تم إيقاف مصطفى الجمالي يوم 9 ماي 2024 بعد أن أطلق المجلس التونسي للاجئين بإحدى الجرائد إعلان طلب عروض لفنادق من أجل إيواء عدد من طالبي اللجوء واللاجئين، من بينهم أطفال فاقدي السند، حيث اقتحم عشرات من أعوان الشرطة بالزي المدني مقر جمعية المجلس التونسي للاجئين وتم اقتياد رئيسها مصطفى الجمالي إلى ثكنة القرجاني، كما تم إيقاف مدير المشاريع بالمنظمة عبد الرزاق الكريمي بنفس العناوين عقب حملة تشهير واسعة عجت بها مواقع التواصل الاجتماعي.

 واجه نشطاء الهجرة حملات تشويه إعلامية وسياسية غريبة عن الشأن التونسي، ترتكز على أبشع نظريات الفاشية الجديدة التي تتحدث عن الاستبدال الكبير ومؤامرة تغيير التركيبة الديمغرافية للعنصري الفرنسي رونو كامو، الذي استهدف بنظريته المهاجرين من افريقيا وشمالها ومن بينهم المليون تونسي المقيمين بفرنسا. سردية تهديد الأفارقة من جنوب الصحراء للأمن القومي للبلاد تبنّاها الرئيس قيس سعيد الذي هاجم في عدة مناسبات المنظمات المنتصرة لحقوق المهاجرين ووصم النشطاء في هذا المجال الحقوقي بالخيانة والعمالة وبأنهم أبواق مسعورة مأجورة، رغم أن أغلب انشطتهم تنظمها اتفاقيات رسمية مع وزارات ومؤسسات الدولة وينص عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان.

 انتهجت السلطة سياسة تجفيف المنابع واستهداف المنظمات التي تعمل في الصف الأول على إسناد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء وملاحقة نشطاء المجتمع المدني وسجن العديد منهم بنفس التهم ذات المفاهيم الفضفاضة مع إطلاق العنان لخطابات الكراهية والهرسلة الالكترونية والتهديد لمن رفض الغوص في هذا المستنقع، مقابل تمتيع أبواق التحريض والكراهية بالإفلات من العقاب.

وجهت لمصطفى الجمالي تهمة تكوين وفاق بهدف الارشاد والتسهيل والمساعدة والتوسط بأي وسيلة في دخول شخص إلى التراب التونسي خلسة وإيوائه لأشخاص داخلين أو مغادرين للتراب التونسي خلسة وتخصيصه مكانا لإيوائهم أو لإخفائهم ممن استغل صفته أو النفوذ الممنوح له بحكم وظيفته أو عمله والمشاركة في وفاق وتكوين تنظيم يهدف إلى اعداد أو تحضير أو ارتكاب الجرائم المشار إليها أو أداره أو انخرط فيه أو تعاون معه أو ساعده بأي طريقة كانت سواء داخل البلاد أو خارجها وتعمّد إعانة أجنبي بصفة مباشرة أو غير مباشرة أو محاولة تسهيل دخوله إلى البلاد التونسية أو خروجه منها أو جولانه أو اقامته بها بصفة غير شرعية، طبق الفصول 38 و39 و40 و41 و42 و43 من القانون عدد 40 لسنة 1975 المتعلق بجوازات السفر والفصل 25 من القانون عدد 7 لسنة 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية. قوانين تعود لسبعينات وستينات القرن الماضي أكل عليها الدهر وشرب، ينفض عنها الغبار حسب رغبة الماسكين بمقاليد الحكم، وهي قوانين ان طبقت في قضية الحال فهي تنسحب كذلك على مسؤولي الدولة والوزارات التي ساعدت وتعاونت مع المجلس التونسي للاجئين.

