بقلم الطاهر الأسود

باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

laswadtaher@yahoo.com

يهتم هذا المقال بمحاولة التعليق على التغطية الإعلامية و مختلف ردود الأفعال و المستجدات في علاقة بالأعمال الإرهابية (أو محاولة إنطلاقها) في تونس. و من الضروري أن أؤكد هنا على الوضعية العامة التي تعرضت اليها في مقال سابق (“حول الانطلاقة المحتملة لأعمال إرهابية في تونس: استمرار التعامل الساذج في أوساط الطبقة السياسية التونسية مع تيار الفتنة الأهلية ” 29 ديسمبر 2006) و هو ما أعيد تعريفه هنا بأنه استمرار لـ”حالة إنكار” (state of denial) و عدم قدرة على تصديق مستجدات الساحة و هي حالة تشمل أطراف السلطة و المعارضة على السواء.

التغطية الإعلامية: حول القصور الإخباري

من الواضح بداية أنه كان هناك تعتيما رسميا بالغا عما جرى. و قد تم تبرير ذلك بشكل غير رسمي (أنظر أسفله حول “الناطقين غير الرسميين”) بأن التعتيم يهدف للحفاظ على سرية التحقيق و من ثمة ضمان سلامة الفاعلين الأمنيين و نجاح عملية الملاحقة. غير أن هذه الدواعي المفهومة لا يمكن أن تبرر التعتيم الحاصل. حيث كان من الممكن بداية عدم ممارسة التضليل من خلال نسب ما يجري لـ”عصابة مخدرات” و هو ما كشف عن نوايا جدية مبكرة للتعتيم من قبل بعض (على الأقل) الدوائر الرسمية في استمرار لسياسة عامة إعلامية تتجنب الحد الأدنى من الإفصاح و هو ما يفسر حدة ردود الأفعال اللاحقة على تعاملها الاعلامي مع ما جرى. كما أن هذا الأسلوب ساهم كما هو متوقع و كما هي العادة في تغذية الكثيرمن الاشاعات في الشارع التونسي و من ثمة الإضرار بالظروف المحيطة بالحل الأمني. من جهة أخرى كان من الممكن الافصاح عن معطيات لا تضر بسير الملاحقة الأمنية مثل الصبغة السياسية للمجموعة الارهابية و التي لم يعد ممكنا التغافل عنها. و بالاضافة الى ذلك فإنه و كما يجري في أي بلد آخر يتعرض لمثل هذه الأحداث فإن الكشف عن بعض العناصر “المحروقة أمنيا” و دعوة المواطنين للمساهمة في القبض عليها يساعد على سير الملاحقة الامنية و لا يضر بها. غير أن غياب كل ذلك يعكس في الحقيقة حجم الشكوك بين الجهات الأمنية و بقية المواطنين و هو إطار غير مناسب لمواجهة هكذا تحديات تمس السلامة الأهلية للجميع. و هذا مشكل لا يمكن معالجته إلا بتحويرات على مستوى السياسة العامة.

غير أن التعتيم الرسمي الإخباري ترافق مع قصور إخباري عام تجسم في أسلوب التغطية الصحفية لما جرى. و من الضروري الاشارة هنا أن هناك تقريرين صحفيين فقط (حتى الآن أي 9 جانفي) قدما الإضافة الإخبارية. التقرير الأول نُشر في صحيفة ليبراسيون (5 جانفي 2007) أشار لأول مرة لتفاصيل عن أعضاء المجموعة بما في ذلك “قائدها” المفترض (“لسعد ساسي”) و “عضده الأيمن” (“الباشا”). تقرير الليبراسيون مبني على الأرجح على مصادر أمنية أو رسمية مطلعة عبر مصادر أخرى لم يسمها (ديبلوماسية فرنسية؟). بقي أنه ليس مبني على بحث صحفي ميداني في مواقع الاشتباكات. التقرير الضحفي الوحيد الذي قام بذلك هو تقرير السيد رشيد خشانة (نشر بالكامل في موقع “الحزب الديمقراطي التقدمي” و جزئيا في عدد صحيفة “الحياة” 6 جانفي 2007). و قدم فيه رواية متجانسة و من شهود عيان مباشرة ليس فقط لما جرى في سليمان بل أيضا لما جرى منذ 23 ديسمبر 2006. التقارير التي قام بها بعض صحفيي الصباح أو الشروق أو غيرها من الصحف المحلية بما في ذلك الذين ذهبوا لموقع الحدث لم تقدم أية إضافة إخبارية باستثناء بعض الصور (لم تكن هذه التقارير إخبارية بقدر ما كانت تطمينية و تحمل رسائل سياسوية بل كانت تضليلية في البداية مثلما حدث مع الشروق عندما أشارت و قبل “استكمال التحقيقات” الى أن الموضوع على علاقة بـ”عصابة مخدرات”). تبقى الاشارة أيضا الى مقال للسيد لطفي الحيدوري لا أعتقد أنه تنطبق عليه صفة التقرير الإخباري (أتعرض اليه بتفصيل أكبر أسفله) و فقرة في التعليقات السياسية (“أضواء على الأنباء”) للسيدة “أم زياد” في نشرية “كلمة” و قد أشارا كلاهما الى معطيات غير معروفة المصدر رغم أهميتها المحتملة و هو ما لا يدخل في الواقع ضمن نوع التقرير الإخباري. غير أنه عدى ذلك فإن بقية الصحفيين المستقلين المحليين (مراسلي “الجزيرة” و “سويس انفو” و “اسلام أون لاين”… الخ) لم يقدموا في الواقع الإضافة الإخبارية المرتقبة حيث كانت تقاريرهم مبنية على تقارير إخبارية سابقة و على استجوابات لبعض الأطراف المعارضة التي عبرت عن رؤيتها السياسية و لم تقدم أية معطيات جديدة. و هكذا عموما كان هناك قصورا إخباريا عاما لم يكن ناتجا فقط على رغبة رسمية في التعتيم (شارك فيها صحفيو الجرائد المقربة من السلطة) بل أيضا عن قصور في “النفس الاخباري” حتى للصحفيين المستقلين و الذين انجذبو أكثر نحو التعليق السياسي غير المباشر على حساب صيد المعلومة و حتى على حساب ردود فعل المواطنين العاديين و هي حسب رأيي أهم من حيث القيمة الإخبارية بكثير من تعليقات بعض الوجوه السياسية و التي نعرف موقفها مما يجري من مصادر أخرى.

