على بعد ما يقارب عشرة كيلومترات من مدينة سجنان، تقع تلّة محاذية للطريق الوطنية عدد 7، تعرف بمنطقة التفافحية، يشق تلك التلة طريق فلاحي غير معبّد يمثل مسارا يوميا شاقا لنساء المنطقة ومناطق أخرى مثل الخذايرية والروابحية، يربط بين الطريق الوطنية رقم 7 و9 ويؤدي إلى عين هي بمثابة حوض إسمنتي بُني منذ 1966، حيث وُصل ظهر ذلك الحوض بما يشبه الخرطوم يجري منه الماء ليصب في حوض صغير.
وثائقي: سجنان، العطش وسط الماء
19/11/2014
ككل فصل صيف، يزداد مسار نساء منطقة التفافحية والقرى المجاورة لها صعوبة، لذلك تتسابقن نحو ملأ براميلهن قبل أن يشتد الحر، ثم تقمن بنقلها على ظهور الأحمرة. هناك، تعرف كل الأحمرة مسارها دون أن يقودها أحد من العين نحو أعلى التلة حيث تنتشر بعض مساكن قرية التفافحية، لتوصل حمولتها، وتتعثر وهي تقطع المسلك الفلاحي، لكنها تعرف مسارها جيدا، عكس المسؤولين المحليين والجهويين الذين لم يزوروا القرية والمناطق المجاورة لها إلا في فترات الانتخابات.
أزمة متجذرة منذ الاستقلال
كانت هناك جمعية مائية منذ عهد بن علي، غير أن الماء انقطع عن الحنفية القريبة من القرية منذ عام تقريبا رغم أن سكان القرية كانوا يدفعون ثمن حصتهم حسب قولهم.
تحجز نساء قرية التفافحية أدوارهن في ملء الماء عن طريق وضع براميلهن في محيط العين، لتجنب الانتظار تحت حر الشمس. تقول راضية في تصريح لنواة ”حجزت دوري ووضعت براميلي الثمانية منذ فجر اليوم، ولم يحن دوري في ملئها سوى بعد قرابة الخمس ساعات“. تحدثت راضية وهي تبعد فوهة البرميل عن قطعة الخرطوم التي ينسكب منها الماء حتى يشرب حمارها الذي يخوض معها كل يوم رحلة ككل الأحمرة المصاحبة نساء القرية، لنقل الماء على ظهره، وتضيف راضية ”نتقاسم ماء العين مع الأحمرة والأبقار، أخصص برميلين لسقي بقراتي والحمار وأربعة أخرى للغسيل والتنظيف والاستحمام والطبخ والشرب ولا تكفينا تلك البراميل سوى يوم واحد“.
مع طلوع فجر كل يوم جديد، تنطلق نساء التفافحية والقرى المجاورة لها في رحلة مضنية لملء براميل الماء، تسابقن الشمس ويتشابه معيشهن اليومي، والذي يبدأ بحجز دور في العين ثم العودة للمنزل من أجل التنظيف ثم الرجوع للعين وملء براميلهن وإكمال ما يقي من مهامهن المنزلية من تنظيف وطبخ ورعاية الحيوانات، التي تمثل مصدر رزق أغلب العائلات هناك.
تقول مبروكة في شهادتها لنواة ”أستفيق كل يوم على الساعة الثانية صباحا وأنزل إلى العين لأضع براميلي قرب حوضها كي أحجز دوري، ثم أعود لمنزلي لأحلب الأبقار قبل العودة ثانية للعين عند حلول دوري. أصبح ذلك كابوسا وهاجسا لي حتى أنني في أحد الأيام حلمت بأن ماء كثيرا يجري في منزلي لكنني لم أجد براميل لملئه، استفقت خائبة الأمل كأن الأمر حقيقي“.
بدورها تتذمر سعيدة، والتي انتقلت للعيش في التفافحية منذ قرابة ست سنوات بعد زواجها، من غياب الماء الصالح للشرب وتقول إنها كانت تعيش قبل زواجها في مدينة بنزرت ولم تختبر معاناة حجز دور في العين ونقل الماء على ظهر حمارها، وتضيف ”سئمت هذا الوضع، أحيانا أحس بالغربة كأننا لا ننتمي لهذا الوطن. أتذكر أول مرة جئت فيها لملء الماء من العين، بعد أن انتقلت حديثا للعيش في التفافحية، في ذلك اليوم ركنت الحمار جانبا وحاولت وضع برميل الماء على ظهره، لكنني فشلت في ذلك وسقطت وسط الحوض وأحسست أن عظامي قد كُسرت. أتساءل ألسنا بشرا مثل بقية سكان تونس؟ كل أيامنا متشابهة، وبوصلة جميع النساء هنا موجهة إلى العين. سئمنا هذا الوضع، فجميع التونسيين وخاصة سكان ولاية بنزرت ينتظرون الصيف من أجل الراحة، أما نحن فلا يعني لنا الصيف سوى شيء واحد وهو الاستفاقة مبكرا جدا أو السهر أحيانا في العين لحجز دور وملء ما نحتاجه من ماء قبل اشتداد الحر، خاصة أن سيلان الماء يضعف كثيرا مقارنة بالشتاء“.
