المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

صدر عن المعهد الدولي TNI مؤلف جماعي بعنوان «تحدّي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية».

الكتاب من الحجم الكبير مؤلف من 370 صفحة، يمكن للقارئ أن يتتبع من خلاله تفاصيل صك اتهام ناجز في وجه الرأسمالية بكل تجلياتها (الإمبريالية والكولونيالية والنيوليبرالية والاستخراجية والعنصرية)، وآثارها التدميرية على منطقة تقع في أكثر مناطق العالم تأثراً بالأزمة البيئية والاحتباس الحراري. ويشكّل الكتاب، في الوقت نفسه، دفاعاً بالأدلة العلمية والوقائع الملموسة، عن الانتقال العادل بأبعاده البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة.

منظور تحرري للانتقال العادل

ميزة الكتاب الأساسية- فضلا عن غناه بالمعطيات حول الأزمة البيئية بالمنطقة- منظوره التحرري متعدد الأبعاد، ورفضه بشكل قاطع المنظور الحتمي لهذه الأزمة، هذا المنظور الذي يجعل شعوب المنطقة عاجزة عن رد الأزمة المناخية وبالضرورة عدم الاهتمام بها:

لا يجب التسليم بأن الأزمة المناخية واقع حتمي لا رجعة فيه، إذ ظهرت الأزمة ولا تزال قائمة على إثر قرارات مستمرة بالاعتماد على حرق الوقود الأحفوري، وهو خيار يتحمل مسؤولية كبرى عنه الشركات والحكومات في الشمال، بالشراكة مع الطبقات الحاكمة في مختلف الدول، بما فيها المنطقة العربية.

حمزة حموشان

يركز الكتاب على تراكب أشكال تدمير مصدري الثروة الرئيسين: الطبيعة/ الأرض والإنسان، من طرف هذا ”التحالف“ بين الشركات الكبرى وحكومات الشمال والطبقات الحاكمة في المنطقة العربية. ولا يقتصر على ذلك؛ إذ يشير إلى تمفصل تدمير البيئة هذا مع أشكال الاستغلال الأخرى: الاضطهاد الاستعماري (فلسطين، الصحراء الغربية)، وترسيخ الهيمنة الإمبريالية على المنطقة، عبر اتفاقيات تبادل حر وشراكة، فضلاً عن اهتمام قلّ نظيره بدور دول الخليج في إعادة ترتيب الاقتصادات السياسية ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم بمجمله بتضافر مع الطور النيوليبرالي للرأسمالية العالمية.

في نفس الوقت يقدم الكتاب تسفيها إجماليا وتفصيليا للشعارات الخادعة التي يتقدم بها ”التحالف“ السالف الذكر بدعوى تأمين انتقال إلى اقتصاد أخضر: ”الرأسمالية الخضراء“ وكل مستتبعاتها من ”غسيل أخضر“ و”صفر كربون“… إلخ. وفي مقدمة الكتاب سيجد القارئ اختصارا معبِّرا لهذا التسفيه باستعارة كاتبي المقدمة (حموشان وساندويل) صرخة الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ: «كلام فارغ (blah blah blah)».

وعكس ذلك يقدم الكتاب المفهوم التحرري للانتقال العادل بوصفه انتقالا منصفا نحو اقتصاد مستدام إيكولوجيا، وعادل لكل أعضائه. ويعني الانتقال العادل انتقالا من نظام اقتصادي قائم على استخراج مفرط للموارد واستغلال الأشخاص إلى نظام مهيكل بالأحرى حول استرجاع وإحياء مجالات الحياة والحقوق وكرامة البشر. إن الرؤية الجذرية للانتقال العادل هي تلك التي تدرك وترى تدمير البيئة والاستخراج الرأسمالي، والعنف الإمبريالي، واللامساواة، والاستغلال، والتهميش على محاور العرق والطبقة والنوع الاجتماعي، ومن ثم تحللها بصفتها مفاعيل متزامنة تعمل ضمن نظام شامل يحتاج إلى التغيير. و”الحلول“ التي تسعى إلى تناول بعد واحد، مثل الكارثة البيئية، دون اعتبار البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الكامنة خلفها، هي بـ”الأساس حلول زائفة“.

كتاب بعد فوات أوانه …

”الانتقال العادل“ مفهوم حديث التناول في المنطقة العربية. منطقة يندر فيها تناول مواضيع أصبح لها طابع جماهيري في مناطق أخرى في العالم، بعد أن كان في بدايته حصر النخب العلمية التي أطلقت تحذيرات مبكرة بأن العالم يتجه، تحت تأثير الأزمة البيئية، إلى نقطة اللارجعة.

ملاحظة المحرر

الكاتب أشار أن دول المنطقة لم تشهد زخما ايكولوجيا هاما عدى بعض المواقف كتصدي نقابات اتحاد الشغل للمشروع المتعلق بشركة الكهرباء والغاز في حين أن عددا هاما من الحركات البيئية المناضلة أينعت في تونس وراكمت زخما نضاليا سواء كان ذلك في ولاية قابس أو صفاقس وجزيرة قرقنة وتونس العاصمة زيادة عن الحركات المهتمة بمسألة المياه الباطنية والجوفية. .