التغطية الإعلامية (يتبع): في معنى “التقرير الإخباري”

أفرد هنا فقرة خاصة بالمقال الذي نُشر في مجلة “كلمة” الالكترونية (بتاريخ 8 جانفي) بقلم السيد لطفي الحيدوري. و يرجع التخصيص على هذا المقال لأنه يجسد حسب رأيي جانبا من أزمة العمل الصحفي المستقل في تونس. حيث أن الظروف الخاصة التي يعمل ضمنها الصحفيون المستقلون تؤثر ليس فقط على طبيعة المواضيع بل أيضا في منهج التقرير الصحفي و معناه. و في حالة المقال المعني فإن غياب المصادر يجعل من الصعب التمييز بين المعلومة و الإشاعة بالرغم من المعطيات المثيرة للإنتباه التي تعرض لها. و لكن ما يعمق هذا الغموض هو الخلط بين التقرير الإخباري و مقال الرأي فما يمكن أن يبدو تأويلا و موقفا سياسيا يؤثر بالتحديد في طريقة عرض المعلومة. و قد أثارتني بشكل خاص جمل من النوع التالي: “لا يجب استباق الأحداث والتسرّع في إطلاق الأحكام على هذه المجموعة قد تضرّ بها حقوقيّا وإنسانيا كموقف إدانة “لجوء بعض التونسيين إلى العنف كوسيلة للتغيير السياسي”. أو الحديث عن “مؤشر خطير يستوجب من الجميع التصدي له بحزم”، مثلما ورد في أحد البيانات الحقوقية الأخيرة. وهو ما قد يوظّف رسميا لانتهاك حقوقهم.” و هنا لا يمكن لي عدم ملاحظة الأسلوب المشترك في “العمل الإخباري” بين “تقرير” يكتبه للشروق السيد سفيان الأسود و تقرير السيد الحيدوري حيث هناك حرص على خدمة أجندة سياسية تظهر للسطح لتقدم الوعظ و التوجيه، و هو أسلوب مقال الرأي، عوض الاقتصار على نقل المعلومة باحتراز كافي و بالتأكيد على المصادر.

تصريحات الرئيس لبوشيحة

حتى الآن لم يعبر رئيس الدولة (او حتى بقية الوجوه الأساسية في الحكومة) على أي ملاحظات مباشرة و علنية حول الحدث. و تم اختيار صيغة غريبة نوعا ما لتبليغ الرسالة الرسمية على المستوى السياسي و هي تصريحات الرئيس للسيد محمد بوشيحة أو في الحقيقة تصريحات السيد بوشيحة لما صرح به اليه الرئيس إثر لقاء جمع بينهما قبل نهاية الأسبوع. و تم اللجوء الى صيغة أخرى لإبراز اللقاء إعلاميا من خلال حوار صحيفة “الشروق” مع بوشيحة (عدد 7 جانفي 2007) و الذي كان المقصود منه إعطاء صبغة خاصة للقاء الرئيس به. اللافت أن هذه الصيغة ستكون مفهومة لو تمت مع رئيس تحرير إحدى الصحف و ليس مع رئيس أحد الأحزاب المقربة من السلطة. و إذا تجاوزنا أسئلة أخرى من نوع لما تم إختيار السيد بوشيحة تحديدا (“أكبر حزب معارض” برلمانيا؟) فإن تصريحات رئيس الدولة (غير المباشرة) تشير الى أسباب سياسية و أهمية المعالجات السياسية للحدث و فيه تحميل واضح للأحزاب المساندة لها في الفشل في جذب الشباب و التعبير عن همومه (و هو ما ينسجم مع خطاب السلطة المتذمر من هذه “المعارضة” المقربة منها و الذي تزايد خلال الأشهر الأخيرة). يبقى أن هذه التصريحات (و التي لا يمكن أن لا نشعر فيها بحجم التهميش لشخوص هذه المعارضة المجبرة ليس فقط على الاستماع الى مثل هذه التصريحات بل أيضا على نقلها بنفسها للمنابر الاعلامية) لا تعني بالضرورة وعيا رسميا بفشل الصيغة الراهنة للساحة السياسية كما تحددها السلطة و القائمة على وجود “معارضة” رسمية لا تملك المعارضة و هو في واقع الأمر أحد أهم أسباب “عزوف” الشباب التونسي عنها. يبقى من المؤمل أن هناك إجماعا في هذه الحالة على الدور الرئيسي للظروف السياسية الداخلية فيما جرى و يجري.

الناطقين غير الرسميين

مقابل التراجع اللافت (و لكن المعتاد الآن) للمنابر الإخبارية الرسمية على المستوى السياسي استمر بروز (مفارقة) الناطقين غير الرسميين و لكن المكلفين في الوقت نفسه بالتعبير عن الموقف الرسمي. و تأتي تصريحات شخوص مثل السيدان برهان بسيس و بوبكر الصغير ضمن هذا الإطار. و قد علق الكثيرون على هذا الأسلوب غير المسبوق في المعالجة الإعلامية. يبقى من الممكن القيام ببعض الملاحظات خاصة في علاقة بما يكتبه السيد بسيس. يتذمر الأخير بشكل متقطع من “جمود” بعض وسائل الاعلام الرسمية (يلمح للتلفزة و الاذاعة الرسميتين عادة) غير أن المشكل الأهم، كما يجب أن يعرف، هو تراجع المؤسساتية عن الاعلام الرسمي خاصة على مستوى الإخبار السياسي. و الحقيقة فإن وجود “مؤسسة” الناطق غير الرسمي (كما يشغلها هو نفسه) من الدوال الأساسية على المشكل القائم. و من اللافت أن يهاجم السيد بسيس “وكالة أنباء قالوا” بوصفها مؤسسة لا تنضبط لقواعد الشفافية الاعلامية و العمل الإخباري في حين أن الأخيرة تتغذى موضوعيا و تحديدا من وجود الوكالات غير الرسمية المشابهة مثل “وكالة أنباء بسيس” أو غيرها. في النهاية سيكون من الحكمة النصح بأنه “لا بأس من الصمت قليلا” و لكن فقط عندما تؤدي المؤسسة الإعلامية الرسمية “قليلا من الإفصاح” و ذلك الذي يؤدي فعلا واجب تحصين الجبهة الداخلية من الاشاعات غير الضرورية. إن الطلب من التونسيين القيام بـ”قليل من الصمت” يقبل و يجير في الواقع بصمت الموقف الرسمي غير المبرر و لا يرى أن دعوته (للصمت في الواقع) لا تتناسب حتى مع الفوائد الأمنية في “قليل من الإفصاح”. و يبقى من المثير أن تتركز مهام “الناطق” غير الرسمي تحديدا في الدعوة للتوقف عن أو حتى “التقليل” من النطق.