فشلت كل محاولات أبناء قرية التفافحية في تحقيق مطالبهم بربطهم بشبكة الماء الصالح للشرب، رغم أنه حسب كمال التفاحي، وهو أحد سكان القرية، حصلت رئاسة الجمهورية على ملف يتضمن تفاصيل مطالبهم، وذلك بعد وعود جوفاء أطلقتها السلطات المحلية والجهوية في معتمدية جومين وولاية بنزرت. يقول كمال التفاحي لنواة ”منذ أكثر من ستين سنة، يعيش سكان القرية والمناطق المجاورة لها الوضع نفسه. كبرنا وتوسعت عائلاتنا وشاهدنا كيف أن أبناءنا وأحفادنا يعيشون مأساة عدم توفر الماء التي عشناها. حقيقة لم أكن لأتخيل ذلك“.
عند الاتجاه إلى مدينة سجنان من قرية التفافحية، قبل قرابة الستة كيلومترات عن مركز المدينة، يتجمع أطفال على حافة الطريق وقد ربطوا أحمرتهم تحت أشجار مضللة، يُخيل للمارين بجانبهم أن هناك عينا جارية هناك وأنهم سكان إحدى القرى التي تعيش وضعا كوضع قرية التفافحية، لكن عند الاقتراب منهم يتبين أن الوضع أكثر سوءا، حيث يضطر سكان قرية البالتية التي تفصلها أقل من عشرة كيلومترات عن مدينة سجنان، لملء الماء من مجرى مائي يسيل عبر تلة ويتجمع في بركة صغيرة جدا، حيث يضطر سكان تلك القرية إلى ملء الماء من تلك البركة المليئة بالقش وبعض الطحالب، بعد جفاف الوادي المحاذي لهم في الصيف، ويستعملون خرقة فوق فتحة البرميل لتصفيته من التراب والقش. تقول إحدى نساء القرية إن سكان قرية التفافحية محظوظون مقارنة بهم، لأنهم لا يغتسلون بمياه ملوثة.
سياسة مائية غير عادلة
تحتوي ولاية بنزرت على 9 سدود حسب بيانات وزارة الفلاحة، من ضمنها 4 سدود تابعة لمعتمدية سجنان وسد تابع لمعتمدية جومين، وهما معتمديتان متاخمتان لقرابة أربعة قرى تفتقد المياه الصالحة للشرب.
شمال العطش
23/11/2015
حسب وزارة الفلاحة فإن نسبة ربط كامل مناطق ولاية بنزرت بالماء الصالح للشرب تصل إلى 83 بالمائة، ولا تتجاوز نسبة الربط 50 بالمائة في المناطق غير البلدية. يقول تقرير آخر للمندوبية الجهوية للفلاحة ببنزرت، إن نسبة التزود بالماء الصالح للشرب في ولاية بنزرت ضعيفة خاصة في الجهة الغربية من الولاية، ويرجع التقرير ذلك إلى عدة أسباب منها ارتفاع نسبة الملوحة في المائدة المائية ووجود نسبة مهمة من الحديد فيها، إضافة إلى صعوبة التضاريس في المنطقة الغربية ما يجعل كلفة المشروع مرتفعة ”وبالتالي تكون التكلفة الفردية عائقا أمام إنجازه“ حسب التقرير الذي أرجع أيضا ضعف الربط بشبكة الماء الصالح للشرب، للتشتت السكاني في المناطق الغربية من ولاية بنزرت.
انقطاعات متواترة، تشكيات إزاء جودة مياه الحنفيّات وفوارق جهوية في التزوّد بمياه الشرب مقابل غياب استراتيجية وطنية لترشيد استهلاك المياه. صعوبات هيكلية يعانيها قطاع المياه في تونس، نطرحها مع رامي بن علي الباحث القانوني في المرصد التونسي للمياه.
