المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

 ويعرف الصلح الجزائي بكونه آلية قانونية تقوم على إبرام اتفاق بين الدولة والمتهمين بجرائم مالية أو اقتصادية، يُستبدل بموجبها العقاب الجزائي التقليدي بتسوية مالية أو مشروع تنموي لفائدة الصالح العام.[1] يهدف هذا الإجراء، بحسب النصوص الرسمية، إلى تكريس مبدأ العدالة الجزائية التعويضية، أي تعويض الضرر المالي الحاصل للدولة والمجموعة الوطنية بدلًا من الاقتصار على العقوبة. وقد أعلن عن أهداف طموحة لهذه الآلية، لعل أبرزها استرجاع الأموال المنهوبة وإعادة توظيفها في مشاريع تنموية بالمناطق الأكثر فقرًا، وتحقيق مصالحة وطنية في المجال الاقتصادي والمالي بما يسمح بإعادة إدماج المخالفين اقتصاديًا بعد إبرام الصلح.

الأساس القانوني الحالي للصلح الجزائي في تونس هو المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022 المتعلق بالصّلح الجزائي وتوظيف عائداته. هذا المرسوم صدر عن رئيس الجمهورية في ظرف استثنائي غاب فيه البرلمان والرقابة الدستورية، مما جعله نافذًا فور صدوره.[2] يحتوي المرسوم على 51 فصلًا تضبط إجراءات الصلح مع الدولة في الجرائم الاقتصادية والمالية، والفئات المشمولة به، وتكوين اللجنة الوطنية للصلح الجزائي وصلاحياتها، وكيفية توظيف الأموال المسترجعة. وبشكل عام، يتيح المرسوم إيقاف التتبعات أو إسقاط العقوبات ضد المتورطين بالفساد المالي مقابل دفع مبالغ تُوظّف للمصلحة العامة.[3]

من الناحية النظرية، تبدو فلسفة الصلح الجزائي جذابة؛ فهي توفر للدولة إمكانية استرداد سريع للأموال مع توفير عناء التقاضي الطويل، وفي المقابل تمنح للمذنبين ”فرصة ثانية“ عبر تسوية وضعيّاتهم ماليًا بدل الزجّ بهم في السجن. هذه المقاربة تطرح نفسها كحلّ وسط بين المحاسبة والمصالحة: فالدولة ”تتنازل“ عن حقها في العقاب الزجري مقابل الحصول على المنفعة المالية وإعادتها للشعب.[4] الهدف المعلن إذن هو تحويل أموال الفساد إلى موارد للتنمية، وتحقيق العدالة للمجتمع بطريقة أسرع وأكثر نجاعة. لكن إلى أي مدى صمدت هذه الأهداف المثالية أمام واقع التنفيذ؟

المرسوم عدد 13 لسنة 2022 وسياق إصداره

صدر المرسوم 13/2022 في مناخ سياسي استثنائي، بعد قرارات 25 جويلية 2021 التي جمّد بموجبها رئيس الجمهورية قيس سعيّد عمل البرلمان وأمسك بزمام السلطة التشريعية عبر المراسيم.[5] لطالما عبّر سعيّد عن إيمانه بفكرة الصلح الجزائي قبل وصوله للحكم؛ إذ طرحها سنة 2012 حين كان أستاذًا للقانون الدستوري، معتبرًا أنها سبيل لاسترجاع أموال منهوبة ”تقارب نصف ميزانية الدولة“ آنذاك. وقد اقترح عام 2012 ترتيب رجال الأعمال المتورطين في الفساد (وعددهم 460 وفق ما ذكر) تصاعديًا بحسب حجم الأموال المنهوبة، ومقابلهم ترتيب المعتمديات من الأكثر فقرًا للأقل، ثم إلزام كل رجل أعمال بتمويل مشروع في إحدى المعتمديات الفقيرة بما يتناسب مع حجم فساده. هذه الفكرة القديمة أعاد إحياءها بعد توليه الرئاسة، حيث شدّد في اجتماع لمجلس الأمن القومي في مارس 2020 على ضرورة إبرام صلح جزائي مع الفاسدين تحت إشراف لجنة خاصة، وتوزيع عائداته على الجهات بحسب معيار الفقر.

في 20 مارس 2022، يوم عيد الاستقلال، أصدر سعيّد حزمة مراسيم من بينها مرسوم الصلح الجزائي، في رسالة رمزية بأنه ”استقلال جديد“ للموارد المنهوبة وولادة لـ”جمهورية جديدة تقوم على الحرية والعدل“ على حد تعبيره. المرسوم الجديد بدا في جوهره نسخة منقحة من مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة الذي اقترحه الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي سنة 2015. ذلك المشروع قوبل آنذاك برفض شعبي واسع (حراك ”مانيش مسامح“) لأنه اعتُبر مدخلًا لتبييض الفاسدين وإفلاتهم من العقاب دون محاسبة، وتم التخلي عنه تحت الضغط. أما مرسوم الصلح الجزائي لسنة 2022 فقد صدر في غياب أي نقاش برلماني أو مجتمعي، مستفيدًا من الحالة الاستثنائية التي غابت فيها المؤسسات الرقابية. ورغم تغيير التسمية والإطار القانوني، يرى مراقبون أن فلسفته لم تختلف كثيرًا عن ذلك المشروع القديم في كونه يمنح عفوًا مبطنًا للمذنبين مقابل دفع المال.[6]

حدد المرسوم نطاق الجرائم المشمولة بالصلح الجزائي: وهي الجرائم والأفعال التي ترتبت عنها منافع غير شرعية وألحقت ضررًا ماليًا بالدولة أو الجماعات العمومية، سواء وقعت قبل 2011 أو بعدها إلى تاريخ صدور المرسوم.  وشمل ذلك مجالات واسعة مثل الاستيلاء على المال العام، والرشوة، وتبييض الأموال، والتهرب الجبائي والجمركي، ومخالفات الصرف، وغيرها. الاستثناء الوحيد المعلن هو الجرائم الإرهابية. بهذا الصلح، تتوحّد مسارات استرجاع الأموال المنهوبة سواء عبر لجان المصادرة أو القضاء المالي ضمن مسار واحد، ويتم إسقاط جميع التتبعات والعقوبات في حق المتصالح نهائيًا بعد تنفيذ الاتفاق.[7]

اللجنة الوطنية للصلح الجزائي التي أحدثها المرسوم وُضعت تحت إشراف رئاسة الجمهورية مباشرة تكوينها ضمّ قاضيًا عدليًا كرئيس وعددًا من الممثلين عن هياكل الرقابة والمالية، وأملاك الدولة، والبنك المركزي، وغيرها.[8] أعضاء اللجنة يُعيَّنون بأمر رئاسي لمدة 6 أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة، ويؤدون اليمين أمام رئيس الدولة الذي يملك أيضًا إعفاءهم في أي وقت. هذه اللجنة تتمتع بصلاحيات واسعة لجمع المعلومات وطلب الوثائق ورفع السر المهني للحصول على البيانات اللازمة، ويمكنها تلقائيًا إدراج أشخاص في الصلح أو النظر في مطالبهم المقدّمة عبرهم أو عبر محاميهم. وبمجرد إبرام الصلح النهائي ومصادقة رئيس الجمهورية عليه ضمن مجلس الأمن القومي، تنقضي الدعوى العمومية وتسقط العقوبات المتصلة بتلك القضايا. كما تُخصص المبالغ المستخلصة في حساب خاص بوزارة المالية تحت اسم ”عائدات الصلح الجزائي لتمويل المشاريع التنموية“،[9] توجَّه بنسبة 80% للمناطق الأشد فقرًا و20% للجماعات المحلية لتعزيز مواردها أو لتمويل مشاريع في شكل شركات أهلية وقد تم لاحقًا تعديل نسب التوزيع وأولوياتها بمقتضى قانون التعديل كما سنرى.