بيانات المعارضة: استمرار رفض تقييم “الصحوة الدينية”

قامت بعض أحزاب المعارضة و المنظمات الخارجة عن ضوابط السلطة (معترف بها و غير معترف بها) بإصدار بيانات في علاقة بالحدث. و كما هو متوقع جاءت متشابهة و تركزت حول “نبذ العنف مهما كانت أسبابه” و تحذير السلطة من “مغبة استغلال العنف لتبرير القمع و مزيد التضييق على الحريات”. و قد كنت تعرضت في مقال سابق للـ”تعامل الساذج للطبقة السياسية التونسية مع تيار الفتنة الأهلية”. و أريد هنا التخصيص على أن الأطراف التي أصدرت البيانات أكدت هذه الخاصيةالأساسية الجامعة في التعامل مع التيار المعني. حيث و بداعي انتظار معطيات مؤكدة تم التمسك بتجاهل إمكانية وجود هذا التيار الجدي في الساحة بالرغم أن الشارع السياسي التونسي كان يعرف و بعد يومين على الأكثر من حادثة 23 ديسمبر بأن هناك معطيات جدية تشير لتورط مجموعة سلفية جهادية. إن القضية الأهم التي تم مرة أخرى التغاضي عنها هي: أولا، أنه ضمن مسار “الصحوة الدينية” المتعاظمة في السنوات الأخيرة كانت هناك مؤشرات لا يمكن أن تغيب عن أي طرف سياسي مطلع في الحد الأدنى على الوضع في البلاد حول وجود تيار سلفي قوي ضمن هذا المسار العام (الى جانب تيارات أخرى بما في ذلك المجموعة الشيعية على صغرها و التي يتكلم باسم أهمها السيد عماد الحمروني و الذي جمعني معه جوار مؤخرا). إن الملاحظ الجدي كان يسمع عن و يرى ليس وجود هذا التيار فحسب بشكل مرئي في أحياء شعبية أساسية حول العاصمة (“حي التضامن” مثلا) بل و في غيرها و خاصة في بعض الأوساط الشبابية و التي لم تكن تتميز بأي اهتمامات سياسية. كما كان هناك تداول لمعطيات مؤكدة عن اشتباكات كلامية (فقهية) بين عناصر هذا التيار و عناصر قريبة من حركة النهضة ليس في السجون فحسب بل أيضا في بعض المساجد و هو ما انعكس بشكل خافت في بعض الرسائل و الردود المتباينة على شبكة الانترنت و خاصة على موقع “تونسنيوز”. و كانت هناك معطيات مؤكدة خلال السنوات الأخيرة من المفروض أنها متاحة لأي مطلع على الساحة عن اشتباكات كلامية (فقهية) جرت كذلك بين هذا التيار و تيارات أخرى في مسار “الصحوة الدينية” و تحديدا من جماعات “الدعوة و التبليغ” و “الصوفية” و حتى “الشيعة”. و لم يكن ذلك مجرد حلقات جدال فقهي معزولة بل اخترقت جماعات شبابية كثيرة بما في ذلك في بعض الأحياء الشعبية و الأوساط الطلابية. و باختصار فقد أصبح السجال السياسي فيها إذا حصل يتم بالأساس على أساس ديني راديكالي في معظمه. و هكذا و بالرغم أن غياب رموز للسلفية الجهادية (كما حدث في المغرب في السنوات القليلة السابقة في تجربة مشابهة جزئيا لما يحدث في تونس) لا يعني عدم وجود بنية تنظيمية ما و لو في الحدود الدنيا و هو ما ينعكس في الخطاب الموحد و السجالي للمتبنين لهذا الخطاب. إن مجمل هذه الصورة من المتوقع ألا تغيب عن أي طرف سياسي يهتم بجدية بمتابعة دقيقة للساحة التي يعمل فيها إلا إذا اختار عدم التعبير عن ذلك أو اختار ببساطة عدم الاهتمام بذلك كمعطى له تأثيرات سياسية. و أعتقد أن هناك أطراف من المعارضة تعاملت بأحد الأسلوبين و خاصة الأسلوب الثاني.

ثانيا، و هنا نأتي لمسألة التطوع للقتال في العراق و انعكاسه على تشكل تيار سلفي جهادي يثير الفتنة الأهلية. حيث لا يمكن لأي متتبع سياسي أن يفصل الخطاب الشمولي و في كل تفاصيل الحياة لمنتسبي السلفية الجهادية و قرار التطوع للقتال في العراق. و هنا يجب التذكير بمجموعة من النقاط المتوقع أنها معروفة لكل الأطراف. بداية الغالبية العظمى من التونسين المتطوعين (و الذين يمثلون خمس في المائة من “المقاتلين الأجانب” في العراق) و حسب بيانات الذين قتلوا أثناء عمليات حربية هم ينتمون تحديدا لتنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” أو كما كان يسمى قبل بيعة الزرقاوي لابن لادن أي “جماعة التوحيد و الجهاد”. إن ذلك ليس مجرد صدفة حيث أن قرار الذهاب للعراق يأتي في معظمه في إطار شبكات التنظيمات القاعدية و خاصة في الأوساط التي تتبنى الفكر السلفي. و هنا ليس كل من يتبنى الرؤى السلفية يتبنى ضرورة السلفية الجهادية (أو مسك السلاح كجزء أساسي لممارسة “الدعوة”) و لكن كل السلفيين الجهاديين هم قبل كل شيئ سلفيون. و هذا يعني تحديدا أن الذهاب للعراق لا يتم في هذا الإطار من أجل المساعدة على تحرير العراق و استعادة دولته الوطنية الشاملة لكل طوائفه بل لأجل إقامة “دولة العراق الاسلامية” و التي تعني تحديدا دولة “أهل السنة و الجماعة” بمعانيها الطائفية (هذا المشروع القديم في أدبيات القاعدة و لكن المعلن عنه مؤخرا فقط). و كما كتبت قبلا أكثر من مرة فإن هناك مشروعا حقيقيا للتحرير و المقاومة في العراق و هو بصدد التقدم و ضرب الاحتلال و لكنه يفرق بين محاربة الشيعي بحسب دوره في مشروع الاحتلال و محاربته لأنه “رافضي” كما فعل و يفعل القاعديون. و هنا نأتي للنقطة الأساسية: إن الذهاب للعراق بالنسبة للسلفي الجهادي لا ينفصل تحديدا عن مشروع إثارة الفتنة الأهلية في أي مجتمع “جاهلي” يحكمه “الطاغوت”. و هو ما ينطبق بالنسبة لهذه الرؤية ليس على السلطة السياسية في تونس فحسب بل و خاصة على النظام الدستوري المنظم للدولة ذاتها. إنه من الغريب حقا عدم قدرة الكثير من الأطراف السياسية الربط بين معني ذهاب منتسبي هذا التيار للعراق و الانعكاس المباشر لذلك على رؤية هؤلاء لطبيعة الوضع في تونس. و بمعنى آخر الحالة السابقة في السنوات الأخيرة للذهاب الى العراق لم تكن إلا المقدمة الضرورية لمشروع الفتنة الأهلية و “الجهاد المحلي”. و هكذا لم يكن هناك فرق بالنسبة لمنتسبي السلفية الجهادية بين الذهاب الى “الفلوجة” و الذهاب الى “جبال تزي وزو” حيث معاقل “الجماعة السلفية للدعوة و القتال” و الذهاب لـ”جبل الرصاص”. هنا من الضروري أن أؤكد مجددا على الفرق بين موجات التونسيين الذي شاركوا عبر سنين في المعارك القومية و الاسلامية الكبرى في فلسطين و لبنان و حتى العراق (خاصة مع بداية الحرب) و بين ذهاب السلفيين الجهاديين الى العراق. و لكن للأسف لم تستطع عديد الأطراف للدواعي التي أشرت اليها أعلاه التمييز بين الموجتين.

