على الرغم من هيمنة دول الاتحاد الأوروبي على خارطة أبرز شركاء تونس التجاريّين، إضافة إلى الصين وتركيا، إلاّ أنّ الولايات المتحّدة الأمريكيّة احتلّت المرتبة السادسة على صعيد أهمّ الأسواق المورّدة للمنتجات التونسية سنة 2023 بما قيمته 2985.6 مليون دينار. وتشمل قائمة أهمّ الصادرات التونسية إلى واشنطن زيت الزيتون بقيمة 697.9 مليون دينار تقريبا، وهي ثاني مصدّر لهذا المنتج إلى السوق الأمريكيّة. كما تصدّر تونس كميات كبيرة من التمور إلى السوق الأمريكية، بدعم من وزارة الفلاحة الأمريكية بقيمة 79.5مليون دينار لتعزيز جودة المنتجات. إضافة إلى قطاع النسيج والصناعات الحرفية بقيمة 361.6 مليون دينار وغيرها من المنتجات الكيميائية والمنجمية بقيمة تفوق 320 مليون دينار سنة 2023.
في المقابل، لا تبدو تونس وجهة أساسيّة للصادرات الأمريكية، حيث لم تتجاوز قيمتها خلال نفس السنة 2278 مليون دينار، لتحقّق فائضا تجاريا بقيمة 707 مليون دينار تقريبا. وتتكوّن أهم الواردات التونسية من الولايات المتحدّة من الأدوية والمنتجات الميكانيكية والالكترونية والمنتوجات الفلاحية.
الترفيع في الرسوم الجمركيّة: ضرر ليس بحجم كارثة
قرار الرئيس ترامب الترفيع في الرسوم الجمركية بنسبة 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، ورسوم جمركية أعلى على السلع من حوالي 60 دولة أو تكتّلا تجاريّا تعاني من عجز تجاري كبير مع الولايات المتحدة، أثار الكثير من الجدل والحروب الكلاميّة والإجرائية المتبادلة. وقد أتت أبرز الردود من الشركاء التجاريين الكبار لواشنطن على غرار الصين والاتحاد الأوروبي، حيث ستُفرض عليهما رسوم جمركية جديدة بنسبة 34% و20% على التوالي، ليتراجع ترامب ويعلن تعليق قراره لتسعين يوما، ما عدى الصين التي تواصلت حرب كسر العظام معها لترتفع الرسوم إلى 145%. حجم الانعكاسات الفورية على أسعار النفط في السوق الدولية وتراجع سعر صرف الدولار أدّى إلى تعديل الرئيس الأمريكي لقراره في 13 أفريل الجاري وذلك باستثناء الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب وبعض الأجهزة الإلكترونية الأخرى من الرسوم الجمركية المتبادلة، بما في ذلك تلك الرسوم المفروضة على الواردات الصينية.

هذه الحرب التجاريّة إن صحّ التعبير، قد لا تكون آثارها كارثيّة على الاقتصاد التونسي والمبادلات التجارية بالأخصّ. حيث تمّ رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية من تونس إلى 28% وهي من بين أعلى النسب على الصعيد العربي وحتّى الدولي إذا تم استثناء الصين.
تتجلّى أهمّ الارتدادات السلبية المباشرة لهذا القرار إن تمّ استئنافه بعد أقلّ من 90 يوما، في تراجع تنافسية الصادرات التونسية من زيت الزّيتون والتّمور والصّناعات الحرفيّة، في ظلّ أنّ الدول المنافسة فُرضت عليها رسوم لا تتجاوز 10%. وهو ما سينعكس بدوره على الحصيلة الإيجابية في الميزان التجاري الحالية بين البلدين ضدّ تونس. من جهة أخرى، يمكن امتصاص هذا الأثر السلبي في إعادة توجيه هذه المنتجات المتضررة إلى السوق الداخلي القادر على استيعابها خصوصا أنّ الحصة السوقية التونسية في المبادلات التجارية مع الولايات المتحّدة الأمريكيّة لا تتجاوز 4%. لكنّ التأثير غير المباشر يتعلّق بتأثّر الواردات الأوروبية من تونس والتي تستأثر بما معدّله 70% من الصادرات التونسيّة إذا ما تواصلت هذه الحرب التجارية بين أوروبا وواشنطن. إذ أنّ أيّ تأثير سلبي على اقتصاديات دول شمال المتوسّط نتيجة التعريفات الأمريكية الجديدة، والذي قد يخلق حالة من الركود الاقتصادي والتضخمي، سينعكس على الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية.
