تبرز الاحصائيات الرسمية تواصل حالة التدهور الاقتصاديّ واستمرار ثنائيّة تطوّر العجز وتراجع النموّ. حيث انخفض معدّل النموّ الاقتصادي سنة 2024 إلى 0.2% مقابل 2% خلال الثلاثي الثالث من سنة 2021. أمّا الدينار التونسي فلم يتمكّن من تجاوز أزمته المتواصلة منذ أكثر من عشر سنوات، ليتراجع سعر صرفه مقابل الأورو من 3.307 في جوان 2021 إلى 3.365 في شهر جوان الفارط، لينطبق نفس الأمر وإن بدرجة أكثر حدّة مقابل الدولار الأمريكي. حيث انتقل سعر الصرف خلال نفس الفترة من 2.821 إلى 3.115.
اجترار السنوات العجاف
مناخ اقتصاديّ متردّ تمتّ مواجهته بمحاولة كبح جماح نسبة التضخّم التي بلغت 10.4% في مارس 2023 قبل أن تتراجع إلى 7.4% في مارس 2024 بثمن باهض تمثّل في الرفع المستمّر لنسبة الفائدة المديرية من 6.25% سنة 2021 إلى 8% في جويلية 2024. لكّن هذا ”المُنجز“ أثّر بشكل سلبي على النموّ الاقتصادي عير تقليص الاستهلاك المرتبط بارتفاع أقساط القروض الاستهلاكيّة وتراجع نوايا الاستثمار، إضافة إلى زيادة تكلفة القروض المخصّصة للاستثمار. ما ينتج حالة شبيهة بالركود الاقتصادي الناجم عن كبح نسق الدورة الاقتصاديّة.
أمّا المؤشّرات التّي ”تطوّرت“، فشملت البطالة التي تفاقمت من 15.3% سنة 2021 إلى 16.2% سنة 2024، كما ارتفع عجز الميزان التجاري من 16210 مليون دينار إلى 16543 مليون دينار في نهاية سنة 2023 إضافة إلى تواصل عجز الميزانية العمومية عند مستوى 7.7%.
أمّا على صعيد تعبئة موارد الدولة، قدّرت الموازنة العمومية أن تبلغ المداخيل الجبائية لسنة 2024 ما يناهز 44050 مليون دينار، بنسبة تطوّر 11.6%، ما يمثّل 89.6% من مداخيل الدولة. بينما ستُحافظ المداخيل غير الجبائيّة على نفس المستوى الهزيل بـ 4760 مليون دينار، متأتية بالأساس من الهِبَات والأملاك المُصادرة والمساهمات العمومية وتسويق المحروقات، إضافة إلى عائدات عبور الغاز الجزائري. كما أقرّ قانون المالية لسنة 2024، ”أليات بديلة لتمويل نفقات الدّعم“ وذلك عبر توسيع مجال تطبيق أتاوة الدعم ومراجعة نسبها. ومن بين هذه الآليات ترفيع نسبة الاتاوة على بعض المؤسسات السياحية إلى 3 %و5% بالنسبة للملاهي والنوادي الليليّة إلى جانب الترفيع في معلوم الإقامة بالنسبة للسياح الأجانب وإحداث معلوم على مشتقات الحليب.
السياسات التقشفية في تفاقم
أما على صعيد النفقات، لم تتجاوز النفقات المتعلّقة بالاستثمار الـ 5274 م.د أي ما يعادل 6.8% من إجمالي نفقات الميزانية. وهو ما يعكس انتهاج خيارات اقتصاديّة تجعل من مستوى الاستثمار العمومي متدنيا جدا. وهي خيارات لا تشذّ عن الخيارات التي تم تبنيها في قوانين الماليّة السابقة. إذ أنّ عنوان الاستثمار في قانون المالية لسنة 2023 كان مقدّرا بـ 4692 م.د مقابل 3567 م.د سنة 2022 و 4506 م.د سنة 2021.
كما قُدّرت النفقات الموجّهة لخدمة الدّين العمومي بـ 24701 م.د سنة 2024 (ارتفاع ب 18.7% مقارنة بسنة 2023) تكريسا حرفيا لسياسات التّقشّف التي تمليها المؤسّسات الدّوليّة المانحة. إذ تأخذ حيّزا هاما من ميزانيّة الدّولة.
وقد تمّ وضع هذا القانون في ظلّ غياب كامل للشّفافيّة في أداء مؤسسات الدّولة، إذ أنّ جميع مراحل إصدار هذا القانون ونشره بالرّائد الرّسمي لم تتجاوز مدّة الـ 12 يوما. في حين كان من المفترض توسيع النّقاش حول هذه الآلية لتمويل عجز الميزانيّة على نطاق واسع من مختلف الفاعلين في الميدان الاقتصادي من ”خبراء“ ومنظمات وطنية ومجتمع مدني تطبيقا للمبادئ المنصوص عليها بالقانون الأساسي للميزانيّة.
أمّا بالنسبة للانتداب في الوظيفة العمومية فقد وضعت الحكومة إجراءات عاجلة للتحكّم في كتلة الأجور تتمحور أساسا حول ”ترشيد“ الزيادات في الأجور و ”التحكم“ في الانتدابات وحصرها في ”القطاعات ذات الأولوية“ إلى جانب الحرص على تطبيق برامج الإحالة على التقاعد المبكّر. ممّا يجعل تطوّر نسبة نفقات التأجير من ميزانية الدّولة ينحصر في نسبة 1% فقط بين سنتي 2023 و2024 في حين يقدّر المعدّل السنوي لنسبة التضخّم في سنة 2023 بـ 9%. تبعا لهذه الإجراءات سيواصل عدد الموظفين لكل 10000 ساكن انحداره إلى 522 في سنة 2024.