انغماس متزايد في السذاجة (أو المناورة؟)

أحيانا يصبح الرصيد النضالي الحقوقي لبعض الوجوه عائقا أمام تقييم جدي لما يقولونه و يقومون به. و لا يمكن التشكيك في صدق أشخاص مثل السيد المنصف المرزوقي على سبيل المثال و لكن ذلك لا يعني أن ما يقولونه لا يلامس السذاجة بل و يستغرق فيها. لفتت إنتباهي ثلاثة أمثلة في هذا السياق و الذي لا يتصف بالسذاجة المتوقعة فحسب بل يتجاوزها للانغماس في سذاجة مفاجئة و صادمة أحيانا تشيرالى التشبث المعاند بتصور قديم لما يجري و من ثمة المضي أكثر في “حالة الإنكار”. أول النماذج بدون منازع هي “حكومة” السيد المرزوقي “المؤقتة”. و لا أعتقد أنه من الضروري هنا التذكير بأبسط الدواعي التي يمكن أن تدفع أيا كان للقيام بدعوة مماثلة عدى الترف البلاغي و عدم القدرة على التفكير. حيث ليست البلاد في وضع فوضى سياسية شامل تنقسم فيه بين فرقاء يملكون نصيبا مؤثرا في الشارع. و لا أعتقد أن السيد المرزوقي يعتقد حتى (أرجو على الأقل ذلك) أنه يملك قسطا جماهيريا في حالة عصيان و من ثمة يفكر في إنقاذ البلاد و حل الأزمة القائمة (من مظاهرات و اضرابات يومية) من خلال الدعوة لحكومة مؤقتة تنتقل بنا نحو انتخابات نزيهة (؟!). حقا لا أستطيع التفكير في أي تعليق مناسب هنا إلا أن الساحة السياسية المعارضة في حالة جدب حقيقية خاصة عندما يكون السيد المرزوقي أحد “وجوهها السياسية الرئيسية”. النموذج الثاني هي تصريحات للسيد عبد الرؤوف العيادي (في تقرير للسيد محمد الحمروني لصالح “إسلام أون لاين”) و التي أسوقها كما هي: ” ويرى العيادي أن مصطلح “السلفية الجهادية” هو “مفهوم غربي غير محايد معرفيا والقصد منه تشويه الجهاد وفي نفس الوقت النيل من فكرة الانتماء إلى السلف بربط الكلمتين إلى بعضهما وجعلهما تعنيان الإرهاب، فمن يقول اليوم السلفية الجهادية يقول إرهابا في حين أن الانتماء إلى السلف ليس جريمة بل إن أغلب علماء الأمة من أحمد بن حنبل إلى ابن تيمية وصولا إلى زعماء الإصلاح مثل محمد عبده وعبد العزيز الثعالبي هم أبناء هذا التيار”. ” و هنا المشكل لا يكمن فقط في أن ما يقوله السيد العيادي خاطئ بكل بساطة حيث أن “السلفية الجهادية” ليست مصطلحا غربيا مسقطا كما يشير و يكفي التذكير بالجماعة المغربية المشاركة في أحداث 2002 في الدار البيضاء و التي تسمي نفسها بـ”السلفية الجهادية” (و لا يسميها أحد بذلك بشهادة شيوخها) كما هو معروف لكل الدارسين للظاهرة (هناك الكثير من المقالات و الدراسات في هذا الشأن و لكن يمكن الاكتفاء بالمقالات التفصيلية للسيد منتصر حمادة في هذا الموضوع خاصة في صحيفة القدس العربي). المشكل، إذا، لا يقتصر على خطأ مماثل و لكن يهم تحديدا الرغبة في و الاصرار على تصور تيار الفتنة الأهلية كطرف ليس إرهابي و الخلط بين مدارس مختلفة يعمل القاعديون عمدا الخلط بينها مثل مدارس “السلف الصالح” (بمعناها بالغ العمومية) و “السلفية العلمية” و “الحنبلية” و “الوهابية” و السلفية القاعدية أو الجهادية. و يمكن الرجوع في هذا الإطار الى كتابات و أحاديث أحد أهم المنظرين القاعديين و تيار الفتنة الأهلية و هو مؤسس تنظيم “بيعة الإمام” الأردني أبو محمد المقدسي و الذي يتعرض بشكل متواتر و محدد لمصطلح “خط السلفية الجهادية” بما يحمله بالتحديد من معاني “تكفير الحكام” و إسقاط الشرعية عن “جكام الطواغيت” و “الجهاد” ضدهم.

نفس الأسلوب الساذج في علاقة بفهم نوايا تيار الفتنة الأهلية القاعدي نجده في مقال السيد الحيدوري الأخير و المشار اليه أعلاه و الذي يصل الى مدى يثير القلق من حيث الاصرار على “حالة الانكار” و عدم الرغبة في تصديق خطورته الجدية على السلم الأهلي. و قد احتوى التقرير على معطيات (غير محددة المصدر) ضافية تؤكد الطابع السلفي لأعضاء المجموعة المعنية في الأحداث الأخيرة مثل تتلمذ أحدهم في مدينة سيدي بوزيد (أشار تقرير السيد خشانة الى مدينة قفصة) على أيدي أحد الشيوخ (“الخطيب الإدريسي”) و الذي كان بدوره تلميذا للشيخ بن باز و ارتباط ذلك بدون أي شك بتدريبات مسلحة في الجبال التونسية. إلا أن السيد الحيدوري مازال يتساءل بشكل غير متوقع” احتمال النشاط السلفي الجهادي أقوى، فالمتبنّون للتيار السلفي الجهادي أصبحوا ظاهرة لافتة في تونس منذ سنوات. ولكن هل كان في أجندتهم القيام بنشاط مسلّح في تونس ؟ وهل يصحّ تسميتهم معارضة مسلّحة تسعى للتغيير السياسي؟…. نعرف ما هي إستراتيجية التدريب في تونس هل كانت تجهيزا لتصدير المقاتلين إلى بلدان أخرى أم خلايا بانتظار أمر مجهول ؟”. و هكذا فإن بالنسبة للسيد الحيدوري هناك احتمال أسباب أخرى لقيام هذه المجموعات بالتدرب على السلاح و هو تحديدا تصدير مقاتليها لأماكن أخرى ربما العراق أو الجزائر. و بالرغم أن الجميع يعرف (كما أشار هو نفسه في مقاله) الى أن مصادر و مواقع التدرب هي نفسها المواقع التي يعنيها بالتصدير حيث ليس لدينا في تونس حتى الآن خبرات قاعدية مماثلة لما هو موجود في العراق أو الجزائر حتى يتم تدريبها في تونس لنقل خبراتها الى العراق أو غيره (العراق أفضل مواقع التدريب القاعدية حاليا). كما يشير السيد الحيدوري في نفس إطار التشكيك لبرامج الإرهاب المحلي الى “مجموعة الجزائر” بأنها قامت بالاعتراف تحت التعذيب و لكن من المتوقع أنه يعرف أن هناك أكثر من مجموعة ضبطتها الأطراف الأمنية الجزائرية بصدد الالتحاق بمواقع تنظيم “الجماعة السلفية للدعوة و القتال” و ليس ذلك الطريق المعتاد للذهاب الى العراق. كما أن التنظيم المعني أعلن بشكل واضح خاصة في بيان “قاعدة الجهاد في بلاد المغرب” على الاستراتيجيا المغاربية للتنظيم. إن التهرب المثير للانتباه من النظر الى الحقيقة الباردة أي برنامج الارهاب المحلي للسلفية الجهادية يعبر إما عن تجاهل أو ببساطة جهل ببرامجها و رؤاها المعلنة و التي شرحتها فيما قبل و أعلاه و الخاصة بأهمية “محاربة كفار الداخل أو الطواغيت” المماثلة لمحاربة “كفار الخارج”. إن المثير حقا أن هذه السذاجة بل و التعاطف الظاهر مع موجات المتطوعين و الذاهبين الى العراق من السلفية الجهادية تترافق مع غيرة ظاهرة حول مسألة “الجهاد المسلح في العراق” من قبل كتاب (مثل السيدين المرزوقي و الحيدوري) كثيرا ما تعاملوا بكثير من الغلظة مع التيارات التونسية التي تركز على القضايا القومية و خاصة مسألة دعم العراق في حربه بوصفها قضايا تلهي عن “قضايا الداخل”. و الحقيقة أن هذا التبرير و محاولات التغطية على تيار الفتنة الأهلية القاعدي تبدو كمحاولة مؤسفة لتوظيف الصراع الراهن لمزيد التشهير بالنظام لا غير و من ثمة العمل على تبييض القاعديين و تناسي حقيقة أن المعركة في هذه الحالة لا تمس السلطة بقدر ما تمس مبدأ الدولة المدنية و النظام الدستوري القائم و السلم الأهلي. فهل يستحق كل ذلك المناورة السياسية؟ لا أعتقد ذلك.