رغم ذلك لا زال الأمر في منطقتنا حصرَ الاهتمام المقتصر على دائرة ضيقة من النشطاء- ات. والأكاديميين- ات. ومن سوء حظ المنطقة ونشطائها أن كتاب تحدي الرأسمالية جاء بعد فوات الأوان؛ أي بعد أكثر من عقد على انطلاق السيرورة الثورية المسماة ”ربيعا عربيا“ سنة 2011. فقد كانت التحديات والمشكلات البيئية المتعلقة بالمياه والغذاء والأرض، إحدى أهم الأسباب المفجرة للثورة في المنطقة. إلا أن المطالب البيئية لم يظهر لها أثر في شعارات السيرورة الثورية التي عمّت المنطقة بمجملها (إسقاط النظام، خبز، حرية، عدالة اجتماعية…)، باستثناء حركة معارضة لاستعمال الفحم في مصر (2013)، ومناهضة استغلال الغاز الصخري بالجنوب الجزائري (2015)، ومعارضة الاتحاد العام التونسي للشغل ربط محطة كهرباء بالشبكة الوطنية (2020)، لكنها كلها مقاومات بعيدة عن سنتي الصعود الجماهيري لسنة 2011[i].

كتاب لم يفتُ أوانه بعد …

رغم ذلك يتمتع الكتاب براهنية أكبر مما كان سيكون عليه لو صدر سنة 2011 أو قبلها. فالمنطقة العربية- شأنها شأن باقي العالم- في وجه مدفع الأزمة؛ تشير هيئة المناخ، الهيئة الحكومية الدولية المنوطة بتغير المناخ [تقرير التقييم السادس، 2021]، إلى أن منطقة حوض المتوسط ومنطقة الخليج ستشهد في السنوات المقبلة، تفاقما في الأحداث المناخية المتطرفة، مثل حرائق الغابات والفيضانات، مع تصاعد في وتيرة الجفاف في التربة والأمطار (حموشان وساندويل).

”لماذا هذا الكتاب؟ ولماذا الآن؟“، عنوان فرعي للمقال التقديمي للكتاب (حمزة حموشان وكايتي ساندويل المعنون). ويقدم الجواب عن السؤال حججا منطقية وواقعية على أن ”تحدي الرأسمالية الخضراء“ لم يفت أوانه بعد:

تفرض المؤسسات النيوليبرالية الدولية- بشكل عام- رؤاها على كثير من الكتابات المتعلقة بالتغير المناخي والأزمة الإيكولوجية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية بحيث تعيد إنتاج سياساتها. تنحاز التحليلات التي تقدمها تلك المؤسسات لذوي السلطة والمال وتتجاهل أسئلة الطبقة والعرق والجندر والعدل والسلطة أو التاريخ الكولونيالي. وتستند حلولها المقترحة ووصفاتها للمشاكل إلى السوق، وتأتي من أعلى إلى أسفل، ولا تتصدى للأسباب الجذرية لأزمات المناخ والبيئة والغذاء والطاقة، مما يجعل المعرفة التي تنتجها تلك المؤسسات- وبشكل عميق- تُضعف حيوية المجتمع ولا تمكنه من مواجهة الأزمات، بل وتغض الطرف عن أسئلة القمع والمقاومة، مانحة الأولوية لآراء ”الخبراء“، على حساب الأصوات ”القادمة من أسفل“.

المنطقة بحكم أنها مصدر الطاقات الأحفورية وفي نفس الوقت رهانا كبيرا حول الطاقات المتجددة، تصبح مرة أخرى محور تنافس أقطاب العالم الرأسمالي وشركاته. الاتحاد الأوروبي يريد جعلها حديقته الخلفية من أجل استنبات حقول توليد الهيدروجين الأخضر والكهرباء الخضراء لتأمين إنجاح صفقته الخضراء، وإسرائيل تديم علاقاتها الاستعمارية مع فلسطين (منال شقير) وعلاقات الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الأردن (أسماء محمد أمين)، والمغرب يفتح المجال الفسيح من الصحراء الغربية أمام شركات الطاقة الدولية (جواد آلان وحمزة لكحل ومحمود لمعدل) وفي نفس الوقت الاستمرار في فتح مجمل قطاع الطاقة أمام الرأسمال العالمي (جواد مستقبل).

استطاعت الثورة المضادة المسنودة إمبرياليا إسكات صوت ربيع الشعوب؛ وتقدمت دول الخليج ومصر والمغرب لاحتلال مقدمة منصة مُدَّعي رعاية الانتقال الأخضر باستقبال قمم المناخ والمساهمة في النفاق العالمي حول إمكانية انتقال أخضر في ظل نفس النظام الاقتصادي والسياسي.

