إضاءة تشعرك بالضياع والتيه، يحاصرك الاختناق والرغبة في الصراخ، يميل الضوء أحيانا بين الأصفر المختنق الذي يحيل على روائح الانبعاثات الغازية الكريهة والأراضي الجدباء التي لا خضرة ولا رُوح فيها، ليُداهمك بين الحين والأخر ضوء أحمر يدق ناقوس الخطر وأجساد الممثلات والممثلين المنتشرة على خشبة المسرح متحركة في نسق يتراوح ما بين السلاسة وبين مشي مثقل يحيل على السجناء المُكبلين بالأصفاد. في قسم آخر من المسرحية، يباغتك ضوء أبيض كأنه المصباح الكاشف لخيوط الجريمة البيئية المستمرة في انعكاساتِها المدمرة يوما بعد يوم بطريقة أكثر قسوة.
ضبابية الإضاءة والأداء الركحي للممثلين منذ بداية العرض المسرحي إلى حدود نهايته، والحوار المشحون بالاحتجاج، يحرك في عقول المشاهدين أسئلة كثيرة حول أثر البخَارة (مادة الكبريت الصناعية الملوثة المستعملة في الصناعات الكيميائية) على مختلف جوانب الحياة في المدن التي توجد بها معامل الصناعات الكيميائية، فتتلاعب مشاهد المسرحية بوجدان المتفرج وتجعل المزاج الداخلي يتحول بين الأمل بالوعي الحاصل بقضايا البيئة والغضب من عدم الاكتراث جراء تدمير بيئة المدن الصناعية وما جنته الخيارات الاقتصادية على الأرض والإنسان والحياة.
تواكب المسرحية سيرورة تأثير التلوث على المدن حيث تتركز معامل ووحدات الصناعات الكيميائية، فتفهم من الحوار والرموز المحمية خلاله تحول مدينة ڨابس من واحة بحرية متفردة في العالم إلى مدينة تحتضر طبيعتها، يمتزج فيها الحزن ورائحة ”البخَارة“ بالهواء المستنشق ليصبح البحث عن الشمس صعبا في ظل ضباب البخَارة الملتحف دائما، كأنه شبح الموت الذي يحاصر كل المدن المحتضنة للصناعات الملوثة.
تسلط المسرحية الضوء على إرتفاع نسب حالات استشراء مرض السرطان في مدن الصناعات الكيميائية، بكل ما يحمله المرض من أثر على المجتمع.
في هذا المقال محاولة لتفكيك العوالم الفنية والابداعية لمسرحية البخّارة، من إنتاج مسرح أوبرا تونس (قطب المسرح والفُنون الركحية) والتي حصدت التانيت الذهبي وجوائز أحسن نص وأحسن آداء نسائي وأحسن آداء رجالي، مع متابعة لالتزام الفن الرابع بقضايا البيئة والانسان.
مسرحية بخَارة واقع التلوث بأسلوب فنيّ مجدد
في المشهد الأول يطرح سؤال ”وين الشمس“؟
تنطلق المسرحية بطرح وضعية عائلة مأزومة، مرض الأب بالسرطان وتفككت العائلة جراء استتباعات الوضع البيئي وتأثيره على المسألة الاجتماعية.
تنقل مسرحية بخّارة بشكل فني مميز وقع تدمير البيئة والمحيط على حياة سكان مدن الصناعات الكيميائية بمختلف جوانبها، في حوار يراوح ما بين الاحتجاج المباشر والصريح حيث أن أحد الممثلين كان يحمل زجاجة ”مولوتوف“ ويلقي خطابا معارضا للخيارات السياسية للدولة في علاقة بالبيئة وأيضا الرسائل الضمنية المكتوبة بطريقة توحي بأن نص المسرحية، سبق ببحث عميق حول ظاهرة تلوث مدينة صفاقس خاصة البحر والهواء وڨابس وخليجها وتأثير ذلك على مختلف جوانب الحياة في المدينة وتدمير المورُوث المادي واللامادي للمنطقة. مدن أجهزت على بيئتها الخيارات الاقتصادية للدولة والتوزيع غير العادل للصناعات الملوثة في العالم. فوفق التقسيم العالمي للصناعات تحولت دول الجنوب في ظل النظام العالمي السائد إلى مكب نفايات دول الشمال الغنية.