الشخوص المتفاقمة الذات

في خضم كل ذلك توجد ظاهرة أخرى لا تستحق إهتماما كبيرا لتأثيرها الغائب تقريبا على مجرى المسرح السياسي. غير أنها تثير بعض الغبار حولها و هو ما يستدعي الإشارة اليها. يتعلق ذلك بظاهرة ما أسميه بالشخوص المتفاقمة الذات أو التي ذواتها متفاقمة الاعجاب النفس الى الحد الذي لا يمكن ترى فيه شيئا خارج عظمة مرتقبة تختص بها. و هنا مقابل الأطراف السياسية التي تمارس النرجسية السياسية و التنظيمية (أو الفرقية) هناك أشخاص يتمركزون حول ذواتهم و يعتقدون أن العالم هو ما يشاهدونه من ثقبهم و أنهم، بكل بساطة، مركز الأحداث. و هنا نأتي لظواهر بالغة الكاريكاتورية. نبدأ بالسيد الطاهر بن حسين مالك “قناة الحوار” التونسية و الذي عرض “خواطره” في آخر حصص القناة و التي اتجهت الى نقطتين كان بينهما رغبة في الجمع و التأليف. أولا زيارة وزير الصحة مبعوثا من رئيس الدولة لعيادة السيد محمد الشرفي (و أتمنى له بالمناسبة الشفاء) و هو ما يعني، حسب السيد بن حسين طبعا، علامة على “الانفتاح السياسي”. ثانيا قدم “دعمه الكامل” للقوات الأمنية. و هنا يجب أن نتذكر أن السيدين الشرفي و بن حسين من رموز التيار الاستئصالي الذي التحم بالسلطة (و الذي ساهم و لايزال بأساليبهم في “الاصلاح” الفوقي و السلطوي في ظهور تيار السلفية الجهادية) و لكن كانوا من الذين تم التخلي عنهم في منتصف الطريق لأسباب لازالت غير معروفة مقابل بقاء البقية (مثل السيد منتصر الرويسي). و يبدو أن الاشتباكات الأخيرة جعلتهم يفكرون في أن السلطة استنتجت مما يجري حاجتها لخبرات السيدين الشرفي و بن حسين. طبعا العالم أوسع و أرحب من ذلك بما في ذلك عالم السلطة في تونس و من المؤسف أن يفكر البعض أن العالم سيتوقف لو لم يكونوا فيه خاصة إذا كانوا جزءا من المشكل و ليس الحل. تبقى الإشارة الى أن مالكي وسائل الاعلام في أي مكان من العالم يفضلون عادة البقاء في الكواليس و ذلك لحكم عديدة منها تفادي الظهور في موقع التوظيف السياسي الشخصي للمنبر الاعلامي الذي يملكونه. أتمنى على السيد بن حسين ترك العمل الإعلامي للقائمين على القناة حاليا و التواري في الكواليس و لو أن ذلك سيكون غاية في الصعوبة.

الظاهرة الكاريكاتورية الأخرى من الشخوص المتفاقمة هي “الدكتور” خالد شوكات. و أريد أن أبدأ هنا بملاحظة حول حرص السيد شوكات على سبق اسمه بلفظ “الدكتور” في حين أن ذلك الامضاء لا يميز مقالات أكاديمية بل مقالات رأي لا أرى فيها أهمية أن يكون الشخص دكتورا أم لا خاصة و أن الكثير من المحللين الجيدين (عبر العالم و المنطقة العربية) لا يمتلكون دكتوراة أو درجات أكاديمية رفيعة. و الحقيقة لا تنتشر بين الجامعيين التونسيين (المتكونين في الجامعة النونسية و حتى غيرها) عادة وصف أنفسهم بالدكاترة عند التعرض للشأن العام بل حتى في المعاملات داخل الأوساط الأكاديمية. بينما تنتشر هذه الظاهرة في كثير من الأوساط المشرقية حيث لم تعد “الدكتوراة” تساوي شيئا جديا. أشير هنا أيضا الى أنه في المجال الأنقلوسكسوني الذي أنشط أكاديميا ضمنه أيضا يحرص المتحصلون على الدكتوراة و الأساتذة الجامعيين على تفادي سبق أسمائهم بلفظ “الدكتور” خاصة عندما يتعلق الأمر بمقالات أو مساهمات في الشأن العام. بل أن ذلك ينسحب أيضا على تذييل المقالات الأكاديمية. و في الواقع يشترك مع السيد شوكات في هذا السلوك المثير للاستغراب “دكاترة” آخرون من نفس النوع مثل السيدة (“الدكتورة”) رجاء بن سلامة و غيرها من الفرع التونسي للـ”الليبراليين الجدد” غير الليبراليين، في الحقيقة (و هو موضوع تعرضت اليه في مقالات أكثر عمومية لا تركز بالتحديد على النماذج التونسية) و الذين لا يختلفون حسب رأيي من حيث التركيز على المظهر و الإثارة و اللغة الشعبوية عن ظاهرة ما يسمى بالـ”الشيوخ المودرن”.