يتضح أن السياق الذي جاء فيه المرسوم 13/2022 اتسم برغبة السلطة التنفيذية في حسم ملفات الفساد المالي العالقة بسرعة خارج أطر القضاء التقليدي، وفي ظل رؤية فردية للرئيس تعتبر هذه الآلية حجر الزاوية لمشروعه السياسي والاقتصادي. لكن هذه السرعة في سنّ المرسوم دون نقاش تشاركي اعتبرها كثيرون ثغرة أساسية، حيث غابت الشفافية والتداول حول قانون يهم حقوقًا وحريات جوهرية ويؤثر على مسار العدالة برمته.[10]

تقييم فاعلية الإطار القانوني في استرجاع الأموال المنهوبة

رغم الوعود البراقة، جاءت نتائج الصلح الجزائي الفعلية حتى الآن دون التوقعات بكثير، ما أثار تساؤلات حول مدى فاعلية هذا الإطار القانوني في تحقيق غايته الأساسية: استرجاع الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة. عند صدور المرسوم، تحدث رئيس الجمهورية عن مبالغ طائلة يُفترض تحصيلها. بل إنه خلال أداء أعضاء اللجنة اليمين في ديسمبر 2022 شدّد على أنهم مطالبون باسترجاع 13 ألف و500 مليار (13.5 مليار دينار تونسي) للشعب في إشارة إلى نفس الرقم الذي ذكره عام 2012 كمجموع الأموال المنهوبة المقدّر. هذه السقوف العالية رفعت آمالًا لدى البعض بتحسن سريع للوضعية المالية للدولة التي تُعاني عجزًا كبيرًا.

إلا أن المنجز على أرض الواقع جاء محدودًا جدًا. فاللجنة لم تنطلق فعليًا في العمل واستقبال مطالب الصلح إلا بعد عام كامل تقريبًا من صدور المرسوم، نتيجة بطء في استكمال تشكيلها وتجهيزها. وبحلول مارس 2023، اعترف رئيس الجمهورية نفسه أنه ”لم يتحقق أي شيء يُذكر“ منذ صدور المرسوم وتكوين اللجنة، متهما أطرافًا إدارية لم يسمّها بالتراخي ومحذرًا أعضاء اللجنة من تبعات التأخير. في الواقع، لم تبدأ اللجنة في تلقي الملفات رسميًا إلا في 21مارس 2023، أي بعد مرور سنة كاملة على المرسوم.[11]

خلال تلك الفترة، تم إعفاء رئيس اللجنة الأول مكرم بن منا من مهامه بقرار رئاسي في نفس يوم انطلاق قبول المطالب، كما تم لاحقًا تغيير بعض الأعضاء وتجديد تفويض اللجنة لفترة إضافية (تم التمديد 6 أشهر إضافية بقرار في ماي 2023). هذه التعديلات المتكررة فسّرها مراقبون بأنها مؤشر على اضطراب داخلي وعدم رضا من الرئاسة على نسق العمل. ورغم الضغوط الرئاسية المتواصلة وزيارات رئيس الدولة الميدانية لمقر اللجنة للحث على التسريع، بقيت الحصيلة متواضعة جدًا. فبحسب مصادر رسمية في جوان 2023، قامت اللجنة بحصر حوالي 130 ملف صلح تخص أشخاصًا مشمولين بالإجراء، وتم إنجاز البعض منها، ولم تتجاوز الأموال المودعة في الخزينة العامة حينها 5 مليون دينار فقط. هذا الرقم ضئيل للغاية مقارنة بالوعود (5 مليون مقابل 13,500 مليون دينار متوقعة!). حتى لو اعتبرنا أن هناك أصولًا وممتلكات ستخصص لمشاريع تنموية بدل الدفع النقدي الكامل، فإن الفارق هائل بين المأمول والمحقق. وقد علّق موقع نواة على ذلك بعنوان ”السقوف العالية والخزائن الخالية“ في إشارة إلى الأحلام الوردية بمليارات مفقودة مقابل واقع الخزينة الفارغة من أي موارد جديدة تذكر [12].

من الأمثلة البارزة التي تُبيّن محدودية العائدات قضية رجل الأعمال والنائب السابق لطفي علي المرتبطة بملف فساد نقل الفسفاط. هذا الأخير كان موقوفًا على ذمة القضاء، وتقدم للصلح الجزائي. طالبت لجنة الصلح الجزائي منه بدفع 11 مليون دينار فقط وأُطلق سراحه على أساس اتفاقية الصلح، في حين أن المكلف العام بنزاعات الدولة (محامي الدولة) كان قد طالب بتعويض قدره 167 مليون دينار عن الأضرار في ملفه القضائي. أي أن الدولة قبلت بعُشر المبلغ تقريبًا للتسوية.[13] لا يخفى أن في ذلك خسارة مالية جسيمة للخزينة نظريًا، فضلاً عن إسقاط المحاسبة القضائية عن المتهم. مثل هذه الحالات تدعو للتساؤل: هل استفادت الدولة فعلاً من الصلح الجزائي أم تنازلت عن جزء كبير من حقوقها؟ فالحصول على 11 مليون مع إعفاء المتهم من المحاكمة قد يبدو صفقة خاسرة مقارنة باحتمال تغريمه 167 مليون عبر القضاء التقليدي (مع سجنه). صحيح أن الأحكام القضائية وتأمين تحصيل مبالغها قد تواجه عقبات، لكن الفارق الكبير يوحي بأن الدولة ربما قدّمت ”حوافز“ مبالغًا فيها للجناة تحت مسمى الصلح.

أمام بطء النتائج، اضطرت السلطة إلى إدخال تعديلات تشريعية على إطار الصلح الجزائي لمحاولة تدارك التعثر. ففي جانفي 2024 صادق مجلس نواب الشعب (المنتخب حديثًا) على قانون عدد 3 لسنة 2024 بتنقيح المرسوم 13/2022. هذا التنقيح الذي طلبت الرئاسة استعجال النظر فيه تضمّن إجراءات لتبسيط التسويات، منها إقرار إمكانية الصلح الوقتي، حيث يسمح للطالب بأن يدفع 50% من المبلغ المستوجب ويُفرج عنه مؤقتًا مع الالتزام بدفع الباقي خلال فترة (تم تمديدها من 3 إلى 6 أشهر) [14]. كما سُمح بأن يكون نصف المبلغ المتبقي في شكل مشاريع تنموية بقيمة المبلغ، تُنجز في المنطقة التي يحددها مجلس الأمن القومي. هذه الصيغة تسمح فعليًا بالاعتراف بصعوبة توفير مبالغ كبيرة دفعة واحدة، وتقترح بديلاً عمليًا (الاستثمار عوضًا عن النقد).[15] كذلك ألغى التنقيح إمكانية الطعن في قرارات التسوية الصادرة عن مجلس الأمن القومي لضمان سرعة التنفيذ، وعدّل إجراءات مصادرة أملاك المتهربين. ورغم هذه التعديلات، أشار خبراء إلى أنها لم تعالج جذور المشكلة، بل ركزت على تسريع تحصيل الأموال بأي طريقة.  فالاعتراف الضمني بفشل المسار ظهر من خلال اللهجة التهديدية التي باتت تصاحب الملف حيث صرّح سعيّد في أكتوبر 2024 أن أبواب الصلح ستفتح مجددًا، ولكن ”لا صلح إلا بعد الدفع، ومن يرفض ستتم ملاحقته قضائيًا“ [16]، مذكرًا بإمكانية تفعيل التتبعات ضد المنتفعين الذين يخلّون بالتزاماتهم بمقتضى الفصل 37 الجديد [17].

تعكس هذه التصريحات والتعديلات واقعًا مفاده أن الصلح الجزائي حتى نهاية 2024 لم يحقق الثمار المرجوة بعد. إذ لا معطيات رسمية دقيقة حول حجم الأموال المسترجعة فعليًا أو عدد اتفاقيات الصلح النهائية المبرمة. هذا الغياب للشفافية يزيد الشكوك حول فاعلية المسار. وحتى مع افتراض دخول ملفات جديدة مرحلة الاتفاق في 2024 بعد تمديد الآجال، يبقى الوقت مبكرًا لتقييم التحسن. لكن الأكيد أن الدولة لم تتلقَ بعدُ سوى فتات مما وُعدت به خزائنها. وبالمقابل، تكبّد المال العام نفقات تسيير اللجنة وخبرائها ورواتب أعضائها لمدة تقارب العامين دون عائد ملموس. وقد طالبت منظمة أنا يقظ الرقابية بنشر كشف تفصيلي لتكاليف اللجنة مقابل نتائجها الشحيحة، بهدف مصارحة الشعب بفشل هذا المسار عوض بيع ”أمل زائف“ له [18].