حاول جمهور المسرحية على وسائل التواصل الاجتماعي تفسير ما وصفوه بصدق أداء الممثلين عبر محاولة تتبع جذورهم الجغرافية ومواقفهم على شبكات التواصل من قضايا البيئة، مثلا الممثل المخضرم رمزي عزيز هو أصيل ولاية ڨابس، عايش التلوث في المدينة وتطوره وانعكاساته على كل جوانب الحياة من أضرار بيئية وتدهور المحيط وتنامي الإصابات بالأمراض الصدرية والسرطان، إضافة لكونه شاهدا على عديد الحركات البيئية في مدينة ڨابس المطالبة بحلول بيئية جذرية للمدينة وهي إحدى العوامل التي عززت احتفاء رواد شبكة التواصل الاجتماعي بفوزه بجائزة أحسن ممثل.
وفسر جزء آخر من جمهور المسرحية والمتابعين للشأن المسرحي الثقافي جودة وإبداعية الإخراج ووضوح رسائل المسرحية لجذور المخرج الراجعة إلى مدينة صفاقس، المدينة الضحية الشقيقة لڨابس في تأثير البخَارة وجميع المخلفات الملوثة للصناعات الكيميائية. وهذا ما لمح إليه مخرج المسرحية في أكثر من تدخل.
سلطت المسرحية نقدا عميقا للسياسات العمومية التي غلبت الجوانب الربحية والاستثمار في الصناعات المُصدرة على حساب نظافة البيئة وسلامة المحيط وصحة المواطنين وقد أكد عضو حملة ”Stop Pollution“ والمناضل البيئي أصيل مدينة ڨابس خير الدين دبية هذا التحليل ”مسرحية بخارة مثلت انعكاس الواقع البيئي الخطير الذي تعيشه مدينة ڨابس بكل مكوناتها مؤكدة أن القضايا البيئية وصلت خشبة المسرح ، وفوز المسرحية يؤكد اهتمام مجال أوسع من نقاد وممثلين وجمهور المسرح بقضية ڨابس وقضايا البيئة بشكل عام وهذا ما سوف يعزز التفاعل والاستفادة المشتركة ما بين الفن والإبداع والحِراك الاحتجاجي الاجتماعي“، ويضيف محدثنا في علاقة بعمق النص وواقعيته: ”ما أشجعه في المسرحية هو انفتاحها على مكونات المجتمع المدني البيئي بالأخص عند الكتابة الفنية وهو ما انعكس بشكل جيد على النص وأضفى عليه صدقا وواقعية، ونتمنى أن تسلط المسرحية مزيدا من الضوء على قضية ڨابس ضحية التلوث في كل الحقب السياسية“.
مخرج وكاتب سيناريو وممثّل وصاحب فضاء لرتيستو. برز بشكل كبير على الساحة الفنيّة من خلال أعمال مسرحية عديدة من بينها ”الفيرمة“ و”وزن الريشة“ اللّتين يتمّ عرضهما حاليا في عدد من المسارح. لتسليط الضوء على تجربته، حاورت نواة المخرج المسرحي غازي الزغباني للحديث حول أعماله الفنية التي جسدت الواقع التونسي بتجليّاته السياسية المختلفة.
حظيت مسرحية بخَارة بحفاوة وتشجيع منقطع النظير من جمهور المسرح التونسي والمتابعين للشأن الثقافي بشكل عام، وهذا ما يظهر من خلال التفاعلات المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال التشجيع الواضح من نشطاء المجتمع المدني في مدينتي ڨابس وصفاقس للقائمين على هذا العمل المسرحي.