المثير حقا أنه من الصعب بل من غير الممكن أن أجد ما يشير من حيث المنهج و أسلوب التحليل ما يعكس صفة علمية من مستوى “الدكتوراة” في كتابات السيد شوكات و الذي لا أعرف حقيقة أين تحصل على “دكتوراه” و ماهية محتواها و لكن تلك مسألة غير ذات أهمية في حالة غياب حد أدنى من منهج و رؤية من يفترض أن يكون دكتورا. و الغالب على مقالات السيد شوكات أسلوب عاطفي و متشنج و قليل التمحيص و سريع الاستنتاج و الخلاصة كما أشارت الى ذلك و بهدوء البحث الرصين (و بدون الاستعانة بلقب “الدكتور”) بعض النصوص الأخيرة (يكفي أن أشير الى ردود أخيرة قرأتها على النت على مقالات السيد شوكات للسادة أحمد نجيب الشابي و ناجي الجمل و فتحي النصري). سأقتصر في هذا الاطار على مقال أخير كتبه السيد شوكات يشكك فيه في بيان “شباب التوحيد و الجهاد” على أسس غاية في التسرع و الخفة (مثل “اختصاص” صحيفة الوسط بالبيان و هو أمر غير صحيح و كان يمكن معرفة ذلك لو قام السيد شوكات بما يمكن أن يقوم به أي كاتب متعود على التمحيص البديهي و الذي لا يختص به ضرورة حتى من هو أكاديمي أي ببساطة مبدأ التثبت) بالرغم من أن البيان المعني يستحق الشك و لكن لأسباب أخرى (سأتعرض اليها أسفله). غير أنه إضافة لغياب معاني المنهج الأكاديمي المتوقع من قبل “الدكتور” شوكات يمكن ملاحظة حالة بارزة من الشخصية المتفاقمة الذات و التي قامت حقا بابداعات في هذا المجال. و يأتي في هذا الإطار بيان أصدره (بنون الجمع) و بأسلوب يوحي بأننا بصدد بيان مؤسسة سياسية معنون كالتالي: “بيان بشأن المواجهات الأخيرة في تونس. د. خالد شوكات” و هي ظاهرة لا أعتقد أنه سبقه اليه أحد في مكان آخر في تاريخ السياسة المعاصرة. حيث هناك تقاليد في البيانات الفردية و لكنها تتعرض في العادة لموقع ذلك الفرد من وضع تنظيمي أو مؤسسي محدد (استقالة، تبرؤ). أما التعبير الفردي عن الموقف السياسي فهناك طبعا مقال الرأي. مقابل كل ذلك هناك نوع “البيان الحزبي” و الذي يختص بأسلوب و معاني تخص موقف طرف أو مؤسسة سياسية لافردية بالضرورة من ظاهرة محددة غير أن السيد شوكات ارتأى التعبير عن موقفه الفردي من خلال هذا النوع اللافردي المؤسسي من أشكال التعبير السياسي. و لكن لا أعتقد أنه يمكن لوم السيد شوكات كثيرا في هذا السياق خاصة في ظل ساحة توجد فيها ظاهرة أخرى مماثلة من حيث الطابع الكاريكاتوري و هي ظاهرة “الحزب-الشخص” و التي سنحترم مشاعر أصحابها فهي تفادت حتى الآن إصدار بيانات.

مسألة “بيان جماعة شباب التوحيد و الجهاد”

اتجهت الكثير من الآراء في الأوساط التونسية للتشكيك في حقيقة البيان و نسبته. و أعتقد أن هناك أسباب للتشكيك في البيان المعني و لكن لا تتعلق في أغلبها بما تم التعرض له. و الأهم من ذلك فإن النقاش حول البيان بدى كأنه يتم ضمن الأسلوب العام من “حالة الإنكار” المتواصلة و المتمثلة في تأويل معين لظروف خارج البيان تتعلق أساسا بسيناريو تآمري بالغ الخيال و يتجسد في رغبة في الاعتقاد في أن كل ما يحصل ليس إلا تسييرا من وراء ستار السلطة في إطار صراع نفوذ و ليس البيان إلا إختلاقا من قبل أحد الأطراف المتصارعة بل إن طبيعته المختلقة تأكيد لهذا السيناريو.

نبدأ أولا بما تم التأكد منه و الذي لم يعد التهرب منه مفيدا بأي شكل و هو أننا بصدد مجموعة سلفية جهادية (بمعزل عن حجمها) تستعد لأعمال الارهاب المحلي. إن صدور بيان تبني أو عدم صدوره مسألة ثانوية بالنسبة لموضوع التحقق من طبيعة المجموعة. و لم يعد من الممكن تحويل التشكيك في البيان المعني في اتجاه التشكيك في وقوف مجموعة قاعدية وراء الأعمال الأخيرة. أكثر من ذلك يجب في هذا السياق أن نتوقع صدور بيان للتبني من قبل السلفيين الجهاديين و لا يجب أن يكون ذلك مفاجئا إلا لمن رغب في الاستغراق في “حالة الإنكار”.

نأتي الآن لمسألة البيان المعني و تحديدا للاعتراضات التي تم الاشارة اليها و التي تستحق الاهتمام. يشير على سبيل المثال السيد “صابر التونسي” أن الأرقام المستعملة الهندية ( في ضبط التاريخ) و التي لا تستعمل عادة في المغرب العربي (حيث تستعمل الأرقام العربية) يدل على أن كاتبي البيان ليست لهم علاقة بالساحة التونسية. و هي ملاحظة على بساطتها تستحق الاهتمام خاصة إذا اطلعنا على بيانات تنظيمات مماثلة من نوع “الجماعة السلفية للدعوة و القتال” حيث يقع استعمال الأرقام العربية. و في حالة صحة البيان فإن التفسير الوحيد الممكن لذلك هو أن الذي كتب البيان أصدره من بلد مشرقي حيث لوحات المفاتيح مهيئة على استعمال الأرقام الهندية و ليس ذلك احتمالا مستحيلا على كل حال.