30 ديسمبر 2019 تونس، توقيع اتفاقية شراكة بين وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن والمجلس التونسي للاجئين في مجالات التعاون المتعلقة باللجوء لاسيما تقديم الخدمات للاجئين وطالبي اللجوء بتونس وتبادل التجارب والعمل المشترك في التحسيس بواجب الحماية المستحق للاجئ – وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن

بمقتضى ما سبق ذكره من معطيات، يقبع الجمالي الرجل الثمانيني في السجن منذ يوم 9 ماي2024 دون محاكمة رغم أن الإيقاف التحفظي منظم بقانون إلا أن تجديد الاحتفاظ لأكثر من مرة، دون تبرير مقنع، يطرح أسئلة حول جدية الدعوات المتكررة التي أطلقها الرئيس قيس سعيد إلى تقليص الزمن القضائي، وهي دعوات موجهة رأسا إلى السلطة القضائية أو ”الوظيفة القضائية” بتسميتها الجديدة حسب دستور 2022 وبالتالي خضوعها لتوجيهات السلطة التنفيذية.

من هو مصطفى الجمالي

 مصطفى الجمالي من مواليد 1944 هو موظف أممي سابق شغل منصب المدير الإقليمي الاسبق للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. أسس في 28 جوان 2016 جمعية المجلس التونسي للاجئين، وهي جمعية حقوقية غير حكومية تتلقى تمويلاتها من هيئة الأمم المتحدة، تعنى بحل المسائل المتعلقة باللجوء إلى تونس وتضع استراتيجيات بالتعاون مع السلطات الوطنية لإدارة الصعوبات التي يواجهها اللاجئون وطالبي اللجوء بالبلاد. علاقات التعاون والعمل المشترك لهذه المنظمة كانت أساسا مع السلطات التونسية الرسمية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في حين كان تعاملها شبه منعدم مع منظمات المجتمع المدني التونسي المعروفة بتاريخها النضالي، ليتخلى اليوم شركاء المجلس على الجمالي والكريمي ولا يجدا مساندة تذكر سوى من المنظمات الحقوقية التي كانت تنتقد في أحيان عدة طريقة تعامل المجلس التونسي للاجئين والمفوضية السامية لحقوق الانسان مع طالبي اللجوء في تونس.

رغم تنفيذ السلطات حملة ايقافات في صفوف منظمات الدفاع عن المهاجرين، فإن ذلك لم يمنعها من الاستشهاد بما تقدمه هذه المنظمات من خدمات لفائدة اللاجئين متباهية بشراكتها مع عدد منها، مثال ذلك ما ورد في الرد الرسمي للبعثة الدائمة لتونس بجنيف في جويلية 2024 على تساؤلات مجلس الأمم المتحدة المتعلقة بالانتهاكات التي تعرض لها افارقة جنوب الصحراء بعد امضاء مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي. في 7 جانفي 2025 خصّت البعثة الدائمة الجمالي والكريمي برد على مراسلة استفهام حول ظروف وأسباب اعتقالهما. رد عددت فيه البعثة الدائمة فصول الدستور والقوانين والمراسيم ”الضامنة لعمل المدافعين عن حقوق الانسان بما في ذلك المهاجرين وممارسة نشاطهم دون خوف أو قمع“، المراسلة ذهبت إلى أبعد من ذلك بالإشادة بالمرسوم عدد 88 المتعلق بتنظيم نشاط الجمعيات وفصله السادس الذي يحجّر على السلطة عرقلة نشاط الجمعيات أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة، في حين يكشف الواقع، بعيدا عن لغة المراسلات الرسمية المنمّقة، سعي السلطة المحموم لضرب هذا المرسوم والتخلص من فصوله.

⬇︎ PDF

نسخة باللغة العربية من مراسلة البعثة الدائمة لتونس بجنيف المتعلقة باعتقال مصطفى الجمالي وعبد الرزاق الكريمي بتاريخ 7 جانفي 2025


”كان ما عمل شيء توا يروّح“

لم يلق إيقاف الجمالي صدى واسعا لدى الرأي العام انطلاقا من مخاوف فريق دفاعه وعائلته من ”تسييس” القضية، والمقصود هنا مخاوف من غضب السلطة إن توجهت العائلة لنشطاء ومنظمات حقوقية تنتقد النظام والرئيس وما يمكن ان يسببه ذلك الغضب من تعقيد في وضعية الموقوفين. مخاوف وجدناها تقريبا في كل قضايا سجناء ملف الهجرة التي رضخت عائلاتهم لنصائح بوليسية بلملمة الأمر وعدم نشره ”كان ما عمل شيء توا يروّح“ على أمل إطلاق سراحه في أقرب الآجال. لكن العائلات تنتهي تدريجيا إلى فقدان الأمل مع تواصل الايقاف وتمديده الآلي، حتى تقنعها الوقائع والبلاغات الرسمية أن السبب سياسي بامتياز لتبرير سردية التآمر التي لا تتوان السلطة في الصاقها بمن تريد من معارضيها.