في المقابل، ستستفيد تونس من تراجع سعر النفط من 80 دولارا بداية جانفي 2025 إلى أقلّ من 65 دولارا للبرميل الواحد حاليا، وهو ما سينعكس ايجابا على المالية العمومية نظرا لأنّ الفرضية التي وقع اعتمادها في اعداد قانون المالية 2025 حدّدت سعر النفط ب74 دولارا للبرميل. وهذا يعني بدوره التقليص في فاتورة واردات منتجات الطاقة. كما سيؤدي تراجع سعر صرف الدولار مقابل الأورو، حاليا، إلى تراجع سعر صرف الدولار مقابل الدينار التونسي وتاليا تقليص كلفة توريد المواد الأولية والأساسية والطاقية، إضافة إلى ارتفاع الموجودات من العملة الأجنبية لتونس والحدّ من اختلال التوازنات المالية الكبرى للبلاد.
ظلال ترامب على تونس بين زمنين
مرّة أخرى استعرض الفيل الجمهوري بخيال راعي البقر ومسدسه الجاهز لإطلاق النار الذي انتهجه ترامب ليدحض الأطروحات المنمّقة للحمار الديمقراطي حول القيم العليا والمثل الكونية التي رفعها الديمقراطيّون ورجلهم في البيت الأبيض جو بايدن والذي عرّت حرب الإبادة الجماعية ضدّ أهالي غزّة زيف خطابه.
تجد تونس ”الدولة“ نفسها للمرّة الثانية تتعاطى مع أحد الرؤساء الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحّدة الأمريكيّة، ولكن في سياق وزمن محليّ وآخر دولي مغايرين تماما.
الأمن سيّد الأوليّات
عندما وصل ترامب إلى سدّة الرئاسة في نوفمبر 2016، كان الواقع السياسي في تونس مغايرا تماما. فالبلد الذي كان حينها يعيش سنته الخامسة بعد اسقاط نظام بن علي، مثّل أحد أهمّ المستفيدين من الدعم الأمريكي المُعلن ”لدول الربيع العربي“. ورغم أنّ تصريحات ترامب ركّزت بشكل واضح على تهديد التيارات الإسلامية والحزم في التعاطي مع الإرهاب، إلا أنّ ذلك لم يؤثر على العلاقات الاقتصادية والتعاون العسكري بين البلدين رغم وجود حركة النهضة كلاعب رئيسي في الحكم إلى حدود 24 جويلية 2021.

شهدت المساعدات الثنائية لتونس تطورًا ملحوظا منذ سنة 2011، إلا أنها تعززت بشكل أكبر اعتبارا من سنة 2015، وهو العام الذي أعلنت فيه تونس انضمامها كشريك رئيسي من خارج حلف الناتو. فقد تم وضع حدّ أدنى للمساعدات العسكرية الأمريكية بقيمة 141.9 مليون دولار، إلى جانب إنشاء صندوق تونسي أمريكي لدعم تمويل المؤسسات وتوفير ضمانات ائتمانية للبلاد، وهو تطوّر لم تعرقله إدارة ترامب خلال فترة حكمها.
وفي سياق متّصل، صادقت مؤسسة ”تحديات الألفية“، وهي هيئة أمريكية تُعنى بالمساعدات الخارجية، على اتفاقيات تمتد لخمس سنوات انطلقت في جوان 2021، بقيمة 499 مليون دولار، موجهة لمشاريع في مجالات النقل، والتجارة، والمياه، بما في ذلك توسعة ميناء رادس ورقمنته.
غير أن التطورات السياسية التي شهدتها تونس عقب أحداث 25 جويلية، دفعت المؤسسة إلى تعليق صرف هذه المساعدات، وذلك في ظل ”الانتكاسات التي تعرّضت لها الديمقراطية“، بحسب ما صرّح به عدد من المسؤولين الأمريكيين.