غير أن بعض الاعتراضات الأخرى غير موفقة. مثلا الاستغراب من استعمال لفظتي “الضحوك القتال” لوصف الرسول (صلعم) بوصفها غير معتادة ليس اعتراضا دقيقا فهي على العكس من ذلك تشير الى أحد الصيغ المعتادة من قبل القاعديين. و من أشهر البيانات التي تم استعمال هذه الصيغة فيها بيان تبني عمليات لندن الارهابية في صيف 2005 و هي الصيغة التي تم التركيز عليها بشكل خاص من قبل بعض الأكاديميين الأمريكيين الدارسين للظاهرة القاعدية. كما أن التشكيك على أساس أن القضية المعنية و التي تم التركيز عليها في البيان (أي مسألة “الحرب على الحجاب”) لا تمثل عادة داعي الخروج عن الحاكم فإن ذلك أيضا ملاحظة غير موفقة حيث أنها مجرد تبيرير من قبل القاعديين للخروج عن “الطاغوت” و ليست إلا المسألة الأكثر إثارة إعلاميا في الحكم بـ”كفره” المحسومة أصلا كما هو واضح في البيان. و نفس الشيئ ينطبق على الادعاء بعدم التعرض لـ”عوام الناس” بوصف ذلك يتعارض مع المنهج الارهابي لهذه التنظيمات و لكن ذلك أيضا غير دقيق. فالقاعدوين لا يفتون بشكل علني باستهداف مباشر للمدنيين و لكنهم يمررون ذلك تحت ستار فقه التترس. كما أن تنظيم “الجماعة السلفية للدعوة و القتال” (من خلال بيانات و أحاديث أمرائه المتواترين من حسان الحطاب الى عبد المالك دروكدال) و الذي من المفترض أنه المؤطر المباشر للمجموعة التونسية المعنية يستخدم تحديدا مصطلح “عوام الناس” في نقاش مسألة استهداف المدنيين و هي مسألة محورية في منهج هذا التنظيم و كانت من القضايا التي أدت لانشقاقه عن “الجماعة الاسلامية المسلحة” حيث يعترض عليها بالتحديد تماما مثلما نقرأ في البيان.

من جهة أخرى يبدو الإمضاء متناسبا مع موجة التسميات التي تسمى بها التنظيمات القاعدية في السنين الأخيرة خاصة مع بروز “جماعة التوحيد الجهاد” في العراق ثم في أماكن أخرى مشابهة من حيث غموضها للمجموعة التونسية مثلما هو حال المجموعة المصرية التي قامت بتفجيرات سيناء (قام أحد المشاركين في منتدى “نواة” باسم “lassad” بعرض بحث في الانترنت حول المجموعات التي تسمت بهذه التسمية). و لكن خصوصية التسمية الموقعة للبيان أنه تستعمل صيغة “شباب التوحيد و الجهاد”. و هنا يجب ملاحظة أمرين. أولا ليست تسمية “التوحيد و الجهاد” تسمية تنظيمية بالضرورة بل هي تسمية تصف بالأساس منهج و فكر هذه المجموعات و التي تركز بالأساس على ركني “التوحيد” و “الجهاد” و هي الثنائية التي ركز عليها خاصة أبو محمد المقدسي و تلاميذه مثل المنظر الشرعي لتنظيم “التوحيد و الجهاد” في العراق أبو أنس الشامي. و بالتالي هي تعبر عن “خط” و “رؤية فقهية” قبل أن تكون تسمية تنظيمية بالأساس. و في الحقيقة تؤكد تسمية “شباب” هذه الصبغة المفتوحة و غير المنضبطة و التي تشير الى تيار و ليس الى بنية تنظيمية محددة بالضرورة. إن كل الاعتبارات أعلاه (بما في ذلك مسألة الأرقام) تشير على الأغلب الى أننا لسنا بصدد بيان من قبل البنية التنظيمية المشرفة على المجموعة بقدر ما أننا بصدد طرف متعاطف معها و ربما حتى مقرب منها أراد الرد بصيغته و من موقعه الجغرافي على ما يراه تشويها إعلاميا للمجموعة المعنية و لهذا لم يتضمن تفاصيلا محددة حول مسار العمليات (بفعل أنه بعيد عنها) بقدر ما تضمن تأطيرا شرعيا لها. في المقابل فإن بيان التبني إذا تم إصداره أصلا سيكون على الأرجح في علاقة بمشروع “قاعدة الجهاد في بلاد المغرب” أو الأطر التي لها علاقة مباشرة بهذا المشروع. و هكذا فإن المشكل في البيان المعني لا يكمن في أنه مختلق بل في أنه لا يمثل تحديدا البنية التنظيمية المسؤولة عن العملية.

نلاحظ في هذا الإطار أن البيان الأخير أو “كلمة” أمير “الجماعة السلفية للدعوة و القتال” (مؤرخة في 3 جانفي 2007 و منشورة في صحيفة الخبر الجزائرية بتاريخ 6 جانفي 2007) و الذي أصدره تحديدا في خضم هذه الأحداث أشار فيه لاتساع الأصول الجغرافية لمقاتليه (“لقد بدأ الشباب يصحو من غفوته وينهض من كبوته ويتشوق لحمل السلاح ويتوافد على الجبال من داخل البلاد وخارجها“) و ورود أسلحة جديدة (“فتوح من الأسلحة والذخائر في المدة الأخيرة“) و هو الأمر الذي يتقاطع مع تقارير عن علاقة تسلح المجموعة التونسية بمصادر سلاح جزائرية (أي قيام التنظيم الجزائري ليس بتجميع السلاح بكثرة فحسب بل أيضا بإعادة توزيعه على الوافدين الجدد). كما لمح فيه أنه ينتظر “توجيهات” جديدة من قبل بن لادن في خصوص “المرحلة القادمة” و هو ما يؤكد الطابع الاقليمي و الدولي للتنظيم.

ملاحظات أخيرة:

أريد أن أختم ببعض الملاحظات العامة التي تحاول أن تناقش ما تم تقديمه على أنه سبب الوضعية الراهنة و تحديدا بروز هذا النوع من التنظيمات الارهابية. و سأتعرض بالتحديد للسبب المتداول في أوساط المعارضة و المتمثل في مسؤولية السلطة “أولا و أخيرا” بسبب الوضع الدكتاتوري.

-  لا أعتقد أن هناك إمكانية للشك في دور ما لغياب الحريات بشكل بالغ و الممارسات التسلطية بما في ذلك منع النشاط عن تيارات إسلامية معتدلة في تشكل ظاهرة الارهاب المحلي و الموجه لإثارة الفتنة الأهلية. غير أن المشكل ليس في وجود هذه الدور بقدر ما هو في تحديد أبعاده و حدوده. و بمعنى آخر لا يمكن اختزال المسألة في هذا السبب لأنه توجد أوضاع سياسية أخرى لا تتسم بهذا القدر من الانغلاق السياسي بل تعرف انفتاحا سياسيا متزايدا و لكنها عرفت رغم ذلك و بالتزامن تحديدا مع مسار الانفتاح (المغرب و الأردن مثلا) بروزا لهذه الظاهرة. إن تشكل الارهاب المحلي و تيار الفتنة القاعدي يحتاج تفسيرا أكثر تعقيدا لا تشكل فيه المسألة الديمقراطية سوى أحد جوانب المشكل. هنا من الضروري الإشارة الى أنه حتى و لو أن هناك دورا لغلق مواقع التعبير و باقي مؤسسات الحراك الاجتماعي المدني في بروز هذه الظاهرة فإنه لا يجب أن ننسى (للمفارقة) أن أحد أسباب رد فعل هذه الأطراف التكفيرية هي رؤية فقهية ترفض أساسا النظام التعددي و الإطار الدستوري الذي يضمن التداول على السلطة و المراقبة الشعبية للسلطة التشريعية حيث ذلك يتعارض مع مبدأ “حاكمية الله” كما تراها. إن الديمقراطية “بدعة و كفر” وفقا لهذه الرؤية و لو أن ذلك يصعب تصديقه بالنسبة للبعض و هي بالتالي ليست حلا بالنسبة لهؤلاء بقدر ما هي جوهر المشكل. إن تعريف “الطاغوت” في هذا المعنى ليس نفس تعريف “الطغيان” بقدر ما هو تعريف متناسب مع معنى “حكم البشر بما لم ينزل الله” و ما يعني ذلك حسب الرؤية الفقهية السلفية الجهادية من “أحكام كفرية” بالضرورة.