حسب دراسة أعدها البنك الدولي سنة 2018، وضعت تونس برنامج أمن إمدادات الماء والذي كان من ضمن أهدافه تأمين وتعزيز الوصول إلى مياه الشرب على المستوى الوطني، وقدرت تكلفة ذلك البرنامج ب4 مليار دينار يقول علاء مرزوقي عضو المرصد التونسي للمياه في تصريح لنواة ”هناك مئات الحلول لتجاوز مشكل غياب الماء الصالح للشرب لكن لا توجد إرادة سياسية حقيقية، وحتى المشاريع التي طرحتها الدولة لربط بعض المناطق بالماء، بما في ذلك مشروع المحاور الأربع لن يشمل مناطق ريفية مثل قرية التفافحية. من المخجل أن تتحدث الدولة عن عوائق ربط مناطق ريفية تقول إنها ذات تضاريس صعبة في حين تمكنت من مد شبكة بمئات الكيلومترات من سدود مثل سد جومين إلى مناطق أخرى، ومن المخجل أيضا أن تتحدث عن التكاليف العالية لمد شبكات الماء الصالح للشرب بالمناطق الريفية في حين أن الماء حق حياتي مثل الحق في الصحة والحق في التعليم“. ويضيف مرزوق إن مشكل قرية التفافحية وغيرها من القرى المحرومة من الماء يمكن أن يحلّ بمجرد تهيئة العين وجهرها وتوفير صهاريج ماء للسكان خاصة في فصل الصيف ليتجنبوا عناء نقل البراميل في الحر.
في جويلية 2022، قام بيدرو أروخو أغودو، المقرر الخاص المعني بحق الإنسان في مياه الشرب المأمونة وحقه في خدمات الصرف الصحي، بزيارات إلى عدد من المناطق المحرومة من الماء بما في ذلك قرية التفافحية، وقال في تقرير ملخص زيارته ”تلقى المقرر الخاص خلال زيارته شهادات عديدة من المجتمعات الريفية وحتى من السلطات المحلية والجهوية بشأن ما يولى بالفعل لاستخدام المياه للري والتعدين والصناعة على نطاق واسع من أولوية، على استخدام المياه لأغراض الشرب في المجتمعات الريفية“. ويضيف التقرير أن 650 ألف شخص في تونس معظمهم من المناطق الريفية يفتقرون للماء الصالح للشرب في منازلهم وأن 300 ألف شخص لا يملكون مصادر للماء بالقرب من منازلهم ويعتمدون على الينابيع أو الآبار أو باعة المياه. ويقدر التقرير أيضا أن قرابة 15 بالمائة من السكان في مناطق ريفية يقضون ما يقارب 30 دقيقة للوصل إلى أقرب نقطة يتوفر فيها الماء.
في العام 2019، طرح مشروع مجلة المياه في إطار إصلاح المنظومة المائية في تونس، ولاقى ذلك المشروع انتقادات من منظمات المجتمع المدني التي تعمل في ذلك المجال، والتي كان من ضمن انتقاداتها للحكومة غياب ” الإطار التشاركي في تحديد الرؤية والتصور الأمثل في التصرف في الموارد المائية وخاصة المعدة للشرب“، طُرح مشروع المجلة الجديدة مجددا في مارس الماضي خلال مجلس وزاري مضيق ثمن فيه أحمد الحشاني رئيس الحكومة ”المقاربة التشاركية، التي تم اعتمادها منذ سنوات في إعداد مشروع مجلة المياه الجديدة والوصول إلى هذه المرحلة النهائية“، ويبدو أن الحكومة الحالية ستواصل في السياسات القديمة المتعثرة في التصرف في الموارد المائية بما فيها الماء الصالح للشرب، وأنه طالما تتعثر الحكومات في إيجاد حلول لهذا المشكل، ستواصل قوافل الحمير في القرى سيرها بثبات وصبر نحو الينابيع لتُسند نساء وأطفال تلك القرى في محنتها.
أمطار غزيرة شملت جميع أنحاء البلاد بعد سنوات من الجفاف عانت منها تونس شأنها شأن بقية دول العالم. لكنّ الأمطار التي هطلت مؤخرا لم تغيّر كثيرا من وضعية النقص المائي ومنسوب امتلاء السدود، رغم أنّها بلغت 27% من طاقة استيعابها. سياسات عمومية في قطاع المياه أثبتت عجزها وسياسات فلاحية غير منظّمة ساهمت في تفاقم استهلاك المياه رغم الشحّ الكبير. هذه كانت أهمّ المحاور التي ناقشتها ”نواة“ مع علاء المرزوقي منسّق المرصد التونسي للمياه.
في جانفي 2022، قال الرئيس قيس سعيد في إحدى لقاءاته السابقة مع وزير أملاك الدولة غازي الشواشي آنذاك إنه ”يقتدي بالفاروق ابن الخطاب الذي لا يتردد في قول الحق والإستماتة من أجل الحق والعدل“ وأضاف ”تعرفون ما قاله عمر ابن الخطاب ذات يوم: لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لما لم تمهد لها الطريق يا عمر؟ أنا سأقف بين يدي ربي ولا أخاف إلا الله رب العالمين ليسألني لما سكت عن هذا الحق لأنه حق والساكت عن الحق شيطان أخرس“، في التفافحية تعثرت بغال كثيرة وعطش الأهالي وبحت حناجرهم مطالبة بالحق في الماء الصالح للشرب، ولا حياة لمن تنادي.
iThere are no comments
Add yours