إضافة إلى كونها أستاذة جامعية متقاعدة، عرفت سلوى غريسة بنشاطها في مجال حقوق الإنسان وتولّيها منصب المديرة التنفيذية لـ”جمعية الحق في الاختلاف“ (ADD). جمعية تأسست سنة 2011، لتنشط من أجل التوعية بالحقوق الكونية للإنسان والاعتراف بالحق في الاختلاف والدفاع عنه وتثمينه في مجالات التنوع الاجتماعي والثقافي الجندري والهوياتي. سنة 2018، أطلقت الجمعية ”مرصد الدفاع عن الحق في الاختلاف“.
أمّا في علاقة بالسلطة الحاكمة، فقد عارضت الجمعية مرارا مواقف رئيس الجمهورية قيس سعيد، لا سيما فيما يتعلق بملاحقة المهاجرين والتضييق على الحريات المدنية وقمع نشطاء مجتمع الميم عين إضافة إلى توظيف المرسوم 54 لقمع معارضي الرئيس.
حتّى قبل اعتقال مديرتها التنفيذية، كانت جمعية الحق في الاختلاف قد استنكرت تعرّضها لتضييقات بوليسية أعاقت أنشطتها على غرار ما حدث في الرابع من شهر ماي 2024، يوم منعت فرقة من الشرطة السياحية بسوسة تنظيم دورة تدريبية مخصصة للشباب تحت عنوان ”تقنيات التواصل الفعّال“، والتي كان من المقرر عقدها في فندق ”قصر سوسة“، وفقا للبيان الصادر عن الجمعية.
إجراءات استعجالية مطعون فيها من فريق الدفاع
في 9 ديسمبر 2024، تم استدعاء سلوى غريسة لأوّل مرّة من قبل الإدارة الفرعية للأبحاث الاقتصادية والمالية بالقرجاني. بعد استجوابها، تمّ الإفراج عنها ليتّم استدعاؤها مرة أخرى في اليوم التالي لجلسة استماع جديدة. لكن هذه المرّة، وُضعت رهن الإيقاف التحفظيّ لمدة 48 ساعة في مركز الإيقاف ببوشوشة.

في 12 ديسمبر 2024، مثلت سلوى غريسة أمام وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بنزرت ومن ثمّ أمام قاضي التحقيق الذي أذن بفتح تحقيق في شأنها. وفي نهاية جلسة الاستماع، صدرت بطاقة إيداع في حقّها لتنقل إلى السجن المدني بمنوبة.
في مثل هذا المناخ المتوتّر والعدائي تجاه الجمعيات في تونس، يكشف هذا الملف عن انحرافات المنظومة القضائية التي تتسّم بالبطء والتوظيف السياسيّ. واقع تؤكّده المحامية رانيا الزغدودي في حديث لـنواة قائلة:
قضية موكلتي تندرج في إطار الضغوط الحالية على الجمعيات. حيث تتكرر نفس التهم غالبا، والتي تتمحور حول التهرب الضريبي وغسيل الأموال، وسوء التصرّف في التمويلات. وعادة ما يُكلّف خبير محاسب بالتدقيق في الوضع المالي للجمعية قبل إنهاء التحقيق.
هذا الإجراء الأخير، تمّ تجاهله في قضيّة سلوى غريسة، حيث أفادت المحامية أنّه لم يُعيَّن أي خبير محاسب ليطّلع على الملّف، واقتصر الأمر على أعوان الإدارة الفرعية للأبحاث المالية والاقتصادية الذين تولّوا فحص الحسابات والعمليات المالية لتنهي التحقيق لاحقا على عجل.
خلف القضبان، تدهورت الحالة النفسيّة لسلوى، وهو ما تؤكّده محاميتها مضيفة: ”موكّلتي ينهشها اليأس وكان يكفي وضعها تحت الإقامة الجبرية أو مواصلة التحقيق معها في حالة سراح، فهي وأمثالها ليسوا في حالة فرار. كما كان بإمكان السلطات القضائية الاكتفاء بمنعها من السفر بدلا من اللجوء المنهجي للإيقاف التحفظّي.“
إيقافات تعسفية واستهداف بلا أدلة، هكذا وصفت عائلات عدد من الناشطين في ملف الهجرة الإيقافات التي طالت أبناءها. العائلات و عدد من النشطاء و لسان الدفاع عن المتهمين نظموا اليوم الثلاثاء، 18 مارس 2025، ندوة صحفية بمقر نقابة الصحفيين، مؤكدين أن سجن أبنائهم متواصل لتبرير سياسات السلطة الفاشلة في مجال الهجرة.
من ناحية المضمون، يطعن الدفاع في دقة التحليل المحاسبي، إذ تقول الزغدودي:
”من المؤكّد أن هناك تحويلات مالية، لكن سلوى قدمت كل المستندات الخاصة بمختلف العمليات المالية. وقد بنينا طلب الإفراج عنها استنادا على هذه الوثائق“. لكن الفاصل الزمني بين كل طلب إفراج وآخر يستغرق شهرا كاملا. هنا تشير المحامية موضّحة: ”سنقدم طلبا جديدا الشهر المقبل، فليس لسلوى سجل جنائي، كما أنّها متقدّمة في السنّ ولا ينبغي أن تظل خلف القضبان.“
تشهد القضية شللا تامّا بعد نقل القاضي المكلّف بالملّف منذ أربعة أشهر دون تعيين بديل له. وقد تم مؤخرا تعيين قاضية مؤقتة، لكنها غير مخولة للبتّ في جوهر القضيّة. في الأثناء، تنتظر سلوى مصيرها، كما تعبر عن ذلك أختها ليلى غريسة في حديثها لـنواة.

