تدور رحى الحياة في جزيرة قرقنة حول البحر، يمكن أن نقول بكل ثقة أن هذا الأرخبيل هو هبة البحر الأبيض المتوسط، ترتبط به كل جوانب عيش السكان ارتباطا وثيقا، فأي تغير يطرأ على البيئة البحرية يؤثر مباشرة على حياة قرابة 15 ألف ساكن للجزيرة.

يتكون أرخبيل قرقنة من مجموعة من الجُزُر تقع على سواحل تونس الشرقية، تحديدا في الجزء الشمالي الشرقي لخليج قابس، تبعد مسافة 32 كلم عن سواحل مدينة صفاقس.

 أرخبيل يعتبر نشاط الصيد البحري تاريخيا، شريان الحياة الرئيسي فيه. تصل مساحته إلى 150 كلم مربعا، يمتد على مسافة 40 كلم ولا يتجاوز عرضه 5 كلم.

نرافقكم في هذا المقال إلى رحلة في قلب التأثيرات الناجمة عن التغيرات المناخية ونتائجها المباشرة على نبض الحياة في الجزيرة.

الصيد البحري شريان حياة رئيسي مهدد بالزّوال

رغم عراقة نشاط الصيد البحري في قرقنة وفرادة طرق الصيد التقليدية التي يختص بها (القراقنة) بالإضافة إلى خصوصية ملكية البحر، وهي نظام ملكية لا مثيل له في كل أرجاء العالم وبحاره، فإن الجزيرة تعاني في السنوات الأخيرة من تراجع ثروتها السمكية وغزو أسماك دخيلة على البيئة البحرية المحلية مثل سمكة الأرنب … وتأثير التغيرات المناخية، إضافة إلى نقص المياه العذبة وارتفاع منسوب الملوحة ما أثر على خصوبة الأراضي الزراعية وعلى كل أوجه الحياة بشكل عام بالجزيرة، اندلعت على اثرها احتجاجات اجتماعية ترافقها غالبا شعارات ومطالب بيئية خاصة سنوات 2016 و2022.

 ينقسم الصيد في الجزيرة إلى نمطين، الأول يضم عددا من التقنيات التقليدية المتوارثة بين أجيال من البحارة القراقنة، منها الصيد بالشرافي أو بالشرفية، ويمكن تفسير هذه العملية كالآتي: توضع مجموعة من الفخاخ المصنوعة بترتيب دقيق من سعف (جريدة) النخيل وأحيانا الشباك في المياه المنخفضة أو الضحلة من أجل صناعة مسارات تنتهي بأن تعلق الأسماك داخل هذه الفخاخ.

الشرافي المنتصبة ببحر قرقنة صنفها اليونسكو في قائمة التراث العالمي اللامادي – جمعية القراطن

يترك داخل الشرفية مجال فسيح نسبيا، يسمح للأسماك العالقة البقاء داخلها والسباحة، لكنها طبعا لن تستطيع الخروج والهرب منها.

هذه الطريقة التقليدية المتوارثة والمحترمة للخصوصيات البيئية، تقنية ”الصيد بالشَرفية“ صنفت من قبل اليونسكو سنة 2020 في قائمة التراث العالمي اللامادي.

 أما الطريقة الثانية للصيد في الجزيرة هي الصيد الحديث باعتماد مراكب تتوفر على تجهيزات عصرية وشباك. عدد من أصحاب هذه المراكب يمارسون الصيد العشوائي والجائر.

 معاناة البحارة ومن يعتمد أنماط الصيد التقليدي اجمالا كالمراكب الشراعية، بدأت مع ظهور انعكاسات التغيرات المناخية والصيد الجائر عن طريق شباك الجر (الكركارة)، وهي طريقة غير قانونية تدمر الحياة البحرية، حيث إنها تقوم بعملية جرف كامل للمكان الذي تمر به الشباك، ضاربة عرض الحائط قوانين ومعايير الصيد الجاري بها العمل.

إضافة إلى مخاطر الصيد العشوائي والتغيرات المناخية فإن بعض مالكي الشرافي يستعملون السعف المصنوع من مادة البلاستيك المستورد من الصين.

يستعمل البحارة التقليديون أيضا طرق صيد أخرى متوارثة مثل الصيد بالشراك والصيد بالجرار الفخارية أو ما يُعرف بـ اللهجة المحلية ”القارور“ لصيد الأخطبوط.