يُعدّ التعاون العسكري من أبرز أركان العلاقات التونسية الأمريكية، حيث شهد تطورا ملحوظا منذ 14 جانفي 2011، من خلال برامج متعددة شملت التدريب والتسليح لفائدة الجيش التونسي. وفي سبتمبر 2020، وقّع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، مارك إسبر، اتفاقية للتعاون العسكري مع تونس تمتد لعشر سنوات، ولا تزال سارية رغم الانتقادات التي وجّهها عدد من المسؤولين الأمريكيين لإدارة الرئيس قيس سعيّد خلال السنوات الماضية.

وزارة الدفاع الأمريكية قدمت دعما عسكريا لتونس قُدّر بمليار دولار منذ عام 2011 حتى 2020. ورغم هذا الزخم، تراجعت قيمة المساعدات العسكرية الأمريكية لتونس من 112 مليون دولار في عام 2022 إلى 61 مليون دولار في 2023، بسبب موقف إدارة بايدن من السياسات الداخليّة لسعيّد على المستوى الحقوقي بالأساس. إلاّ أنّ التعاون استمّر بين البلدين، خاصة من خلال شراكة تونس مع قوات ”أفريكوم“ ومشاركتها في مناورات برنامج ”الأسد الإفريقي 25“ والتّي سيقام جزء منها في تونس خلال الفترة الممتدّة من 22 إلى غاية 30 أفريل 2025.
في إطار هذا التعاون، تسلمت تونس خلال السنة الماضية عدّة تجهيزات عسكرية أمريكية، من بينها أربع طائرات من طراز C208، مجهّزة بأنظمة استخبارات ومراقبة واستطلاع، تم تسليمها في قاعدة العوينة الجوية في سبتمبر الماضي، بحضور وزير الدفاع التونسي والسفير الأمريكي. ويأتي هذا التسليم ضمن برنامج التعاون العسكري المتفق عليه في الدورة الرابعة والثلاثين للجنة العسكرية المشتركة سنة 2020، إلى جانب صفقات سابقة شملت طائرات C130، وطائرات تدريب، وزوارق سريعة، بالإضافة إلى دعم تركيز منظومة إلكترونية للمراقبة الحدودية.
وفي ديسمبر الماضي، وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على صفقة عسكرية لتونس تشمل شراء 184 صاروخا من طراز جافلين مع وحدات الإطلاق، بقيمة 107.7 مليون دولار.
إذن، رغم الانتقال من الإدارة الديمقراطيّة إلى نظيرتها الجمهورية في الولايات المتحّدة الأمريكيّة، إلا أنّ سياستها على المستوى الأمني والعسكريّ لم تشهد تغييرات جذريّة طيلة أكثر من عقد من الزمن. فاستدامة المصالح الأمريكية تبقى فوق أي اعتبارات سياسيّة.
مدرسة واحدة وخطابان متناقضان
في ظلّ الملفات الحارقة المطروحة على طاولة الرئيس الأمريكيّ الآن على الصعيد السياسي والاقتصاديّ والعسكريّ خصوصا في أوكرانيا وفلسطين المحتلّة، لا تبدو تونس في قائمة أولويّاته. إلاّ أنّ الرئيسين المنتميّين إلى مدرسة سياسية واحدة، إن صحّ اعتبارها مدرسة، يبدوان على طرفي نقيض من عدد من القضايا الدولية. فالتقارب التونسي الصيني من جهة والتونسي الإيراني من جهة أخرى-وإن كان هذا التقارب في الوقت الراهن محتشما على الصعيد الاقتصادي وبروتوكوليا دعائيا على المستوى السياسي-إضافة إلى التماهي في المواقف الخارجية بين الديبلوماسية التونسية ونظيرتها الجزائرية، لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال محل رضا أمريكيّ. موقف تجلّى مرّة أخرى من خلال رفض الحكومة التونسية إلى حدّ هذه اللحظة الاعتراف بسلطة أحمد الشرع (الجولاني)، في استمرار لسياسة سعيّد وتقاربه من نظام الأسد خلال السنتين الفارطتين والتي تتماهى مع موقف الجارة الغربيّة.