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن فاعلية الإطار القانوني للصلح الجزائي في تحقيق هدفه المالي ما تزال محدودة جدًا. ورهان ”حصد آلاف المليارات في بضعة أشهر“ انقلب إلى خيبة أمل تجسدت في بضعة ملايين فقط، مع إعفاء عدد من كبار المتهمين من المحاكمة. هذه الحصيلة المتواضعة تطرح بقوة سؤال الجدوى: هل كان الصلح الجزائي الخيار الأمثل فعلاً لاسترجاع الأموال المنهوبة، أم أنه أضاف إلى الخزينة خسائر من نوع آخر تتجاوز الخسارة المالية إلى خسارة معنوية في مكافحة الفساد؟

الصلح الجزائي ومنظومة العدالة الانتقالية

من أبرز النقاط الخلافية التي أثيرت حول مرسوم الصلح الجزائي هي علاقته بمنظومة العدالة الانتقالية في تونس، وما إذا كان يكملها أم يتعارض معها. لتوضيح ذلك، ينبغي التذكير بأن العدالة الانتقالية، التي أقرها القانون الأساسي رقم 53 لسنة 2013، وضعت إطارًا شاملاً للتعامل مع انتهاكات الماضي (1955–2013) يشمل الفساد المالي كأحد أصناف الانتهاكات الخطيرة بحق الشعب. فقد أنشأت هيئة الحقيقة والكرامة دائرة مختصة بـالتحكيم والمصالحة للنظر في ملفات الفساد المالي المعروضـة من قبل رجال الأعمال أو المسؤولين السابقين الراغبين في الصلح. كما أُحيلت قضايا فساد عديدة إلى الدوائر القضائية المتخصصة بالعدالة الانتقالية،[19] إلى جانب قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بهدف محاسبة المسؤولين عنها.

على هذا الأساس، ظهر تخوف مشروع من أن يأتي الصلح الجزائي الجديد ليلغي أو يلتفّ على مسار العدالة الانتقالية، بدل أن يكون مكملاً له. فالفترة الزمنية التي يغطيها المرسوم (جرائم ما قبل 2011 إلى 2022) تتداخل جزئيًا مع فترة عمل العدالة الانتقالية (1955–2013). بمعنى أن العديد ممن قد يستفيدون بالصلح الجزائي هم أنفسهم من مشمولي ملفات الفساد قيد النظر أمام الدوائر المتخصصة، أو وردت أسماؤهم في تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة 2011 والتي يعتمد عليها القضاء الانتقالي. فإذا أبرم هؤلاء صلحًا جزائيًا جديدًا، سيترتب عنه انقضاء الدعاوى العمومية وإسقاط العقوبات ضدهم، مما يعني عمليًا إجهاض المحاكمات الانتقالية التي انطلقت أو كان يفترض أن تستكمل أمام القضاء [20].

لقد مثّل مرسوم الصلح الجزائي في نظر عديد المراقبين ضربة قوية لمسار العدالة الانتقالية الذي وُصف بأنه ”مغدور“. فبدل أن يتم دعم الدوائر المتخصصة بالموارد اللازمة لتسريع البت في الملفات العالقة منذ سنوات، جاء المرسوم ليسحب تلك الملفات من يد القضاة نحو لجنة إدارية صرفة معينة من السلطة التنفيذية. والأخطر أنه التفّ على مبادئ كشف الحقيقة والمساءلة القضائية التي تمثل جوهر العدالة الانتقالية. فالعرض الذي يقدمه الصلح الجزائي للمذنبين واضح: لا محاسبة ولا محاكمة مقابل الدفع. وهذا يعاكس فلسفة العدالة الانتقالية القائمة على شرط كشف الحقيقة والاعتراف والاعتذار كمدخل للمصالحة.

صحيح أن المرسوم الجديد يتحدث بدوره عن ”تحقيق المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي“، لكنه مصالحة منزوعة السياق: فهي لا تسبقها مراحل العدالة الانتقالية الخمس (كشف الحقيقة – المحاسبة – جبر الضرر – إصلاح المؤسسات – ثم المصالحة الشاملة). وبالتالي تبدو كمصالحة مبسترة تكتفي بالمرحلة الأخيرة (العفو مقابل المال) دون المرور بباقي المراحل الضرورية لضمان عدم التكرار وإنصاف الضحايا.

من زاوية أخرى، يؤكد أنصار العدالة الانتقالية أن ملفات الفساد الكبيرة (مثل نهب البنوك العمومية خلال حقبة المخلوع وتهريب الأموال للخارج) لا يكفي استرجاع المال فيها دون كشف طرق النهب والتواطؤ المؤسسي الذي حصل. فالمصالحة المالية البحتة قد تعيد بعض الأموال، إن عادت، لكنها لا توفر ”الحقيقة [21]“ للجمهور حول كيفية حصول الفساد وحجم شبكاته، ولا تُسمّي المتورطين أمام التاريخ. وقد شددت المنظمات الحقوقية على حق المجتمع في معرفة تفاصيل نهب المال العام، سواء عبر المحاكمات العلنية إن تواصلت القضايا أمام القضاء، أو عبر اعتذارات علنية وتسجيلات مصوّرة يقدّمها من شملهم الصلح يروون فيها الحقيقة للشعب إذا سُوّيت وضعياتهم. وأشارت في هذا الصدد إلى المثال الإيجابي لشهادة عماد الطرابلسي (صهر بن علي) في جلسة هيئة الحقيقة والكرامة العلنية، حيث قدّم معطيات مهمة عن منظومة الفساد حينها. مثل هذه الشهادة تمثل مكسبًا للحقيقة لا ينبغي التفريط فيه [22].

وفي المحصلة، يبدو أن الصلح الجزائي تصادم مع منظومة العدالة الانتقالية بدل أن ينسجم معها.[23] فبدل أن يكون تتويجًا لجهود كشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين عبر اتفاقات عادلة وعلنية، أضحى طريقًا مختصرًا للتسوية خلف الأبواب المغلقة. وهذا ما دفع البعض لوصفه بأنه ”طعنة جديدة في جسد العدالة الانتقالية“ التي لم تلتئم جراحها بعد منذ سنوات. وقد يكون من المبكر الجزم بكيفية التوفيق بين المسارين، لكن المؤكد أن أي مصالحة اقتصادية لا تراعي مبادئ العدالة الشاملة ستكون منقوصة ومثيرة للجدل [24].

مواقف الفاعلين: القضاء، وهيئة الحقيقة والكرامة، والمجتمع المدني والإعلام

أثار مشروع الصلح الجزائي منذ الإعلان عنه جملة من ردود الفعل من مختلف الفاعلين على الساحة القضائية والحقوقية والإعلامية. وسنستعرض أبرز هذه المواقف المتباينة. فعلى الصعيد الرسمي، التزمت الجهات القضائية الصمت العلني تجاه المرسوم، ربما بحكم واقع الضغط الذي تعيشه بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء في 2022 وسيطرة السلطة التنفيذية على مفاصل القضاء. ومع ذلك، عبّرت جمعية القضاة التونسيين عن موقف ضمني رافض عندما وقّعت على بيان منظمات المجتمع المدني المنتقد للمرسوم.[25] كما أن عددًا من القضاة عبروا عن انزعاجهم من تغييب القضاء في إبرام الصلح ومنح هذه الصلاحية إلى لجنة إدارية تحت إشراف الرئاسة. فالقضاء المالي الذي قضى سنوات يحقق في ملفات الفساد تم تهميشه ووُضع على الرف، مما يُفرغ جهودهم من معناها.  ولم يُخفِ بعض القضاة السابقين ذلك نقدًا في العلن؛ فالقاضي الإداري المتقاعد أحمد صواب والمسجون حاليا، صرّح بأن الصلح الجزائي ”غير قابل للتطبيق“ [26] عمليًا في صيغته الأولى. مشيرًا إلى غياب الواقعية في الآجال المحددة لإنهاء الملفات (ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة) وحجم التعقيدات المالية والقانونية التي تحتاج لسنوات. أيضًا أكدت محكمة المحاسبات عبر تقارير غير علنية مخاوف من أن بعض الأموال المستهدفة بالصلح هي موضوع أحكام ومصادرات نفذتها الدولة بالفعل أو لم تعد ذات قيمة فعلية، مما يجعل الأرقام المعلنة مبالغًا فيها. ويمكن القول إن الجسم القضائي عموماً يرى في الصلح الجزائي تجاوزًا لدوره ومساسًا بمبدأ الفصل بين السلطات، حيث بات رئيس الجمهورية ”قاضي الصلح“ فعليًا عبر هيمنة قرارات مجلس الأمن القومي دون إمكانية طعن.