وقد عبّر أحمد السويسي لنواة، وهو ناشط مدني من سكان جزيرة قرقنة ورئيس جمعية القراطن للتنمية المستدامة والثقافة والترفيه، عن أهمية البحر بالنسبة للسكان مؤكدا:

هنا نملك البحر، نتوارث الشرافي والنشاط الرئيسي في الجزيرة هو الصيد أو أنشطة مرتبطة به، حياة القرقني مرتبطة بالبحر ارتباطا وثيقا ولن تجد قرقني لا يحب البحر ولا يحمل ذكريات مميزة مع الشرافي أو أي نشاط بحري أخر.

البيئة البحرية في قرقنة تخضع إلى عدة ضغوطات ومخاطر كبيرة نتيجة التغيرات المناخية، إضافة إلى عدم احترام عدد من البحارة التراتيب القانونية الجاري بها العمل في مجال الصيد البحري، خاصة من مستعملي تقنية الصيد بشباك الجر في المياه الضحلة. واقع أثر بشكل كبير على الثروة السمكية وبالتالي على موارد رزق عدد كبير من البحارة واجمالا أثّر على النسيج المجتمعي بالجزيرة.

يؤكد السويسي على فداحة الوضع البيئي الذي وصلت إليه الجزيرة وتأثيره المباشر على البحارة، حيث أصبح التغير المناخي حقيقة ملموسة أدت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى انقراض أصناف من الكائنات الحية البحرية، وندرة أنواع أخرى خاصة ”القرنيط“ :  ”مردود نشاط الصيد البحري بدأ يتراجع بشكل متصاعد تقريبا منذ سنة 2016 وصولا إلى اليوم ما كبّد البحارة خسائر فادحة.“

مجسم على هيئة انسان للشرفية بسعف النخيل تحذيرا من استعمال البلاستيك الدخيل عن تقاليد قرقنة – جمعية القراطن

 يوضح محدثنا أن وضعية الشرفية خصوصية جدا بعد فتح مجال وضع (زراعة) الشرافي دون تدخل من الدولة، لأنه كان يتم تنظيمها عبر بتات عمومية قبل 2011، وتكون مواقع وضعها محددة مسبقا بطريقة علمية، ”إن انسحاب الدولة من دورها التنظيمي جعل أعداد الشرافي تتزايد ومردودها يتقلص، دون التغافل عن توجه بعض البحارة إلى تعويض السعف الطبيعي بالبلاستيك في صناعة الشرافي ضغطا على التكاليف، لتتراجع أعداد القرنيط ويختفي الاسفنج بالكامل تقريبا من الجزيرة.“

انعكاسات كارثية على الحياة بقرقنة

يتميز أرخبيل قرقنة بمجموعة جزر منبسطة، وتضاريس مسطحة قريبة من مستوى البحر. تنتشر أشجار النخيل على أغلب الجزيرة، أو ما يمكن تسميته بالواحات البحرية أو الغابة بلهجة القراقنة، فهي تمثل موردا بيئيا واقتصاديا أساسيا للجزيرة، بحكم أنها توفر مادة السعف من أجل تركيز الشرفية (مصيدة الأسماك).

تتميز الجزيرة ببيئة شبه قاحلة قليلة التساقطات، فالسباخ تمتد على ثلث مساحة الأرخبيل ما أدى إلى ارتفاع نسب الملوحة ونقص المياه العذبة. واقع أثر على التنوع النباتي، حيث تتميز الجزيرة بالغطاء الواحي البحري المتنوع من مشاتِل وأصناف النخيل.

حسب دراسة[1] وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، تعدّ جزر أرخبيل قرقنة موقعا مهما تقضي فيه الطيور البحرية الساحلية والطيور المائية الأخرى فصل الشتاء، إضافة إلى كونها محطة مهمة على طريق هجرة أصناف من الطيور الصغيرة.

الحياة البحرية على الجزيرة تتميز بوجود أنواع كثيرة من النباتات البحرية مثل نبات ”البوسيدونيا“ واصناف من الأسماك والأخطبوط وسابقا الإسفنج قبل أن ينقرض بحكم عدة عوامل ربما أهمها التغيرات المناخية.

هذه البيئة الفريدة كانت عرضة للتأثر المباشر بانعكاسات التغيرات المناخية، مثل تآكل وانجراف السواحل بفعل ارتفاع سطح البحر كنتيجة مباشرة للاحتباس الحراري، اضافة إلى تطرف المناخ وازدياد حدة الأمواج مقابل ضعف الترسبات وقلتها.

