لم أكن أتوقع من السلطة استقبالا بالأحضان لما عدت لأرض الوطن بعد ندائي للشعب التونسي يوم 14 أكتوبر على قناة الجزيرة للانخراط في المقاومة المدنية السلمية ضد نظام يرفض كل إصلاح وكل مصالحة وطنية. وقد رجعت مقراّ العزم على مواجهة كل الأخطار، خاصة بعد أن علّقت بي قضية جديدة واستدعائي للتحقيق بتهمة التحريض على خرق القوانين التي سنتها العصابات لتأبيد حكمها.

لكنني لم أتصور لحظة أن ردّ النظام سيتمثل في إطلاق عشرات من المنحرفين كما حصل يوم 27 أكتوبر وسط مدينة سوسة ليمطروني بالشتائم القذرة طيلة ساعة ونصف…كل هذا بتحريض من البوليس السري وتحت حراسة البوليس بالزى. ورغم تعودي على مستوى هذا النظام، فإن دهشتي فاقت كل حدود بعد أن اعترضت طريقي ، في ضاحية القنطاوي يوم 29 أكتوبر، سافلة صرخت أنني أعاكسها ثم انقض عليّ بعد بضعة أمتار منحرفون تابعوني نصف ساعة بالسب والتهديد ….بالاغتصاب.

إن هذا التكتيك الذي لا يستأهل حتى الشتم ، هو من جهة ردة فعل على الاستقبال الشعبي الحافل الذي خصتني به مشكورة مدينة دوز، ومن جهة أخرى محاولة لتحقيق هدفين:

  • أولا : إرهابي لمنعي من المشي في الشارع ومن ثم عزلي بقطع كل اتصال مباشر مع المواطنين.

  • ثانيا : دفعي إلى العودة إلى المنفى وقد ضاقت كل السبل أمامي .

وبعد تفكير طويل وتشاور معمق مع أصدقائي في حزب المؤتمر وخارجه ، وبعد انتباهي أن هدف الاستفزاز هو جرّي لتبادل العنف مع منحرفين حتى تنتفي عن مطالبتي بالمقاومة السلمية كل جدية، مع شلّ حركتي دون تكلف ثمن اعتقالي، وبعد تفحص طرق مواجهة هذا التكتيك ، فقد قررت ما يلي :

  • أولا – التمسك بحقي في العيش في وطني ورفضي المطلق العودة إلى المنفى رغم ما يوفره لي من أمان .
  • ثانيا : الاعتصام داخل بيتي لتفويت الفرصة على تكتيك الاستفزاز هذا حفاظا على شرفي، وعلى شرف السياسة التي أوصلتها ممارسات نظام العصابات إلى ما تحت الحضيض، وذلك إلى أن يحصل تغيير جدي في البلاد يمكنني أنا وكل مواطن تونسي من المشي في الشارع دون تهديد أو خوف وممارسة كل الحقوق المدنية ومنها حق التظاهر والاجتماع والرأي بحرية وأمان .
  • ثالثا : عدم المثول أمام أي حاكم تحقيق أو قاضي إلا بالإكراه والعنف.

لقد ناضلت دوما مع رفاق الطريق، المعروفين منهم وأبطال وبطلات الخفاء، من أجل حق التونسيين خصوصا والعرب عموما، في انتخابات غير مزورة ،غير معروفة النتائج مسبقا ،وحقهم في ألا يسلب المال العمومي تحت أنظارهم ، وحقهم في ألا يعيشوا تحت إرهاب الدولة وإذلالها.

هاهو منعطف جديد بالنسبة لي في معركة التحرّر. إن اعتصامي منذ الآن في بيت،أسكنه وحدي لوجود عائلتي في الخارج، ومعرّض في كل لحظة للمداهمة من قبل الشرطة أو المجرمين ،و لزمن لا يعلم مدته إلا الله، هو الشكل الوحيد الممكن في هذه الظروف والذي يتلاءم وحده مع عمري ودوري السياسي .
فلا نتيجة لخناقة يومية مع منحرفين يحرّضهم منحرفون سوى إهدار مزيد من شرف السياسة والدولة.

إن هذا النظام الأرعن، الذي أوصل السياسة إلى مستنقع أساليب يندى لها الجبين وجلبت العار لتونس والتونسيين، هو الذي يدفع اليوم البلاد نحو مزيد من التعفن ويؤجج أسباب اللجوء للعنف . ومن ثمة ضرورة التصدي له بكل ما نقدر عليه من عزم وشجاعة ومسئولية و خاصة من طرق سلمية لمنعه من استعمال تعلة مقاومة الإرهاب للاستمرار. وفيما يخصني سأواصل ، حتى من بيتي المحاصر ليلا نهارا، وبكل الإمكانيات المتاحة لي الدعوة إلى المقاومة المدنية النشيطة، مثل رفع الأعلام على البيوت وإضاءة الشموع والاعتصامات في الأماكن العامة والمظاهرات والاضرابات القطاعية ، إلى أن يرحل الدكتاتور ولا تتجدد الدكتاتورية عبر هذا الوريث أو ذاك ، وتمر تونس من حكم العصابات إلى حكم المؤسسات من عهد الأمن إلى عهد الأمان ، من الاحتلال الداخلي إلى الاستقلال الثاني .

سوسة في 3-11-2006

منصف المرزوقي