أما بالنسبة لهيئة الحقيقة والكرامة (سابقًا) فقد كانت قيادات الهيئة المنحلة وخبراء العدالة الانتقالية من أشد المنتقدين للمرسوم. فقد اعتبرت رئيسة الهيئة السابقة سهام بن سدرين [27] أن نجاح أي صلح اقتصادي مرهون بتوفير شروط قانونية وإجرائية صارمة تضمن تحقيق الغاية منه، وهو ما رأت أنه مفقود في المبادرة الحالية. ونبّهت إلى انعدام استقلالية اللجنة الوطنية باعتبار أعضائها معينين من السلطة التنفيذية، وإلى غياب مسار قضائي عادل يثبت إدانات المتهمين قبل عقد الصلح. ورأت بن سدرين أن ”المرسوم 13 لسنة 2022 لا يراعي المعايير والمواثيق الدولية“ لمكافحة الفساد ولا يلتزم بقانون العدالة الانتقالية، مذكرةً بأن هذا القانون هو الإطار الأنسب لمعالجة ملفات الفساد الكبرى ضمن رؤية شاملة. كما أشارت إلى أن مبادرة سعيّد ”لم تلقَ أي تجاوب أو تفاعل من أي طرف“، في إشارة ربما لعزوف حتى رجال الأعمال أنفسهم عن الوثوق في هذه الآلية أو الانخراط فيها (وهذا ما تؤكده قلة طلبات الصلح المقدمة خلال العام الأول). هذا الموقف النقدي عبّرت عنه أيضًا الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية التي اعتبرت المرسوم ”التفافًا“ على مسار كشف الحقيقة والمساءلة. إجمالاً، رأى أنصار هيئة الحقيقة والكرامة أن الصلح الجزائي بصيغته تلك هو تكرار لنهج المصالحة المغشوشة الذي واجهوه سنة 2015، حيث يتم منح إفلات من العقاب تحت شعار المصالحة دون تحقيق شروطها الموضوعية.

وكما أسلفنا، قوبل المرسوم منذ البداية برفض شريحة واسعة من المنظمات الحقوقية والرقابية، حيث بادر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع غيره بإصدار بيان مشترك يوم 28 مارس 2022 اعتبر فيه أن المرسوم يكرّس الإفلات من العقاب [28] ولا يختلف في فلسفته عن مشروع السبسي للمصالحة الاقتصادية. ورأى البيان أن تجاهل معايير العدالة الانتقالية (كشف الحقيقة والمساءلة وعدم التكرار) يفرغ المصالحة من مضمونها. وطالب صراحةً بتعليق العمل بالمرسوم لحين مراجعته بمقاربة تشاركية تحترم الدستور والاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد. كذلك منظمة أنا يقظ المتخصصة في مكافحة الفساد أصدرت بيانات وتقارير لاذعة اللهجة ضد الصلح الجزائي، وصلت إلى حد وصفه بأنه ”تحيّل على شعب بأسره“ وخدعة توهم الناس بتحصيل المليارات بينما الواقع عكس ذلك. وأكدت أنا يقظ أن المرسوم رسّخ ثقافة الإفلات من العقاب وافترس الردع الجزائي للدولة، بحيث بات مهما كان جرمك بحق الدولة يمكن أن تنجو دون محاسبة عبر دفع مبلغ زهيد. واستشهدت المنظمة بحالة لطفي علي سالفة الذكر لتظهر كيف دفع الأخير عُشر التعويض المطلوب فقط ثم خرج حرًا. وانتقدت المنظمة أيضًا غياب الشفافية عن أعمال لجنة الصلح، فالمشمولون وأموالهم وقيمة الصلح تظل طي الكتمان، مما يثير الريبة حول معايير التسوية المتبعة. وذهبت أبعد من ذلك باتهام الصلح الجزائي بأنه أصبح أداة ابتزاز بيد الدولة ضد رجال الأعمال؛ حيث تُستخدم إجراءات مثل تحجير السفر أو الإيقاف التحفظي للضغط عليهم من أجل تقديم طلب صلح ودفع الأموال.  واعتبرت أن نظام قيس سعيّد كسابقيه “يخدم دائمًا نفس المستفيدين الذين يحتكرون الثروة“ وأن ادعاء تحويل الصلح الجزائي إلى روبن هود هو كلام أجوف، بدليل أن المناطق الأكثر فقرًا (مثال: معتمدية حاسي الفريد) لم تلحظ أي تحسن رغم تشكيل اللجنة ومرور الوقت.[29] وفي خلاصة بيانها في نوفمبر 2023، حذرت أنا يقظ من أن المنظومة الحاكمة تعيش انفصامًا في السياسة الجزائية: فمن جهة تزجّ بصغار المتهمين في السجون حتى تختنق، ومن جهة أخرى تسعى للتصالح مع كبار الفاسدين وتضع ”ثمنًا بخسًا للجرائم المرتكبة في حق الشعب“. كما نبهت إلى مشروع لتنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية (المتعلق بالإضرار بالإدارة) يجري إعداده بالتوازي، والذي إن تم فسيخفف المسؤولية عن الموظفين العموميين الفاسدين، مما اعتبرته تكريسًا بنص القانون لظاهرة ”التعليمات الفوقية“ وفتحًا لباب الفساد على مصراعيه. كل هذه المواقف تعكس معارضة مدنية قوية ترى في الصلح الجزائي تراجعًا عن مبادئ دولة القانون وتغليبًا لمنطق الصفقات على حساب العدالة.

وفي نفس هذا السياق، لعبت بعض المؤسسات الإعلامية المستقلة دورًا نقديًا مهمًا في تفكيك خطاب السلطة حول الصلح الجزائي. موقع نواة قدم تغطية معمّقة عبر عدة مقالات تحليلية، أبرزها مقال بعنوان ”حلم سعيّد بمرسوم جديد ومصالحة قديمة“، أشار فيه إلى التقاطع الكبير بين مرسوم 2022 وقانون المصالحة 2015 المسقَط. كما نشر تقارير عن تنقيح المرسوم بعنوان ”حتى لا تتحول أحلام الرئيس إلى كوابيس“ مبرزًا الثغرات التقنية والدستورية للتعديلات (مثل تمريرها كقانون عادي بدل أساسي رغم مساسها بالحقوق، وعدم استشارة هيئات كمحكمة المحاسبات أو المجلس الأعلى للقضاء). أيضًا سلطت نواة [30] الضوء على البُعد السياسي للموضوع، فاعتبرت البرلمان الجديد مجرد ”غرفة تسجيل أو ديوان لدى الرئيس“ لإقرار مبادراته دون نقاش. ولفتت إلى أن إصرار سعيّد على الصلح الجزائي مردّه حاجته لتمويل مشروعه الاقتصادي (الشركات الأهلية) عبر أموال التسويات. هذا الربط أوضح أن فشل الصلح يعني فشل جزء من رؤية الرئيس الاقتصادية، مما يفسر حدة خطابه ضد من “يعرقلون“ المسار.[31] إعلاميون آخرون انتقدوا أيضًا جانبًا اتصاليًا، حيث اعتبروا أن الرئيس ربما بيع معلومات مغلوطة حول حجم الأموال المنتظر استرجاعها. مثلاً، علّق أحد الصحفيين بأن المبلغ 12 ألف مليار الذي يتحدث عنه الرئيس ليس سيولة، بل قيمة تقديرية لأملاك تمت مصادرتها أصلًا وأدار بعضها الدولة وباعت بعضها منذ 2011؛ بمعنى أن الرقم من أساسه يحتاج تدقيق، وربما لم يخبره مستشاروه بأن القيمة الحالية لتلك الأملاك بعيدة جدًا عن 12 ألف مليار المذكورة. مثل هذه الملاحظات في الإعلام تشير إلى وجود تشكيك عام في الرواية الرسمية حول ”كنز“ الأموال المنهوبة القابلة للاسترجاع، وإلى احتمال أن السلطة روّجت أرقامًا غير واقعية غذّت توقعات الجمهور بلا سند متين.