مسكن حاصرته المياه بجزيرة قرقنة نتيجة للتغيرات المناخية – صور محمد كريت – نواة

 النشاط غير القانوني في استخراج الرمال من الشواطئ القليلة بجزر الأرخبيل، مثل هو الآخر سببا مباشرا في تراجع مساحة الشواطئ.

وما زاد الإشكال تعقيدا هو تشييد الجهات الرسمية بناءات وحواجز حماية غير مناسبة، ساهمت في مزيد تآكل الشريط الساحلي عبر إعادة توزيع الرواسب والأمواج بطريقة غير مدروسة أدت إلى تآكل سريع في المناطق غير المحمية. هذا ما أقرته وكالة حماية الشريط الساحلي في تقريرها[2] حول جزيرة قرقنة بالتعاون مع جامعة جنيف والشراكة العالمية للمياه بالمتوسط ( GWP-Med) والمخطط الأزرق، تحت يافطة الأمم المتحدة للبيئة.

تقرير وصف بوضوح ما آلت إليه الأوضاع:

قد زاد بناء إنشاءات حماية السواحل غير المناسبة في تفاقم الوضع، فهذه الإنشاءات تستعمل في بعض الأحيان مخلفات البناء التي من شأنها أن تؤدي على المدى القصير إلى اضطراب الجرف الشاطئي وإعادة توزيع الرواسب على طول الساحل. مع ما ينجر عنه من تسارع في تآكل المناطق غير المحمية. كما تؤدي هذه الإنشاءات على المدى الطويل إلى تعزيز القدرة التآكلية.

كل هذا دون أن ننسى كوارث التلوث الذي تسببه الشركات البترولية واهتراء قنوات الربط بشبكات محطة ديوان التطهير، إضافة إلى استنزاف المائدة المائية الجوفية بالحفر العشوائي للآبار وعدم صيانتها ومخلفات العبث البشري والنفايات الصلبة صيفا في ذروة الموسم السياحي. كلها مشاكل تكررت على مسامعنا خلال لقاءاتنا بسكان جزيرة قرقنة.


قرقنة: بتروفاك واستقالة الدولة
13 أفريل 2016

أخذ التحرك الإحتجاجي في قرقنة منعرجا أحال الأزمة الإجتماعية إلى طريق مسدود. فالحضور الأمني المكثف، الذي وصفه متساكنو قرقنة ب”الإحتلال“، اضاف إحتقاناً زاد الوضع تعقدا. كاميرا نواة تحولت على عين المكان للتمحيص في اشكاليات ظاهرها ظرفي و باطنها يختزل تراكمات تعكس ضعف الدولة في إدارة الأزمات و قصورها على الإلتزام بتعهداتها.


يعود أحمد السويسي رئيس جمعية القراطن ليؤكد على أن التغيرات المناخية أثرت بشكل ملموس على الجزيرة ”التغيرات المناخية، في الثلاثة سنوات الأخيرة أصبحت واضحة بالعين المجردة عند تغير الطقس في حالات الرياح وهطول الأمطار أصبحنا نلاحظ ارتفاع منسوب المياه على سطح البحر مقارنة باليابسة، وهذا الماء سوف يساهم في تزايد تسبُّخ الأراضي ما أثر على الأنشطة الفلاحية العائلية، وهو ما شهدته شخصيا في منطقة القراطن.“

رغم كل هذه المشاكل البيئية المعقدة، والتأثيرات الخطيرة والملموسة للتغيرات المناخية على الجزيرة، إلا أن منابع الأمل ونقاط الضوء متنوعة هي الأخرى، يحمل لواءها بنات وأبناء الجزيرة بمبادرات بيئية مواطنية، تحسيسية تثقيفية، مفعمة بفخر الانتماء إلى جزيرة بقيت عصية عن الانحناء والاستسلام للأمر الواقع، قادرة على المحافظة على خيرات قرقنة وطابعها المميز والوقوف بصرامة في وجه مخططات نهب الخيرات العابثة.


[1] وزارة البيئة، وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، التقرير السنوي ,2022

[2] تقرير إدماج التغير المناخي وتقلباته في عملية الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية للمساهمة في تحديث خطط الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في أرخبيل قرقنة.