لكنّ الاختبار الأهمّ يلوح على مستوى القضيّة الفلسطينية حيث تتعارض الرؤية الأمريكية مع الخطاب ”المُعلن“ لسلطة 25 جويلية 2021. فخلال حفل عشاء على شرف الجالية الإسلامية في العاصمة واشنطن في 27 مارس 2025، وبحضور السفير الأمريكي المعيّن لتونس بيل بزّي، أعاد ترامب التذكير باتفاقيات أبراهام، مشيرا إلى أنّ إداراته التي استهلتها سابقا، ستواصل تنفيذها الآن وبنسق دؤوب. وهو ما يعني بشكل آخر عودة الضغوط الأمريكية على الدول التي ما تزال خارج سرب المطبّعين الرسميّين، ومن ضمنهم تونس. إشارة تحمل رسائل للنظام التونسي المتمسّك في بياناته ومواقفه العلنية (رغم استمرار التطبيع الاقتصادي ورفض تمرير مشروع قانون لتجريم التطبيع) بخطاب راديكالي حول تحرير كلّ فلسطين ورفض التطبيع وكون القدس عاصمة لفلسطين، خصوصا وأنّ ترامب كان من وقّع سابقا قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني.
إلاّ أنّ دونالد ترامب قدّم للرئيس التونسي قيس سعيّد هديّة صغيرة خلال بداية حكمه، تمثّلت في تجميد كافة الإعانات تقريبا في مختلف أنحاء العالم، بعد إصدار الرئيس الأمريكي أمرا تنفيذيا بإيقافها لمدة تسعين يوما. وقد كان لقرار غلق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID وغيرها من المانحين الأمريكيّين تبعات كبيرة على مستوى دعم المنظّمات غير الحكومية والجمعيات في تونس. هديّة شحذت همم مناصري سعيّد ومنحتهم دافعا جديدا لإعادة تكثيف الحملات المطالبة بتعديل المرسوم عدد 88 الخاص بالجمعيات، وترويج سرديّة التمويل الأجنبيّ المشبوه لاختراق الأوطان. خطوة إن تمّت، لن تجد على ما يبدو أي استنكار من إدارة ترامب التي ستعتبرها امتدادا لما شرعت فيه.

قد لا تكون شطحات ترامب الاقتصادية والتجارية الأخيرة ذات تأثير حاد ومباشر على الاقتصاد التونسي، ولكنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تسمح لمن تعتبرها ”الحليف المهم“ من خارج حلف شمال الأطلسي و”الشريك الأمني“، بحسب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن تخرج من الفلك الأمريكيّ. فرغم ضعف العلاقات التجاريّة، إلاّ أنّ حجر الأساس في العلاقة بين الدولتين كان تاريخيّا أمنيا وعسكريّا. وهو ما تجلّى بشكل واضح منذ بورقيبة مرورا ببن علي وصولا إلى مختلف الحكومات التي تعاقبت على البلاد بين 2011 حتّى اليوم، حتّى وإن توتّرت في محطّات ما وتُرجمت إلى تخفيض المساعدات العسكرية وتشديد لهجة البيانات. ورغم فتور العلاقات السياسية مع إدارة بايدن، فلا يبدو أنّ ترامب قد يحسّن من طبيعة هذه العلاقة تماشيا مع نهجه القائم على وقف دعم ما يراه غير ضروري من مصاريف تجاه الحكومات حتّى الحليفة منها أو المنظّمات الأمريكية والدولية. فساكن البيت الأبيض، الذي لا يختلف عن ساكن قرطاج في الشعبوية وهلوسات ”المقاربات الجديدة“، سيكون حريصا على تنفيذ برنامجه على مستوى تعميم التطبيع مع الكيان الصهيوني وتواصل الهيمنة الأمريكية في مراكز نفوذها التقليدية واستمرار التنسيق الأمني والعسكري مع تونس حفاظا على المصالح الأمريكية لا غير. دور سيكون بمثابة اختبار آخر لسعيّد لبيان التناسق بين لغة البيانات والخطابات الحماسية وبين القدرة الفعلية على ترجمتها إلى أفعال على غرار ما حصل في قضية تجريم التطبيع.
iThere are no comments
Add yours