 عائلة الجمالي خرجت عن صمتها للمرة الأولى خلال اللقاء التضامني الذي احتضنه فضاء ”الريو“ بالعاصمة يوم 22 جانفي 2025 بمناسبة اليوم الوطني لإلغاء العبودية والرق الموافق ل 23 جانفي من كل سنة.

لقاء تحدثت فيه عائلة الجمالي عن وضعيته في مواجهة ظروف السجن خاصة أنه مسنّ تجاوز العقد الثامن من العمر ويعاني عددا من الأمراض المزمنة.

شهادة من عائلة مصطفى الجمالي ومطالبتها بإطلاق سراحه

في لقائنا مع ابنتي مصطفى الجمالي، أكدتا أن المحامي قدم في مناسبتين مطلبي إفراج ومحاكمة في حالة سراح مدعومين بتقرير طبي يؤكد هشاشة وضعه الصحي وخطورة إبقائه في السجن. لكن المطالب رفضت دون أي تبرير رغم أن المشرّع التونسي يقبل في أغلب الأحيان الإفراج استثنائيا عن كبار السن، خاصة ممن يعانون من أمراض تستوجب العناية، والتحقيق معهم في حالة سراح وحتى إن رفضت المطالب فيقع على الأقل تبرير الرفض بحجج قانونية. طرقت العائلة كل الأبواب دون جدوى حتى أنها التجأت إلى إطلاق عريضة إلكترونية كنداء استغاثة يائس لمن تقطعت به السبل لكسر الصمت والعزلة.

معاناة مصطفى الجمالي لم تقف عند هذا الحد بل امتدت إلى حرمانه من أدويته لمدة تجاوزت الشهرين، ما دفع العائلة للاستنجاد بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وفق ما أكدته ابنتاه اللتان تابعتا الحديث بألم حول أول زيارة خاصة تمكنتا فيها من زيارة والديهما دون حاجز بلوري. صدمت العائلة حينها بانتفاخ شديد في أحد رجلي الجمالي ليتضح أن إدارة السجن مدته بدواء خاطئ، بعد أن طلبت من العائلة تمكينها من وصفة الدواء وتعهدت بتوفيره له، خطأ كاد يؤدي بحياة إنسان، بهذه البساطة.

 في اجابته على تساؤلنا، أكد شادي الطريفي عضو الهيئة المديرة بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن هذا الإشكال يعود لسبب رئيسي متعلق بالنظام الداخلي للإدارة العامة للسجون وسياستها المعقدة في توفير الأدوية والأدوية الجنيسة، أمام واقع النقص الفادح لأغلب الأدوية الأصلية منذ 3 سنوات.

22 جانفي قاعة الريو تونس العاصمة، عدد من عائلات نشطاء الهجرة المسجونين خلال تقديم شهاداتهم في الملتقى التضامني مع عائلات مساجين العمل المدني – Tunisian Solidarity

تتمسك العائلة بمطلب السراح للجمالي نظرا لسنه المتقدم وان تطلب الامر تحجير السفر عليه أو إلزامه بعدم مغادرة منزله في انتظار استكمال التحقيقات والتعجيل في محاكمته محاكمة علنية عادلة بعد توجيه تهم واضحة حتى يتسنى للمحامين التعاطي قانونيا مع المعطيات الواردة في الملف القضائي.

ويبقى السؤال معلقا، ما الخطر الذي يشكله رجل تجاوز الثمانين سنة على السلم الاجتماعي وعلى الامن العام؟ اليس من العدل والانصاف والانسانية ان تقع مساءلته وهو في حالة سراح؟ أسئلة تبدو بديهية، لكنها تفقد معناها أمام واقع سعي الأجهزة بكل الطرق لتبرير السردية التي أطلقها الرئيس، سردية تبحث لها كل مرة عن أكباش فداء يسارع في الالقاء بهم في السجن ثم البحث البطيء والنبش عن أي معطيات تبرر الإيقاف وسجن النشطاء، خاصة في مجال الهجرة وإغاثة اللاجئين وطالبي اللجوء.