لدى حضوره في القناة الوطنية  يوم الجمعة 31 مارس الجاري، قال الرئيس المدير العام للشركة الوطنية لاستغلال و توزيع المياه إنّ كمية مياه الشّرب المتوفّرة حاليّا تغطّي بين 16 و17 ساعة في اليوم، وسيتوقّف توزيع المياه بالشبكات لمدّة ستّ ساعات تقريبًا. هذا الانقطاع الجزئي لمياه الشّرب يختلف من منطقة إلى أخرى حسب مدى قربها من خزّانات المياه، وحاجياتها من الاستهلاك، بهدف تحقيق “الموازنة بين العرض والطّلب”.

كما أصدرت وزارة الفلاحة والموارد المائية يوم 31 مارس الجاري قرارا يتعلّق بإقرار نظام حصص ظرفي وتحجير وقتي لبعض استعمالات المياه، تشمل الأغراض الفلاحية وريّ المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامّة وغسل السيّارات.

بدأت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه حملتها لترشيد استهلاك المياه عبر إرساليات قصيرة تحمل المضمون التالي: “الجفاف تهديد لبلادنا… الاقتصاد في الماء ضمان لاستمرار حياة أولادنا”، فُهم منها أنّها تمهيد لسياسة التقسيط في مياه الشّرب.

مشكلة هيكلية في تثمين المياه

سجّل المرصد التونسي للمياه 108 حالة انقطاع مياه في جانفي 2023 و21 تحرّكًا احتجاجيّا حول موضوع المياه. “الماء حقّ ولا يمكن أن يصبح سلعة، من منطلق حقوق الإنسان والدستور وقناعاتنا كناشطين في المرصد”، يقول علاء مرزوقي منسّق المرصد التونسي للمياه لنواة، داعيًا الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه إلى التعامل “بإنسانية” مع مسألة الماء، وإعلام المواطنين بفترة انقطاع المياه لأخذ احتياطاتهم.

“نحن نواجه أزمة هيكلية في قطاع المياه، وليست أزمة ظرفية”، يقول الخبير في التنمية والتصرّف في الموارد حسين الرحيلي لنواة، في إشارة إلى تضافر العوامل المناخيّة والخيارات السياسيّة في تعميق الأزمة. “خمسون سنة دمّرت منظومتنا المائية. السياسات القديمة ساهمت في هدر الماء، من خلال التعويل على الفلاحة الموجّهة للتصدير مثل الفراولة والدلاّع والدقلة، في حين أنّ تونس دولة ندرة مياه”، يضيف الرّحيلي.

وفي حال غياب مياه الري، يتّجه الفلاح إلى جلب المياه بطرق غير منظّمة مثل الآبار العشوائيّة التي وصل عددها، وفق خبيرة الموارد المائية روضة قفراج، إلى 21290 بئر عميقة، يتركّز 50% منها بجهة قبلّي من أجل سقي التمور الموجّهة للتصدير، التي يبلغ ثمن الكيلوغرام منها 5 دنانير. “تستهلك حبّة الدقلة 50 لترا من الماء”، تقول روضة قفراج.

والمُلاحظ أنّ هناك تفاوتًا جهويّا بين الإنتاج والاستهلاك، حيث تتركّز 57% من الطاقة الاستيعابية للسدود بالشمال التونسي الّذي يمثّل عدد متساكنيه 14% من إجمالي عدد متساكني تونس، فيما تتركّز الأنشطة الأكثر استهلاكًا للمياه، مثل السياحة والصناعة والزراعات السقوية، في المناطق الساحليّة التي يمثّل عدد سكّانها 21% من مجموع عدد السكّان، فيما تفتقر إلى منابع المياه السطحية والجوفيّة، على عكس الشمال، الّذي يضمّ أحد أكبر السدود في المنطقة، وهو سدّ سيدي سالم.

حالة طوارئ مائيّة

يبلغ عدد السدود في تونس 36 سدًّا بطاقة استيعاب جمليّة تصل إلى 31% فقط. سدّ سيدي سالم في ولاية باجة بالشمال التونسي، هو أحد أكبر السدود الّتي تزوّد العاصمة ومدن الوطن القبلي بمياه الشرب، تفوق طاقة استيعابه 580 مليون متر مكعّب. مع أزمة الجفاف، بلغ 17% فقط من طاقة استيعابه التي قدّرتها وزارة الفلاحة بـ96.9 مليون متر مكعّب.”يجب إفراد وزارة سياديّة خاصّة بالمياه وإخراجها من اختصاص وزارة الفلاحة”، يقول خبير التنمية المستدامة لنواة.