في المقابل، نشرت بعض وسائل الإعلام المقرّبة من السلطة تصريحات تدافع عن الصلح الجزائي أو تقلل من طابعه ”العفوي“. من ذلك تصريح للأستاذ وليد العرفاوي (رئيس جمعية دعم المحاكمة العادلة) الذي قال إن الصلح الجزائي لا يعد إفلاتًا من العقاب بالضرورة، إذ أن الدولة وإن تنازلت عن العقوبة السجنية فهي تكسب أموالاً وتغلق باب الابتزاز الذي كان ممكنًا سابقًا. كما شدد على أن من حق المشمولين بالصلح الاعتراض على المبالغ المحددة والمطالبة بتعديلها، داعيًا إلى مرونة أكبر بقبول تسليم عقارات وأصول عينية ضمن التسويات بدل حصرها في السيولة النقدية. هذه الإشارة تعكس وجهة نظر مفادها أن التعطيل ليس سببه المبدأ نفسه، بل آليات التنفيذ، كالإصرار على الدفع نقدًا رغم أن الكثير من الأموال المنهوبة موجودة في شكل أملاك وشركات. وبالفعل، اقترح العرفاوي إدخال تعديلات على المرسوم لتسهيل قبول الأملاك ضمن الصلح، معتبرًا أن طلب سيولة بمبالغ ضخمة “استحالة مادية“ ويعرقل إقبال رجال الأعمال. كذلك نقلت إذاعة موزاييك عن العرفاوي [32] أن قرابة 400 رجل أعمال تقدموا بمطالب صلح للّجنة حتى سبتمبر 2023، قُبل منها 100 طلب بشكل أوّلي، في محاولة لإظهار أن هناك تجاوبًا من المعنيين رغم كل شيء. وحثّ العرفاوي البقية على عدم تعطيل المسار لأن القانون واضح بأن من لن يصالح ستُستأنف ضده التتبعات القضائية. يمكن اعتبار هذه المواقف موالية نسبيًا تنظر للصلح الجزائي كوسيلة براغماتية لاسترجاع بعض الأموال بسرعة، وتدعو لإعطاء ثقة للجنة وتسوياتها مع إجراء بعض التحسينات التقنية. لكنها تبقى أصواتًا أقل بكثير من تيار الرفض الحقوقي الذي هيمن على المشهد المدني منذ البداية.

عمومًا، المشهد العام لمواقف الفاعلين يظهر انقسامًا حادًا: السلطة وحلفاؤها مصرّون على المضي قدمًا في المسار باعتباره ”مشروعًا وطنيًا“ لإنقاذ الاقتصاد ومكافحة الفساد بطريقة غير تقليدية، يقابله طيف واسع من القضاة والحقوقيين والإعلام المستقل الذين يرون في المسار خطرًا على سيادة القانون وعدالة المساءلة. وربما يدفع هذا التباين إلى مزيد من التجاذب مستقبلًا، خصوصًا عندما تبدأ نتائج الصلح (أو إخفاقاته) بالظهور جليًا أمام الرأي العام.

تحديات التطبيق: الشفافية والسلطة التقديرية والمعايير الغائبة

واجه تنفيذ مرسوم الصلح الجزائي منذ انطلاقه جملة من التحديات العملية التي أضعفت نجاعته وأثارت الانتقادات حول مدى نزاهته. حيث اتسم عمل اللجنة الوطنية للصلح الجزائي بالغموض والسرية نسبياً. فباستثناء بعض البلاغات المقتضبة حول بدء قبول المطالب أو تصريحات عامة من الرئيس، لم يتم نشر قوائم رسمية بالمشمولين بالصلح ولا تفاصيل المبالغ أو المشاريع محل الاتفاق. هذا التعتيم انتقدته المنظمات الرقابية بشدة، لأن أموال الصلح هي في النهاية مال عام والمشاريع المزمع إنجازها ستنفَّذ بأموال الشعب، وبالتالي من حق المواطنين معرفة من يصالح على ماذا وكيف. إن السرية قد تكون مفهومة في مرحلة التفاوض لاعتبارات قانونية، لكنها غير مبررة بعد إبرام الاتفاق. فعلى سبيل المثال، لم يصدر أي بيان رسمي يُعلن أن فلانًا دفع كذا مليون مقابل إسقاط تتبعاته في قضية معينة. كما أن تكلفة تشغيل اللجنة نفسها ظلت مجهولة (من منح وامتيازات للأعضاء والخبراء)، وهذا يعيق تقييم جدواها الاقتصادية. إن انعدام الشفافية يغذّي الشكوك باحتمال وجود محاباة أو معايير مزدوجة في إبرام الصلح، ويفتح الباب للشائعات (مثلاً حديث عن أسماء معينة تم الاتصال بها سرًا للمصالحة ”الودية“ بعيدًا عن الأضواء). وكان الأجدر بالسلطات إصدار تقارير دورية مفصلة عن أعمال اللجنة وحصيلة الأموال والمشاريع، لطمأنه الرأي العام وكسب ثقته في المسار [33].

بالإضافة الى غياب الشفافية، يمنح المرسوم اللجنة الوطنية ورئيس الجمهورية سلطات تقديرية واسعة جداً في مسار الصلح. فالرئيس هو صاحب القرار النهائي في المصادقة على كل اتفاق صلح عبر مجلس الأمن القومي، وقرارات هذا المجلس محصّنة من أي طعن قضائي بعد تعديل 2024. كذلك لرئيس الجمهورية إعفاء أي عضو لجنة في أي وقت دون تبرير، مما قد يؤثر على استقلالية أعضائها إن وُجدت. كما أن اللجنة نفسها مخوّلة بطلب كل المعلومات والوثائق حتى السرية منها، واتخاذ ما تراه مناسبًا في تقدير حجم الأموال المستوجبة أو المشاريع المعادلة لها. هذه الصلاحيات المفتوحة أثارت التخوف من التسييس والتعسف. إذ لا توجد معايير قانونية واضحة ملزمة للجنة في كيفية تقييم ثروة كل مطلوب صلح وتحديد مبلغ الصلح. فالأمر متروك لاجتهادات اللجنة وخبرائها، مما قد يؤدي لتفاوتات كبيرة بين قضية وأخرى دون سبب موضوعي. وبالعودة لمثال لطفي علي، قُدّرت له الدولة ضررها ب 11 مليون دينار فقط [34] رغم أن القضاء قدر الضرر بـ 167 مليون، لأن اللجنة ربما تبنّت منهجية حساب مختلفة أو أجرت ”صفقة“ مع المعني. مثل هذا التفاوت يوحي باحتمال استعمال السلطة التقديرية بشكل قد لا ينصف الدولة. أضف إلى ذلك شبهة الانتقائية حيث أن المرسوم يشمل كل من تورط في جرائم مالية قبل 2022، لكن عمليًا التركيز انصبّ على قائمة الـ 460 شخصًا (تقرير 2011) وبعض الأسماء المعروفة إعلاميًا. أما باقي المتهمين في قضايا فساد جارية بعد 2011 (كبعض المسؤولين الحاليين أو المقربين من مراكز القوى الجديدة) فلا نعلم إن جرى إدراجهم أم لا. وفي هذا الصدد، ذكر وليد العرفاوي أن حوالي 400 رجل أعمال تقدموا بطلبات صلح، ما يعني أن عددًا كبيرًا، ربما يفوق ذلك بكثير، من المؤهلين للصلح لم يتقدموا أو لم تقم لهم الدعوة أصلاً. قد يكون البعض غير معني لأن ملفاتهم صغيرة، ولكن قد يكون البعض أحجم انتظارًا لتغير المناخ السياسي أو تحسّبًا لشروط مجحفة. المؤكد أن عدم وجود معايير انتقاء معلنة يعطي انطباعًا سلبيًا حول نزاهة العملية.