ربما أعاد هذا العمل شكلا من أشكال الربط المفقود بين المسرح والرأي العام والقضايا الراهنة خاصة البيئية. هذا ما أكده الباحث في العلوم الثقافية والناقد المسرحي حاتم التليلي المحمودي في تعليقه لموقع نواة:
تفيض مسرحية البخّارة بعديد مواطن القوّة والطرافة، أوّلها سؤال الالتزام في المسرح التونسي، وهو التزام نابع من انتمائها إلى قضيّة حارقة لكن مسكوت عنها في الفضاء العمومي، تلك التي تجد نشاطها من خلال سياسات الإبادة التي تتعرض إليها البيئة التونسية وبشكل خاص منطقتي صفاقس وقابس أين تحوّلت الأجساد البشرية والآدمية إلى مجرّد ضحيّة لاستنشاق كافّة أشكال السموم. نعم، تجري محرقة في حقّ تلك المنطقة تحت عنوان ”جرذانه البشر“ ومن ثمّ الزجّ بهم في سراديب الموت المعمّم. لهذا السبب وحده يمكن اعتبار هذه المسرحية عملا فنيّا ملتزما على كافّة مستوياته السياسية والاقتصادية والبيئية، إنّها بالكاد بيان جمالي ينبهنا اليوم إلى ضرورة التصدي لمصانع رأس المال ووحشيته.
أكد التليلي عبر هذه القراءة النقدية على أن المسرحية شكلت ما يمكن تسميته بالالتزام الاجتماعي للمسرح التونسي، وتحديدا في نوع القضايا التي يعالجها هذا المسرح المشبع بالقضايا الراهنة والحديث هنا عن الحقوق البيئية وحق الإنسان في بيئة سليمة رغم غطرسة وجبروت رأس المال.
الإلتزام البيئ قضية جديدة في المعجم المسرحي التونسي
يمكن التأريخ لما يمكن أن نصطلح عليه بالمسرح الملتزم في تونس أو المسرح البديل إلى بيان الأحد عشر سنة 1965، والذي وقعه حينها مجموعة من المسرحيين التونسيين أمثال المنصف السويسي وتوفيق الجبالي. يتحدث الجبالي عن فترة البدايات التي سبقت المنعطف النضالي أو الإلتزام الفني في المسرح كالآتي:
في الأربعينات، آثر مسرحيون تعميق معارفهم، فسافروا إلى فرنسا لاستكمال تحصيلهم هناك، فيما قرّر حسن الزمرلي ومحمد الحبيب وعثمان الكعاك تأسيس مدرسة خاصة للمسرح عام 1951 تحت اسم «مدرسة التمثيل العربي».
واستحدثت شهادة تخوّل حاملها تدريس المسرح، وتخرّجت فيها دفعة مسرحيّين عام 1954 من أمثال محمد الرشيد قارة ومنى نور الدين ومحمد جميل الجودي ونور الدين القصباوي…وكانوا النواة لتأسيس ”فرقة مدينة تونس للمسرح“ عام 1953، وشهدت أوج عطائها عندما تولّى رئاستها الفنّان البارز ”علي بن عياد“ بين 1961 و1972.الذي تفوق به جماليا وفنيا وجعله ممارسة رفيعة نخبوية.
