوحية، كيف ولماذا؟ الله وحده أعلم. فالأصح أن نقول بصوت مرتفع إن الحريات في خطر أكثر من أي وقت مضى، ولولا المقاومة بالكلمة الحرة وإن كان ثمنها التتبعات وسلب الحرية لدخلت الحريات في دهاليز خبر كان.