من الناحية الفنية، تُعد عملية تقييم الأموال المنهوبة والمستحقة للدولة عملية معقدة جدًا. فالكثير من هؤلاء الأشخاص قد تكون أموالهم موزعة في حسابات خارجية، أو استثمارات متشابكة، أو أملاك داخل وخارج تونس، وبعضها مصادَر جزئيًا منذ 2011. لذا فإن تحديد ”المبلغ المستوجب“ لكل متصالح تطلب الاستعانة بعدد ضخم من الخبراء (94 خبيرًا متنوعي الاختصاص تم تسخيرهم في فيفري 2023). ومع ذلك، تبقى عملية التقييم محل جدل: هل يتم اعتماد قيمة الأموال زمن نهبها أم قيمتها الحالية؟ المرسوم ينص على احتساب نسب التضخم المالي في المبالغ، بمعنى مراعاة تغير قيمة العملة عبر السنوات. لكن هذا الحساب نظري وقد لا يعكس حقيقة ما تبقى فعلاً لدى الشخص. فهناك شركات انهارت وأموال تبددت بمرور الوقت. كما أن مسألة قبول الأصول العينية كجزء من الصلح لم تحسم بوضوح منذ البداية؛ إذ بدا وكأن الدولة تريد مالاً سائلًا مباشرة. واقترح مختصون كالعرفاوي السماح بقبول عقارات أو أسهم شركات يملكها المطلوب إذا تعذر دفع المبلغ نقدًا. هذا الأمر أصبح واقعًا في التعديل الجديد، لكنه أيضًا يطرح تحديًا في كيفية تُقيّم قيمة المشروع التنموي، فمن يضمن إنجازه بالجودة المطلوبة؟ المرسوم المعدَّل أحدث لجنة لمتابعة تنفيذ المشاريع في الجهات للتأكد من إنجازها، لكن فعالية هذه الرقابة غير معروفة. وبالتالي، يظل معيار “الدينار مقابل الحرية“ نسبيًا وغير منضبط، مما قد يسمح للبعض بالمساومة والنقاش مع اللجنة لتخفيض المبلغ بدعوى عدم قدرته أو لتقديم أصول منخفضة القيمة على أنها تعويض.

يطرح الصلح الجزائي كذلك اشكالا فيما يخص الضغط الزمني وعدم كفاية الموارد البشرية، حيث نصّ المرسوم على مدة عمل محدودة للجنة (6 أشهر قابلة لتمديد واحد)،[35] أي سنة كحد أقصى. هذا الأجل اتضح بسرعة أنه غير واقعي للتعامل مع مئات الملفات الثقيلة. وبالفعل انتهت المدة القانونية الأولى في نوفمبر 2023 دون إتمام المهمة، فتم تجديد عمل اللجنة وتعديل القانون ليواكب التمديد. وقد أقر خبير مثل أحمد صواب أن الأمر قد يتطلب سنة أو سنتين لإنهاء الملفات نظرًا لضرورة تصفية ممتلكات ومنقولات كثيرة وتعدد الإجراءات. كما أن اللجنة واجهت تحدي كثافة الملفات مقابل موارد بشرية محدودة، فهي مكونة من حوالي 8 أعضاء فقط، استعانت بعد ذلك بالعشرات من الخبراء، ولكن حجم العمل لا يزال هائلاً. هذا أدى إلى بطء بيروقراطي في درس كل ملف ومراجعته من كل الجوانب (قانونيًا ومالياً واستثماريًا). وذكر العرفاوي أن بطء الاختبارات والتقارير الفنية كان سببًا جوهريًا في تعطيل المسار. كما أن اللجنة ربما قضت الشهور الأولى في وضع نظامها الداخلي وإجراءات عملها، ما أضاع وقتًا إضافيًا. وبالتالي، ضيق الوقت المبدئي وقلة الكوادر المؤهلة مقارنة بعدد الملفات شكّل عقبة بنيوية جعلت تحقيق الأهداف في الآجال المستهدفة أمرًا شبه مستحيل.

في خضم هذا السياق، واجه تطبيق الصلح إشكال التنسيق مع القضايا الجارية أمام المحاكم. فبعض المتهمين كانوا قيد الإيقاف أو صدرت ضدهم أحكام غيابية. المرسوم نص على أنه في حالة إبرام الصلح، يصدر وكيل الجمهورية قرارًا بسقوط العقوبة للمحكوم غيابيًا أو الموقوف، كما يمكن الإفراج عن الموقوفين بمجرد تأمين 50% من المبلغ المطلوب والشروع في إجراءات الصلح مع تحجير السفر عليهم. وهذا ما حصل فعلاً، إذ أُطلق سراح عدة موقوفين بارزين فور توقيعهم اتفاقات صلح وقتية وتأمين جزء من المبلغ (مثل لطفي علي وشقيقه في قضية الفسفاط). المشكلة تكمن أنه إذا أخلّ هؤلاء لاحقًا بالتزاماتهم (لم يدفعوا بقية المبلغ أو لم ينفذوا المشروع)، فستُستأنف الإجراءات القضائية ضدهم وتُصادر أموالهم. أي أنهم قد يعودون إلى السجن. هذا السيناريو يُعقّد سير العدالة، فالقضاء أوقف محاكماته وأفرج عن المتهم اعتمادًا على وعد بالدفع، فإذا لم يحصل الدفع سيُعاد القبض عليهم وربما تبدأ المحاكمة من جديد بعد ضياع وقت ثمين. هذه الوضعية تهدد بمزيد من إطالة أمد التقاضي واضطراب الإجراءات، خاصة إن كان البعض يستغل الصلح لمجرّد ربح الوقت ثم يراوغ في التنفيذ.[36] وقد أشارت تقارير صحفية فعلًا إلى أن بعض من عبروا عن استعدادهم للصلح اتضح أنهم يماطلون على أمل تغيير الظروف السياسية أو إيجاد مخرج قانوني للتهرب من الدفع. وبالتالي، شكّل الصلح الجزائي في هذه الحالات طوق نجاة مؤقت للمذنبين سمح لهم بمغادرة السجن وربما نقل أموالهم أو إخفاءها في فترة الحرية، قبل أن يقرروا الالتزام أو عدمه. وهو ما يمثل مخاطرة قانونية قد تضر بقدرة الدولة على إنفاذ حقوقها لاحقًا.

إجمالاً، كشفت التجربة في سنتي 2022 و2023 أن الصلح الجزائي يعاني من ثغرات إجرائية وهيكلية عرقلت تحقيق أهدافه بشفافية وعدالة. فعدم ضبط معايير واضحة وتركيز صلاحيات واسعة بيد السلطة التنفيذية ألقى بظلال من الشك على نزاهة العملية. كما أن اعتبارات العملية (كالوقت والموارد والتنسيق) لم تؤخذ بالحسبان بشكل واقعي منذ البداية. ورغم محاولات الترقيع بالتنقيحات التشريعية، يرى متابعون أن هذه المعوقات الجوهرية ما زالت قائمة إلى حد كبير، ولعل أفضل دليل أن مجلس النواب لدى مناقشة التعديل لم يقم بتقييم جاد لعمل اللجنة وحصيلتها ولم يسائل أحدٌ الحكومة عن أرقام ونتائج محددة، بل اكتفى بتعديلات شكلية لإرضاء رغبة الرئيس في تسريع جلب الأموال. لذلك فإن التحدي الأكبر ما زال قائمًا: كيف نضمن أن يتحول الصلح الجزائي من عملية غامضة ومتعثرة إلى آلية عادلة وفعالة حقًا لتحقيق الصالح العام؟

مقارنة مع تجارب دولية مماثلة

طرحت تونس نموذجًا فريدًا نوعًا ما في التعاطي مع جرائم الفساد المالي عبر آلية الصلح الجزائي هذه. ومع قلة التجارب الدولية المماثلة المباشرة، يمكن الاستئناس بمقاربات بعض الدول في ملفات شبيهة، سواء في إطار عدالة انتقالية أو سياسات استرجاع أموال منهوبة، وذلك بهدف تقييم مسار تونس في سياق أوسع.