يفسر توفيق الجبالي، وهو أحد أبرز الوجوه المسرحية المناضلة في تونس من خلال تمثيل وإخراج عدد من المسرحيات لعل أبرزها وأكثرها رسوخا في ذاكرة المتابعين للشأن المسرحي والثقافي مسرحية كلام الليل، أن الانعطاف والتوجه نحو مسرح ملتزم وحامل للقضايا الاجتماعية في مقال كتبه قدم في تحليل وتأريخ سيرورة تأسيس فضاء ”التياترو“1 الذي يشرف عليه كالتالي:
”مع انتشار الأفكار الحداثية ندد بالمسرح النخبوي (البرجوازي) جمع من المسرحيين وعلى رأسهم المنصف السويسي العائد من إقامة مسرحية مع روجي بلانشون حيث مقولات المسرح الشعبي الملتزم بقضايا المجتمع للمخرج جان فيلار. من خلال البيان المعروف ببيان 11 (عام 1965) الذي كتبه كل من منصف السويسي وتوفيق الجبالي وفرج شوشان وثلة أخرى من المنخرطين فيه. استمر تغافل الدولة في فتح مجالات العمل وبعث مؤسسات تحتضن الخبرات المسرحية لذلك نشأت فكرة التجمعات المستقلة (المسرح الجديد ومسرح فو والمسرح العضوي.) وبعدها تفاقمت ظاهرة الفضاءات الخاصة حيث نشأ (فضاء التياترو، الحمراء، المدار، نجمة الشمال …) لقد طرحت هذه المجموعات نفسها بديلا عن الثقافة الرسمية“.
سمحت أيضا الثورة التونسية بخلق أشكال مختلفة من المسرح الملتزم الحامل لقضايا عصره خاصة تعبيرات الحراك الاجتماعي وقضايا الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولدت من رحم تأسيس جمعيات تنشط ضمن الفضاء المدني التونسي.
ومن هذه التجارب يمكن أن نذكر تجربة ”فني رغما عني“ لمجموعة الفنانين الناشطين (الأرتيفيست) تجربة كتيبة المهرجين الناشطين2 وكلها تجارب تنتمي تقريبا لفن الشارع أو مسرح المضطهدين أو تجمع ثنائية الفنان والناشط أو المناضل المؤمن بالقضايا الاجتماعية.
وربما يمكن تنزيل مسرحية بخارة ضمن هذا السياق الملتزم بالقضايا الراهنة ضمن المجال المحترف والرسمي عكس باقي التجارب النابعة من مبادرات ضمن المجتمع المدني.
ويوضخ التليلي أن مسرحية بخّارة تعبيرة فنية عن أزمة بيئية تجسدت في عمل فني ”نعم، هذه المسرحية شهادة إدانة ضدّ كافّة أشكال التواطؤ بالصمت، وهذه المسرحية هي بيان جمالي بخلفيات سياسية تدين الوجه المعتّم والقاتم والقاتل للطبيعة والبيئة.“
روح المسرحية متجسدة في سينوغرافيا العرض، تلك التي من خلالها ازدحمت العتمة على فضاء الأحداث (منزل العائلة/المصنع)، وهي عتمة ناتجة عن غياب الشمس وغروبها نتيجة وطأة التلوّث، ولنا أن نتخيّل كيف لبشر أن يعيشوا تحت تغطية البخار المسموم ووطأة مرض السرطان الذي أصاب جميع أفراد الأسرة وتأثيره على الروابط فيما بينهم. أما النقطة الثالثة تتجلى عبر أداء الممثلين، لقد ظهرت الشخصيات المسرحية كما لو أنّها كانت عاجزة على الحركة، بطيئة، مشلولة، مشوّهة، وهذا هو تأثير التسمم الذي أصابهم.
مثّل نجاح مسرحية بخّارة بارقة أمل وفرصة في تأسيس مصالحة ما بين الجمهور الواسع والمسرح التونسي وما بين القضايا الراهنة والعمل الإبداعي. كما قدّم فكرة مختلفة عما هو سائد حول الجيل الجديد من الفنانين التونسيين الذين طالما وصموا بالسعي إلى الشهرة والأعمال التجارية وغياب الحس المواطني والمدني، إنها فرصة لجعل الفن يشتبك بقضايا المجتمع مرة أخرى وأن يرى الجمهور الواسع أن لقضاياه انعكاس جمالي على خشبة المسرح.
- توفيق الجبالي: أصول المسرح التونسي ونشأة التياترو ↩︎
- مالك زغدودي: كراس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ”استقراء في تجرية كتيبة المهرجين الناشطين كفاعل احتجاجي جديد“ ↩︎
iThere are no comments
Add yours