هذا ويشير قانون المالية لسنة 2024 إلى أنّ تقديرات النّفقات الموجّهة للدّعم بعنوان سنة 2024 تقدّر بـ 11337 م.د ما يمثّل 19% من جملة نفقات ميزانيّة الدّولة بعد أن تمّ النّزول بها إلى مستوى 8832 م.د بقانون الماليّة لسنة 2023. لكن حسب التقرير المرفق بقانون الماليّة لسنة 2024، فإنّ نسبة إنجاز ميزانيّة 2023 إلى حدود شهر أوت الفارط فيما يخصّ نفقات الدّعم لم تتجاوز الـ 50% أي ما يعادل 4139 م.د وهو ما يفسّر غياب الكمّيات الكافية للتزويد بالموادّ الأساسيّة والطوابير الطّويلة أمام المخابز مثلا. ويعود ذلك بالأساس إلى توجيه العملة الصعبة المخصصة للاستيراد نحو تسديد استحقاقات البلاد من الدّيون في ظلّ عدم التوصّل إلى اتّفاق مع صندوق النّقد الدّولي أساسا وبقيّة المانحين الدوليّين.
تقرير وزارة المالية حول تنفيذ ميزانية 2024: تقصير وعلاج بالكيّ
أصدرت وزارة المالية منتصف شهر سبتمبر 2024، تقريرها الخاص بتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى السداسي الأول لسنة 2024، والذي أشار في إلى ارتفاع الدين الداخلي بنسبة 24.9% مقابل 20.5% خلال نفس الفترة من سنة 2023. من جهة أخرى، لم تتجاوز نسبة انجاز التقديرات 38.1% حتى شهر جوان 2024.
في ظلّ هذه المؤشرات، وإصرار الحكومة وعلى راسها رئيس الجمهورية قيس سعيّد على تقديم عدم اللجوء إلى سنّ قانون مالية تعديلي ”كانتصار اقتصادي“ له، يصبح السؤال الأهمّ، كيف يمكن التغطية على هذا العجز المُحقّق في ميزانية 2024؟
تبدو الخيارات محدودة جدا امام وزارة المالية. حيث لم تستطع الحكومة تعبئة سوى أقل من 50% من الموارد المتأتية من القروض والهبات إلى حدود موفى جوان 2024. وعلى هذا الأساس، سيكون الملجأ الرئيسي هو المزيد من الالتجاء إلى الاقتراض الداخلي من البنوك التجارية المحلية أو اتفاقيات قروض بينية جديدة مع المؤسسات المالية الدولية والإقليمية في اجترار لسياسة 2023 والتي بلغت بين سنتي 2023 وجويلية 2024، 3.2 مليار دولار بقروض من مختلف الدول والمؤسسات المالية الدولية.
فحسب ما نُشر في الرائد الرسمي خلال السنتين الفارطتين، حصلت تونس على قروض من ثلاث قارات. فمن أوروبا، اقترضت تونس ما يناهز 810.5 مليون أورو خلال السنتين الأخيريتين، بينما تحصلت من المؤسسات المالية الدولية والافريقية والعربية والآسياوية على 1.620 مليار دولار خلال تلك الفترة.
من جهة ثانية، ولضمان ديمومة ”الإنجاز التاريخي“ بسداد أقساط القروض، سيستمر الضغط على نسق استيراد المواد الأساسية كالأدوية والقهوة والسكر والحبوب وخلق طوابير أمام المخابز. السبب الرئيسي، سيكون عدم قدرة الحكومة على بلوغ مستوى الاقتراض الذي وضعته في ميزانية السنة الفارطة (المقدر بـ11.36 مليار دينار) إضافة إلى تواصل تعطل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يعرقل إمكانية الحصول على أسواق دين خارجية في إطار التمويل الثنائي ومتعدد الأطراف مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وغيرهما.
صادق البرلمان التونسي، مساء 6 فيفري 2024، على قانون الفصل الواحد المتعلق بالاقتراض الاستثنائي من البنك المركزي. قرض قيمته 7 مليار دينار يسدد على 10 سنوات دون فوائد. رغم التطمينات الحكومية فإن العملية تخفي مخاطر اقتصادية قد تنتج مزيدا من الاحتقان المجتمعي.
من جهة أخرى، يذهب بعض الخبراء والمحللين الاقتصاديين إلى أنّ قانون المالية التعديلي من خلال التجارب الماضية لم يكن سوى خطوة ترحيلية للمشاكل المالية والاقتصاديّة. قد يبدو هذا الطرح معقولا إلى حدّ ما، لكنّ الوضع المالي والاقتصادي المأزوم وغياب أي طرح بديل لدى منظومة ما بعد 25 جويلية 2021، يجعل من التخلّي عن تعديل قانون المالية لسنة 2024، خطوة ارتجالية وسياسية بامتياز خالية من أي نتائج ملموسة. بل وتتناقض مع تصريح سابق لوزيرة المالية خلال مناقشة قانون المالية الحالي في مجلس نواب الشعب حين اعتبرت أنّ اللجوء إلى قانون مالية تكميلي قد يكون ملحّا إذا ما اختلت التوازنات والفرضيات المطروحة حاليا. تصريح لن يكون بأي حال من الأحوال ذو أهمية أمام رغبة القائد الأوحد واختياراته وإن جانبت الحقيقة العلمية.
iThere are no comments
Add yours