في المغرب، شهدت المملكة المغربية مطلع الألفية تجربة العدالة الانتقالية عبر هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) التي اهتمت بانتهاكات حقوق الإنسان في حقبة ما قبل 1999. لكنها، خلافًا لتونس، لم تشمل ملفات الفساد المالي والاقتصادي للنظام السابق، ولم يتم إنشاء آلية خاصة لاسترجاع الأموال المنهوبة أو لمصالحة المتورطين في قضايا فساد. وبدل ذلك، استمر التعامل مع قضايا الفساد ضمن الأطر القضائية العادية، مع إصدار عفو ملكي في بعض الأحيان عن مسؤولين مقابل مبادرات لإرجاع أموال أو تسويات غير رسمية. النتيجة أن جانبًا مهمًا من منظومة الفساد القديمة بقي دون تفكيك أو محاسبة شاملة في المغرب، وهو ما اعتبره محللون إحدى النقائص الكبرى لتجربتها الانتقالية. يظهر هنا تباين واضح مع تونس التي حاولت التصدي لجرائم الفساد الماضي ضمن قانون العدالة الانتقالية ثم عبر الصلح الجزائي. ففي حين تجنبت السلطات المغربية فتح هذا الملف اقتصاديًا بشكل مباشر ربما خشية اهتزاز نخبة المال والأعمال، خاضته تونس بجرأة لكن بطريقة أثارت الجدل حول فعاليتها. وربما تبيّن الحالة المغربية أن تجاوز المحاسبة المالية كليًا يؤدي إلى بقاء شبكات الفساد دون مساس، فيما حالة تونس تبيّن بالمقابل أن مصالحة الفاسدين بلا محاسبة كافية قد تفرغ المسار من محتواه الإصلاحي [37].

في سياق اخر وفي الأرجنتين، بعد سقوط الحكم الدكتاتوري عام 1983، اعتمدت الأرجنتين مسارًا قضائيًا قويًا لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، تخللته عثرات كإصدار قوانين عفو منتصف الثمانينات ثم إلغاؤها في 2003. لكن تركيز العدالة الانتقالية هناك كان على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان (الاختفاء القسري والتعذيب) أكثر منه على جرائم الفساد والثراء غير المشروع للنخبة العسكرية. على صعيد الفساد، اعتمدت الأرجنتين النهج التقليدي: تحقيقات قضائية وملاحقات واستعادة أصول عبر القضاء. لم تقدّم الدولة عفوًا ماليًا للفاسدين، بل حاولت استرجاع الأموال المهربة بوسائل قانونية، وإن كانت النتائج محدودة نظرًا لتعقيدات التتبع الدولي. تجربة الأرجنتين تبعث رسالة مفادها أن العدالة الانتقالية الصارمة التي ترفض التسويات قد تستغرق وقتًا طويلاً لكنها ترسخ مبدأ عدم الإفلات. وقد رأينا كيف أُلغي العفو عن جنرالات الأرجنتين في النهاية لتتم محاكمتهم وسجنهم بعد عقود، انتصارًا للحق. بالمقابل، اختارت تونس عام 2017 عكس المسار بإقرار قانون مصالحة إدارية عفا عن مسؤولي النظام السابق في قضايا فساد إداري بدعوى المصالحة مع الإدارة، وهو ما اعتبره نشطاء نكسة وقتها. ثم جاء الصلح الجزائي 2022 ليعفو ضمنيًا عن رجال الأعمال. هذه المقارنة تظهر فرقًا جوهريًا، ففي حين فضّلت الأرجنتين (ودول مثل تشيلي وجنوب إفريقيا في جوانب معينة) إعطاء الأولوية لكشف الحقيقة والقضاء على حساب السرعة، سلكت تونس طريقًا مختصرًا للتسوية المالية على حساب العمق القضائي. قد يجادل البعض بأن لكل بلد خصوصياته، وأن الأزمة الاقتصادية الخانقة في تونس بررت البحث عن أموال سريعة، لكن التجارب العالمية تحذر من أن الحلول السهلة قد تكون باهظة الثمن على المدى الطويل فيما يتعلق بإرساء سيادة القانون.[38]

وفي تجارب دول أخرى، يمكن أيضًا الإشارة إلى الفلبين بعد سقوط ماركوس 1986، حيث تم إنشاء لجنة لاستعادة الأموال المنهوبة. اعتمدت تلك اللجنة أسلوبًا يشبه التسويات المالية مع عائلة ماركوس وأعوانه حيث ركزت على استرجاع عقارات وأموال في الخارج مقابل عدم ملاحقتهم في بعض الحالات. نجحت الفلبين في استعادة جزء من الأموال خلال العقود اللاحقة عبر تلك التسويات والاحكام القضائية، لكن عائلة ماركوس أفلتت من أي عقاب شخصي يذكر، بل وعادت للحكم مؤخرًا.[39] هذه الحالة خليط بين المقاربة التونسية والقضاء التقليدي، حيث تم إنشاء هيكل إداري لاسترجاع المال لكنه لم يحمل صفة العفو الشامل، بل ظل الكثير من القضايا الجنائية قائمًا (ولو انتهى الأمر بعفو سياسي بحكم النفوذ). أما في نيجيريا وبعض الدول الإفريقية الأخرى، فاعتمدت سياسة ”صفقات الإقرار بالذنب“ في قضايا الفساد الكبرى، بمعنى أن يعترف المسؤول أو رجل الأعمال الملاحق بالتهم ويعيد جزءًا كبيرًا من المال المختلس، مقابل حكم مخفف أو عقوبة مع وقف التنفيذ. هذه الآلية تشبه الصلح الجزائي في فكرتها لكن تحت مظلة قضائية، أي ضمن المحاكم وبتسبيب قضائي وباعتراف صريح بالذنب كشرط. وهي أقرب لنموذج الادعاء المخفف المعروف في الأنظمة الأنغلوسكسونية. تونس كان بإمكانها تبني صيغة مماثلة عبر تشجيع اتفاقات قضائية بين النيابة والمتهمين بالفساد (كما اقترح بعض القضاة)، عوض إنشاء لجنة إدارية خارجة عن القضاء. إلا أن الثقة المهزوزة في القضاء دفعت نحو الحلول الاستثنائية.[40]

بشكل عام، تُظهر المقارنات الدولية أن استعادة الأموال المنهوبة عملية شاقة ومعقدة، سواء اختارت الدول الطريق القضائي البحت أو التسويات. الدول التي منحت عفوًا ماليًا سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، غالبًا ما ووجهت بانتقادات داخلية واستياء شعبي، كما حدث في المغرب مع مشروع عفو 1994 عن مهربي الأموال (تحت مسمى عودة الأموال) والذي لم يحقق الهدف المرجو. والدول التي تمسكت بالمحاسبة دون تسويات ربما تأخر عندها استرجاع المال لكنها كسبت على صعيد إرساء مبدأ المحاسبة (الأرجنتين نموذجًا). تونس عبر الصلح الجزائي تحاول المزج بين الأمرين: استرجاع بعض المال الآن مقابل تنازل عن المحاسبة. النجاح في هذه المعادلة الدقيقة يتوقف على حُسن تطبيقها بشفافية وعدالة، وإلا فإنها قد تجمع أسوأ ما في الخيارين: لا أموال تُذكر ولا محاسبة حقيقية، بل مجرد شرعنة للإفلات من العقاب.

خاتمة

يُختتم المشهد إذن بمسار صلح جزائي يثير من الأسئلة بأكثر مما يقدم من الإجابات. أراده صاحبه أداة سحرية لضرب عصفورين بحجر واحد، مكافحة الفساد وإنعاش خزينة الدولة، فإذا به يواجه تعثرات جعلت تحقيق أي منهما محل شك. لقد أظهر العامان المنقضيان أن مجرد سن قانون لن يغير الواقع ما لم تُؤمَّن شروط نجاحه من شفافية ومشاركة واستقلالية في التنفيذ. وفي غياب ذلك، يخشى الكثيرون أن يتحول الصلح الجزائي إلى عنوان للتسامح مع الفساد بدل محاربته، إذ يمنح الفاسدين مخرجًا سهلاً، دون أن يعود بالنفع الملموس على الشعب الذي قيل إنه المستفيد الأول.