لقد أوقفت الثورة المضادة ربيع الشعوب، لكن لفترة فقط. فقد استؤنف ”الربيع العربي“ بموجة ثانية سنة 2019 بانتفاض الشعبين الجزائري والسوداني ضد نظامي العسكر، وحراك سياسي واجتماعي بكل من العراق ولبنان، ولم يتمكن من إيقاف هذه الموجة الثانية إلا كابوس كوفيد- 19 والإغلاق الكبير الذي فرضه. وها هو الشعب الفلسطيني بغزة يتقدم صفوف النضال ضد إحدى أشرس أشكال الاستعمار المدعوم إمبرياليا: الكيان الصهيوني، في انتفاضة اقتربت من إنهاء نصف العام والصامدة رغم أشكال التدمير الهمجية، برعاية إمبريالية وصمت- بل وتواطؤ- عربي مطلق.

يحدد كتاب ”تحدي الرأسمالية الخضراء“ هدفا مركزيا وأفقا سياسيا للموجات القادمة من نضال شعوب المنطقة، كيفما كان الشكل الذي ستتخذه. ويتعلق هذا الأفق السياسي والهدف المركزي بموقع دول الخليج الاقتصادي والسياسي: ”قلعة الثورة المضادة“ المدعومة إمبرياليا بحكم قبوعها على أكبر ثورة نفطية في العالم وفي نفس الوقت انخراطها في مشاريع الطاقات المتجددة. تهدف دول الخليج للإسهام الفعال في ”تشكيل تعامل العالم مع أزمة التغير المناخي ومقاومة أي ابتعاد عن النظام العالمي المتمحور حول النفط“ (آدم هنية). من شأن هذا حسب آدم هنية أن ”يربط بقوة النضالات السياسية في الشرق الأوسط بمستقبلنا على الكوكب أيضا“، ما سيمكننا من تفادي تكرار سيناريو 2011 حيث انطلقت ثورات جبارة لكن دون استحضار الأبعاد والمطالب البيئية.

احتمالات مفتوحة: بمثابة خاتمة مفتَقدة

انتهى كتاب ”تحدي الرأسمالية الخضراء“ دون خاتمة. فاحتمالات التغيير بالمنطقة تظل مفتوحة على جميع السيناريوهات. لكن هذه الأخيرة تختصرها صرخة الثورية الألمانية روزا لوكسمبورغ: ”اشتراكية أو همجية“.

هناك انطباع بأن المنطقة سائرة فعلا نحو الهمجية. فالثورة المضادة تعربد بخيلاء في المنطقة من الماء إلى الماء (من المحيط إلى الخليج). والدليل الأكبر على ذلك وقاحة التطبيع العلني من طرف أغلب بلدان المنطقة، والسكوت المطبق على المجزرة الصهيونية في حق غزة ومقاومتها البطلة.

تأخذ الهمجية أشكالا متطرفة من التقلبات المناخية: حرائق بالمغرب والجزائر، وفيضانات في ليبيا، وزوابع وجفاف في العراق، وارتفاع كبير للحرارة في كل المنطقة. هذا فضلا عن استنزاف المخزون المائي والأراضي بالاستمرار في زراعة تصديرية واستخراجية مدمرتين.

لكن الإرادة المتفائلة تكون دائما هي الوجه الآخر للعقل المتشائم. فاستمرار المقاومة الفلسطينية رغم جسامة المجازر وألم الحصار، وإصرار الشعب السوري على الاستمرار في التظاهر رغم الكارثة المستمرة منذ أكثر من عقد، وموقف الشعب اليمني البطل رغم المجاعة مما يقع في فلسطين، وكل تجارب النضال والانتفاض الذي شهدناها في المنطقة طيلة العقد السابق، كل هذا يفتح الباب أمام الاحتمال الآخر: التحرر من أنظمة الاستبداد التي ترعى النظام الاقتصادي والاجتماعي المسنود إمبرياليا.

ستتضافر المطالب الاجتماعية والديمقراطية التي حفزت ربيع سنة 2011، مع المنظور البيئي الذي ”ابتكره“ في المنطقة كتاب الرأسمالية الخضراء؛ ”من أجل إدماج الأهداف الاجتماعية والبيئية في السياسات المناخية، هناك حاجة إلى بدائل للنماذج التي وقع تطويرها حتى الآن. يمكن تحقيق ذلك من خلال مقاربة تتمحور حول النفع العام والملكية العامة، بشرط ألا يتم تنفيذها من قبل مؤسسات خاضعة للمساءلة، بأكثر دقة داخل إطار الديمقراطية الطاقية. يفترض ذلك خطة تتضمن ”مشاركة ورقابة شعبية فعالة“ لرفع هذا التحدي والوصول إلى حلول ”حقيقية“، ثم الدفع بمفهوم ”الانتقال العادل” في النقاشات العالمية حول الانتقال الطاقي“ (أسماء محمد أمين).

من شأن هذا أن يحقق أهداف تلك الثورة التي أشعل حريقها محمد البوعزيزي من جنوب تونس وامتد ليشمل كل المنطقة.


[i] – 23- 02- 2024، علي أموزاي، “الرأسمالية الخضراء: كلام فارغ”، https://tinyurl.com/26f5ccjn.