”سلوى لا تستحقّ هذا الظلم“
”يجب أن أبقى قوية. فليس لدي خيار آخر، أسعى لزيارتها باستمرار، وكلما اتصلت بي جمعية ما، أروي قصتّها علّ الأمور تتغير“. بهذه الكلمات، تستهلّ شقيقة سلوى غريسة حديثها، مصرّة على ألا يُطوى هذا الملف أو يلفّه النسيان.
كان من المثير للاستغراب أنّ حملات الدعم لسلوى كانت خجولة رغم أنّها تمتلك صداقات نضالية واسعة في المجتمع المدني والأوساط النسوية وصلب حزب ”المسار“. مفارقة أكّدتها شقيقتها بمرارة: ”الجميع يعرف سلوى جيّدا ويعلمون حجم نضالها من أجل حقوق الإنسان. إنّها إنسانة نزيهة ولا تستحّق أن تُودع بالسجن بعد أن كرّست حياتها من أجل الجمعية التي أسّستها لخدمة بلدها منذ سنة 2011“.

في 18 ديسمبر 2024، أصدر حزب ”المسار“ بيانا يطالب فيه بالإفراج عن سلوى غريسة، لتليه جمعية ”تقاطع” من أجل الحقوق والحريات في 10 جانفي 2025، معتبرة أن الاعتقال ”جزء من سياسة ممنهجة لتجريم العمل الجمعياتي عبر توظيف الأجهزة القضائية والأمنية، مما يضع المدافعين عن حقوق الإنسان في موقف هشّ في مواجهة السلطة“.
لتضيف الجمعية في بيانها: ”التضليل الإعلامي في هذه القضية أدّى إلى الانحراف بمسار العدالة، وانتهك الحقّ الأساسي في محاكمة عادلة“.
مع تتالي أسابيع إيقافها وغياب مؤشرات أي انفراج ساسي، بدأت تحركات دعم سلوى غريسة تتبلور حيث نظمت ”الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات“ في 8 ماي لقاء تضامنيا مع النساء السجينات سياسيا، ومن بينهن سلوى.
ظلم السلطة ينهك العائلة
رغم شهور الاعتقال، أظهرت سلوى صلابة وصمودا مبهرين. في البداية كانت في حالة سيئة – كما جاء على لسان شقيقتها – فهي لم تتخيّل نفسها يوما خلف القضبان. أما اليوم، فتخفي آلامها كي لا تزيد من عذاب أحبائها وعائلتها.
تشير ليلى غريسة إلى أنّ ظروف الاعتقال تظلّ مُهينة: ”100 سجينة في زنزانة لا تتجاوز مساحتها 50 مترا مربّعا، بينما تتقاسم ثلاث سجينات سريرا واحدا، أمّا المرتبة فملقاة على الأرض. كما لا تحظى السجينة سوى بحمام أسبوعي واحد ولا يحقّ لها التبضّع سوى مرّة واحدة من المتجر المُلحق بالسجن“. وحول نقلها لاحقا إلى غرفة أقل ازدحاما، تؤكّد محدّثتنا أنّ لا أحد يتأقلم مع الظلم.

رغم المعاناة، تتابع سلوى الأخبار وتدرك خطورة الوضع. لكن المعاناة لا تقتصر عليها فحسب، بل تعاني بناتها من غيابها، فليس لهنّ سواها على حدّ تعبير شقيقتها. مأساة عبّرت عنها ابنتها بلقيس في عيد الأمهات في 25 ماي الفارط حين دوّنت على الفايسبوك قائلة:
كنت أسهَر الليالي لأعد لك القهوة وهدية صغيرة. هذه السنة، كل شيء مختلف. تغيّر كل شيء. أفكر فيك باستمرار. أفكر اليوم في جميع الأمهات المحرومات من أطفالهن. لست وحدي من يمرّ بهذا الألم. هناك أيضا فارس قبلاوي مصباح ونور بالطيّب. علمتنا أمهاتنا أن نكون أقوياء. عيد سعيد لجميع الأمهات مثل سعدية مصباح وسونيا الدهماني، اللتيّن انفصلتا أيضا عن أطفالهما. أفتقدك يا أمي.
بعد مرور سنة على إقتحام البوليس لدار المحامي وايقاف سنية الدهماني على المباشر، تبقى المحامية والمعلقة الاعلامية محل تتبعات قضائية أخرى رغم أنها تقضي عقوبة بالسجن لأكثر من سنتين على خلفية تصريحات إعلامية، في ظل انتقادات تطال هياكل المحاماة لعدم لعب دورها في الدفاع عن المحامين وعن حق الدفاع.
كل يوم اثنين، تتكرّر رحلة ليلى غريسة من بنزرت إلى تونس العاصمة لزيارة شقيقتها. وبين الحين والآخر، تساورها المخاوف: ”ماذا لو حدث لي خطب ما؟ من سيكون إلى جانبها حينها؟”.
نضال سلوى اخترق جدران الزنزانة ليصبح رمزا لمعاناة عشرات الناشطات والنشطاء في مواجهة قضاء بطيء وانتقائي في سياق يعاني فيه المجتمع المدني من الهشاشة ومن الضغوطات الرهيبة للسلطة.
iThere are no comments
Add yours