-  إن المشكل الأعمق هو في الحقيقة مشكل الهوية بما في ذلك مسألة التجديد الديني. و لا يمكن التعامل مع هذه المسألة فقط من زاوية “منع النقاش العام” حول المسألة الدينية و من ثمة ربط كل شيئ مجددا بموضوع الحريات و الديمقراطية. حيث المشكل هو في ثقافة كاملة تسبق تراجع الحريات في العشريتين الأخيرتين و ترجع لما قبل ذلك تقاسمت فيها الكثير من الأطراف السياسية سلطة و معارضة تعاملا غير صحي مع مسألة الهوية. فالسلطة (و كما أوضح السيد لطفي الحجي في كتابه عن بورقيبة و الاسلام) احتكرت “حق التجديد الديني” و حاربت المؤسسة الدينية القائمة (جامع الزيتونة) و من ثمة حرمتها من تحمل هذه المعركة الفقهية بالدرجة الأولى و التي لم يكن من الممكن أن يتحملها شخص متقلب و قليل الثقافة الفقهية مثل الرئيس السابق. و قد كان هناك خطا تجديديا سابقا لبورقيبة ضمن مؤسسة جامع الزيتونة و كان يمكن تشجيعه عوض إلغاء المؤسسة برمتها. من جهة أخرى كانت غالبية القوى السياسية المعارضة و لمدى فترة طويلة في قطيعة مع هوية البلاد بل أنها ساوت تقريبا بين “الرجعية” و “الفكر الديني” مما جعل موضوعة التجديد الديني غير مطروحة أصلا. و حتى بظهور التيار الاسلامي المعتدل منذ السبعينات كانت الرهانات السياسية أكبر من مسار التجديد الديني الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يتم ضمن مسار البنى الحركية كما أنه مسار لا يتحقق في ظرف قصير و يحتاج مجالات ثقافية غير محدودة حركيا. إن هناك فراغا واضحا لقادة دينيين مستقلين معتدلين يحضون بالمصداقية و ليس فقط لتيار (أو حتى تيارات) سياسي إسلامي معتدل.

-  غير أن مسألة التجديد الديني ليست معزولة عن موضوع استهداف المنطقة و هويتها منذ الفترة الاستعمارية ثم مشاريع إعادة الاستعمار و التهديد الحربي طوال الخمسين سنة الماضية وصولا الى إستعمار العراق مؤخرا مرورا بالاستهداف المستمر و على الهواء من قبل إسرائيل للفلسطينيين و للبنانيين في السنوات الأخيرة. و في الحقيقة بقيت الكثير من القوى السياسية التونسية خاصة على اليسار في تجاهل للمغزى الواقعي و المؤثر تونسيا لهذه القضايا و من ثمة تأثيرها على تركيبة السياسة الداخلية و تفاعلاتها و بقيت تتعامل معها كقضايا “خارجية”. و يمكن تتبع هذه المسافة في تفاصيل مهمة حيث بقيت الكثير منها مترددة حتى في استعمال اللغة العربية في بياناتها في فترة ما ثم تجنبت و تتجنب تسميات مثل “الامة العربية و الاسلامية” حتى الآن. من جهة أخرى فإن مجمل الأطراف الرسمية أو المعارضة لم تنجح في إقامة أطر ناجعة تؤدي الحاجة الشعبية المتفاقمة لدعم القضايا القومية و الاسلامية بشكل جدي يتجاوز البيانات. و هكذا فقد ملأ القاعديون فراغا مهما في هذا الإطار ساهمت فيه استراتيجيتهم العابرة للحدود و وجود تنظيم موالي قوي في مجال عربي يهم عددا أكبر بكثير مما كان الحال في جبهات تعبوية سابقة (بشكل أهم بكثير من الحالة الإفغانية). و الحقيقة فإن التجارب اللبنانية و الفلسطينية و العراقية تؤكد أن حاجة هذه الجبهات المفتوحة ليس في متطوعين جدد بقدر ما هو في الدعم السياسي و المادي. و قد ساهم سابقا التونسيون بنشاط في دعم المقاومة الجزائرية (بمشاركة مباشرة من قبل بورقيبة عبر أحمد التليلي) و لكن من دون الحاجة لإرسال متطوعين. إن أهم المسؤوليات الراهنة لمختلف القوى السياسية بما في ذلك السلطة هي إيجاد أطر وسطى تتوافق مع الحاجة الشعبية لدعم هذه الجبهات و بشكل يتناسب مع الحاجات الحقيقية للأطراف المقاومة فعلا في هذه الجبهات بالشكل الذي يتم فيه تجنب الاستراتيجيا القاعدية التي تمارس عسكرة الجبهات الداخلية تحت غطاء الصراع مع الخارج.

-  أخيرا حتى في حالة مواجهة كل هذه العوامل فإن المعركة مع تيار الفتنة الأهلية القاعدي لن تكون قصيرة و ستحتاج وقتا طويلا. و ربما يغتر البعض ببطئ عمليات هذا التيار و تفرقها الزمني و الجغرافي. و لكن مسار الاستراتيجيا القاعدية بشكل عام خاصة في الأقطار المشابهة لتونس سيكون مختلفا عن المسار الاستعراضي و المتسرع (كرا و فرا) لتجارب سابقة مشابهة و فاشلة (مثل “الجماعة الإسلامية” في مصر و “الجماعة الإسلامية المسلحة” في الجزائر). كما أنه سيناور في الأقاليم المشرقية لإطالة حياته و خاصة عبر التحريض على الملف الطائفي و هي الورقة التي توجد مؤشرات على نجاحها للأسف الشديد. و هو ما سيشكل رصيدا يستعين به في بقية الأقاليم. إن الظاهرة ليست تونسية حصرا و لذلك فإن حلها يستحيل أن يكون تونسيا حصرا. و هناك نقطة أخرى تتعلق بأعداد أعضاء هذه المجموعات حيث يتم أحيانا محاولة التقليل من أهميتهم على أساس أعدادهم الصغيرة نسبيا غير أن الطبيعة العملياتية المعتمدة من قبلها تركز تحديدا على أعداد قليلة لكن مدججة بذخيرة كبيرة توفر أضرارا مثيرة. و لهذا تشير بعض التقارير الى الاندهاش من حجم السلاح المتوفر مقارنة بحجم المجموعة.