يستند الرحيلي وغيره من الخبراء والمختصّين إلى نسب المياه المرتفعة التي يستهلكها القطاع الفلاحي، إذ يستحوذ على 77% من الجهد المائي. ويُعرَّف الجهد المائي على أنّه الضغط الذي يولّد استهلاك المياه وانسيابها. ويعود ذلك بالخصوص إلى اللجوء إلى الزراعات الموجّهة للتصدير ذات القيمة المضافة الضعيفة والمستنزفة لموارد مياه الريّ. وفي غياب المياه، تصعب برمجة الزراعات الصيفية، ما يؤثّر في تزويد الأسواق بالخضر والغلال، ومن ثمّ يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار.

القطاع السياحي بدوره من أكثر القطاعات استهلاكًا للماء، حيث يصل معدّل استهلاك الماء إلى 500 لتر للسرير الواحد، أي ما يعادل 5 مرات استهلاك الفرد، وهو ما يحتّم “إعداد دراسة جدوى مائيّة”، وفق حسين الرحيلي.

إطار قانوني غير مكتمل

تخضع مياه الشرب ومياه الري إلى مجلة المياه التي تعود إلى سنة 1975. في 2019، تمّ إيداع مشروع مجلّة جديد على أنظار لجنة الفلاحة بالبرلمان، إلا أنّها لم تكن محلّ توافق، رغم المساحة التي كانت متاحة آنذاك لإبداء الرأي والنقاش والضغط على اللجنة المختصة لسحب المشروع وإرجاء النظر فيه. مع بداية السنة الحاليّة، بدا أنّ وزارة الفلاحة أعدّت مشروع مجلّة جديد لم يأخذ بعين الاعتبار توصيات المنظّمات التي شاركت في تعديل الصيغة الأولى المقترحة في 2019، خاصّة على مستوى تضمين الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاص في استغلال الماء الصالح للشرب، واستغلال الخواص للملك العمومي للمياه في نصّ المشروع الجديد. “حذّرنا عند مناقشة النسخة الأولى من مشروع المجلّة من خوصصة مياه الشرب، وهي تجربة أثبتت فشلها لدى الدّول المتقدّمة التي لها ثروات مائيّة. والأخطر من خوصصة مياه الشرب هو الشراكة بين القطاعين العام والخاص في استغلال الملك العمومي للمياه”، يُحذّر علاء مرزوقي منسّق المرصد التونسي للمياه.

يشمل الملك العمومي للمياه البحيرات والبرك والسبخات والمستنقعات المالحة والمستنقعات والعيون وغيرها. “يمكن لمستثمر خاصّ أن يُقيم محطّة لتوليد الطاقة الكهربائية قرب منبع مياه وعندها سيتضرّر الملك العمومي للمياه. لا بدّ من التنصيص على استثناء الملك العمومي للمياه من الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ”، يضيف علاء مرزوقي.

وفي محاولة لتدارك النقائص الحاصلة في تجميع المياه، نصّ مرسوم المالية لسنة 2023 على تخصيص اعتمادات بقيمة 2 مليون دينار لإسناد قروض دون فائدة لا تتجاوز 20 ألف دينار لتخزين مياه الأمطار خلال الفترة الممتدّة بين 1 جانفي إلى 31 ديسمبر 2023. لكن في حال تراجع نسبة التساقطات إلى 33% من المعدّل الموسمي المسجّل خلال نفس الفترة من السنة الماضية، قد يلجأ البعض إلى ملء “المواجل” من ماء الحنفيّة بشكل لا يحقّق الفائدة من هذا الإجراء.

في بلد يعاني الفقر المائي، تتعامل الدّولة مع أزمة المياه معاملة ظرفيّة، تنتهي بمجرّد نزول الأمطار. تلجأ في بعض الأحيان إلى صلاة الاستسقاء لأنّ حلول الأرض انتهت، لكنّها لا تفكّر على المدى البعيد في حماية الأجيال القادمة وتأمين الموارد المائية الضرورية. في المقابل، اتّخذت الدولة إجراءات لمنع استعمال المياه في محطّات غسيل السيارات ولريّ المناطق الخضراء، لكنّها لم تفكّر في كيفيّة مراقبة هذه الأنشطة والحدّ من هدر المياه. القطاع الفلاحيّ يعوّل على الزراعات السقوية المعدّة للتصدير لكنّه لا يفكّر في تغيير خارطة الإنتاج الفلاحي وتكييفها مع التغيرات المناخيّة. وهو ما يؤكّد أنّ أزمة المياه هيكليّة، وأن حلها لن يكون بمواصلة تعامل الدّولة معها تعاملا ظرفيا ترقيعيا.