إن التقييم النقدي المتوازن لهذا الموضوع يقتضي الاعتراف ببعض النقاط الإيجابية المحتملة، مقابل تعداد السلبيات بموضوعية. فمن جهة، لا يمكن إنكار أن الدولة تحتاج إلى موارد مالية عاجلة، والصلح الجزائي، لو أُحسن تطبيقه، قد يوفر جزءًا منها أسرع مما قد تفعله المحاكم المثقلة بالإجراءات. كما أن مبدأ تعويض الدولة والمجتمع عن الضرر المالي مبدأ وجيه وعادل في ذاته، يتماشى مع روح العدالة التصالحية التي تركز على إصلاح الضرر بدل الانتقام. لكن من جهة أخرى، الثمن الذي دُفع مقابل ذلك باهظ يتمثل في إضعاف هيبة القانون، وإحباط جهود القضاة الذين تتبعوا ملفات الفساد لسنوات، وإرسال رسالة سلبية بأن ثمة طريقًا خلفيًا للنجاة لمن يملك المال والنفوذ.

يبقى الصلح الجزائي فكرة جريئة تحمل في طياتها إمكانات للإصلاح وجلب المنافع، لكنها، في صياغتها وتطبيقها الحاليين، أقرب إلى سيف ذي حدين. فهي إما أن تُستخدم بحكمة وعدل فتساهم في مصالحة فعليّة بين الدولة وفئة من المخطئين على أساس الحق العام والعفو المشروط، وإما أن تُستخدم بتهور ومحاباة فتكرّس مظلمة جديدة بحق الوطن وتسوّغ للمفسدين أن أموالهم تشتري براءتهم. إن نجاح هذه التجربة التونسية الوليدة يتطلب نقاشًا مجتمعيًا أوسع يشارك فيه القضاء والخبراء والمجتمع المدني حول أفضل السبل لاسترداد أموال الشعب دون التفريط في قيم العدالة. فالمحاسبة والمصالحة ليستا ضدين متنافرين بالضرورة، بل يمكن بالتخطيط السليم والتوافق الوطني تحويلهما إلى مسارين متكاملين لتحقيق عدالة ناجزة ناجعة. وحتى يحدث ذلك، سيظل الصلح الجزائي موضوعًا ساخنًا على طاولة الحوار في تونس، تتجاذبه الآمال والمخاوف، وتراقبه أنظار دول أخرى تكافح هي أيضًا لإيجاد المعادلة الصعبة بين محاربة الفساد وتجاوز تركات الماضي.


  1. Décret n° 2022-13 du 20 mars 2022 relatif à la réconciliation pénale et à l’utilisation de ses recettes, JORT n° 33 du 20 mars 2022. ↩︎
  2. Karim Marzouki, « Le règlement pénal en Tunisie : une illusion fabriquée ? », Ultratunisia, 14 mars 2023. ↩︎
  3. Nawal Trabelsi, « Le règlement pénal comme alternative à la peine d’emprisonnement », Revue des droits et libertés, n° 19, 2023. ↩︎
  4. Ministère des Domaines de l’État et des Affaires foncières, Communiqué sur l’activation du mécanisme de réconciliation pénale, mars 2023. ↩︎
  5. « Réconciliation pénale : un vieux projet relancé par Kaïs Saïed », Nawaat, 2021. ↩︎
  6. Forum Tunisien pour les Droits Economiques et Sociaux (FTDES), Rapport critique sur le décret 13/2022, avril 2022. ↩︎
  7. « Le décret-loi sur la réconciliation pénale : quel avenir pour les dossiers de corruption ? », Nawaat, avril 2022. ↩︎
  8. Portail de la législation sur la sécurité, fiche sur la composition et les prérogatives de la Commission nationale de réconciliation pénale. ↩︎
  9. Legal Agenda, « Le décret-loi 13/2022 : une justice de l’exécutif ? », article de 2022. ↩︎
  10. Nawaat et Legal Agenda, critiques doctrinales sur l’absence de débat participatif autour du décret. ↩︎
  11. Webmanagercenter, « Réconciliation pénale : le Président exige la restitution de 13.500 milliards », décembre 2022. ↩︎
  12. Nawaat, « Réconciliation pénale : plafonds élevés, caisses vides », juin 2023. ↩︎
  13. Iwatch, « Lotfi Ali : une affaire révélatrice des limites du processus de réconciliation pénale », 2023. ↩︎
  14. Assabahnews, « Le parlement adopte les amendements de la loi sur la réconciliation pénale », janvier 2024. ↩︎
  15. Nawaat, « Le décret n°3/2024 : vers un assouplissement du processus de réconciliation pénale », février 2024. ↩︎
  16. Assabahnews, « Kaïs Saïed : “Pas de réconciliation sans paiement” », octobre 2024. ↩︎
  17. Legal Agenda, « Le décret 3/2024 : accélération ou dérive ? », mars 2024. ↩︎
  18. Iwatch, « Deux ans plus tard : combien a coûté la commission ? », janvier 2025. ↩︎
  19. Nawaat, « La justice transitionnelle et le décret 13 : collision ou complémentarité ? », mars 2022. ↩︎
  20. Nawaat, « Les effets juridiques de la réconciliation pénale sur les procédures judiciaires en cours », 2023. ↩︎
  21. FTDES, « Justice transitionnelle : les risques du décret 13 », avril 2022. ↩︎
  22. Legal Agenda, « Le décret 13/2022 et la fin programmée de la justice transitionnelle ? », avril 2022. ↩︎
  23. FTDES, « Réconciliation ou dissimulation ? », 2022. ↩︎
  24. IWatch, « Réconciliation pénale : un troc vérité contre argent ? », 2022. ↩︎
  25. Legal Agenda, « La mise à l’écart des pôles judiciaires spécialisés », avril 2022. ↩︎
  26. Mosaique FM, « Ahmed Souab : le décret de réconciliation est inapplicable », janvier 2023. ↩︎
  27. Webmanagercenter, « Les critiques de Sihem Ben Sedrine contre le décret 13 », mars 2022. ↩︎
  28. FTDES, « Le décret 13, un faux pas juridique ? », mars 2022 ↩︎
  29. IWatch, « Le décret 13 est une escroquerie d’État », novembre 2023. ↩︎
  30. Nawaat, « Saïed rêve de milliards fantômes », avril 2022. ↩︎
  31. Legal Agenda, « Réconciliation pénale : vers un échec structurel », 2023. ↩︎
  32. KashfMedia, « W. Aarfaoui : le décret n’est pas un abandon de justice », 2023. ↩︎
  33. IWATCH, « La transparence absente du processus de réconciliation », iwatch.tn, 2023. ↩︎
  34. IWATCH, « Affaire Lotfi Ali : une remise de peine contre 11 millions », iwatch.tn, 2023. ↩︎
  35. Législation Sécurité Tunisie, « Décret n°13-2022 relatif à la réconciliation pénale », legislation-securite.tn, art. 4 & 8. ↩︎
  36. Législation Sécurité Tunisie, « Article sur l’intégration du taux d’inflation dans les évaluations financières ». ↩︎
  37. Maroc – Commission Équité et Réconciliation (IER) Première commission de vérité en Afrique du Nord, créée en 2004, n’avait pas de pouvoirs judiciaires, ne nommait pas les coupables et ses « réformes » ont été jugées comme un simple « vernis de réforme ». ↩︎
  38. Argentine – Justice de transition et corruption Après la dictature (1983), l’Argentine a choisi un modèle judiciaire axé sur la répression du crime et de la corruption, parfois au prix d’amnisties temporaires, mais sans offrir d’ « amnistie financière ». ↩︎
  39. Philippines – PCGG (Presidential Commission on Good Government) Créée dès 1986, la PCGG a gelé des avoirs Marcos et récupéré plus de 170 milliards PHP (≈ 3,1 milliards USD), des montants affectés directement à la réforme agraire. ↩︎
  40. Philippines – PCGG (Presidential Commission on Good Government) Créée dès 1986, la PCGG a gelé des avoirs Marcos et récupéré plus de 170 milliards PHP (≈ 3,1 milliards USD), des montants affectés directement à la réforme agraire. ↩︎