هو طبيب قدم من تشاد، تسعينات القرن الماضي في إطار برنامج تعاون فني، ليعمل بتونس ويستقر فيها ويتزوج بنتا من بناتها، هو تونسي الانتماء منذ عقود حتى قبل أن يصبح تونسيا بشكل رسمي سنة 2012 حين تحصل على الجنسية. طبيب وناشط مدني تُحاكمه الدولة على خلفية تقديمه العون لأطفال المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء، هذا المناضل مكانه في عيادته بين مرضاه وفي طليعة العمل المدني الإنساني، وليس وراء القضبان.
بعد بيان رئاسة الجمهورية في فيفري 2023، الذي وصم المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء بالجحافل الساعية لتغيير التركيبة الديمغرافية، وحملة التحريض التي شنتها صفحات عنصرية ضدهم انطلقت حملة ايقافات في صفوف النشطاء، على غرار شريفة الرياحي وسعدية مصباح وعبد الرزاق الكريمي وعياض البوسالمي وغيرهم ممن يحاكمون على خلفية نشاطهم في مجال الهجرة. كان عبد الله السعيد قد تعرض بدوره لحملة تحريض قذرة انتهت بإيقافه وبحثه بتهم تتعلق بتسهيل عبور اللاجئين والتآمر على أمن الدولة.
نموذج مثالي لسردية السلطة
يقبع عبد الله السعيد، الناشط المدني ورئيس جمعية أطفال القمر بمدنين، في السجن منذ 12 نوفمبر 2024 على خلفية نشاطه في مساعدة وإغاثة المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء. شأنه في ذلك شأن عشرات النشطاء ومسيري الجمعيات التي تنشط في مجال الهجرة في تونس، والذين وجدوا أنفسهم محل تتبعات قضائية وفي مواجهة تهم خطيرة تتعلق بغسيل الأموال والتآمر على أمن الدولة. هذه الموجة من الايقافات في صفوف نشطاء الهجرة جاءت بعد فترة من التحريض ضد المهاجرين وضد كل من يقدم لهم يد العون من جمعيات ونشطاء ومواطنين. حملة تحريض منظمة انخرط فيها أعضاء بمجلس نواب الشعب ووجوه إعلامية مساندة للسلطة وصفحات فيسبوك احترفت التشويه والتحريض وتتمتع بالإفلات من العقاب، واستهدفت كل من يعمل في مجال الهجرة ويقدم حتى مجرد الأكل والملابس للمهاجرين وأطفالهم.

يواجه عبد الله السعيد تهما تتعلق بغسل الأموال في إطار وفاق والاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وهي التهم المفضلة لدى السلطة اليوم في تعاملها مع نشطاء المجتمع المدني والنشطاء السياسيين مهما كانت توجهاتهم. من خلال ملف القضية نلاحظ أن عبد الله السعيد يُحاكم مع أربعة أعضاء آخرين من مسيري جمعية أطفال القمر بمدنين، يواجه جميعهم تهم غسل الأموال فيما أضيفت إلى عبد الله السعيد تهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي، ربما فقط لأنه تونسي الجنسية من أصل تشادي.
ويعتبر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أن:
وضعية عبد الله السعيد هي أكثر الوضعيات هشاشة مقارنة بكل النشطاء المحالين بموجب سياسات تجريم العمل المدني، لأنه يجسد نهم السلطة في تونس لترويج سردية المؤامرة وهو بالنسبة للسلطة التنميط المناسب لتعزيز هذه السردية، باعتباره أولا تحصل على الجنسية التونسية سنة 2012 وهي فترة تنتقدها السلطة اليوم بشدة وتسميها ”العشرية السوداء“ وكذلك باعتباره أسود البشرة وناشطا في المجتمع المدني ويعمل في مجال الهجرة والعناية بالأطفال المهاجرين بالإضافة إلى نشاطه الرئيسي في جمعية أطفال القمر بمدنين.
يجمع النشطاء في ولاية مدنين على نزاهة عبد الله السعيد والتزامه غير المحدود بخدمة القضايا النبيلة التي يدافع عنها ومنهم فئة أطفال القمر بمدنين، استفاد من تكوينه الطبي وعمله بمستشفيات تونس طيلة ثلاثة عقود، وكان تعامله إنسانيا أكثر منه مؤسساتيا في علاقة بالجمعية التي يديرها. يجمع نشطاء تحدثنا إليهم من جهة مدنين على أن السعيد كان يدعم الجمعيات الأخرى بتوفير الفضاء لاحتضان أنشطتهم ووضع الجمعية على ذمتهم في حال طلبوا منه ذلك وخصص فضاء للجمعيات، كما أنه يتعامل مع المستفيدين من الجمعية من عائلات أطفال القمر بشكل إنساني فريد من خلال عيادتهم وزيارتهم في منازلهم وتوفير كل أدوات الدراسة واللعب وحتى المواد الغذائية بالنسبة للمعوزين منهم. هذا بالإضافة إلى حرصه على العناية بأطفال المهاجرين وطالبي اللجوء خاصة من الأفارقة جنوب الصحراء وتمكينهم من الرعاية الصحية والمواد الغذائية والملابس، اولئك الأطفال الضحايا الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في قارة تعاني عدة دول فيها من النزاعات الأهلية والحروب والمجاعات، رمتهم السبل الصحراوية الساخنة في تونس لعلهم يجدون طريقا نحو ”الرفاه الأوروبي“، لكن الدولة التونسية و”شركائها“ الاوروبيين كان لهم رأي آخر.
صرحت ناشطة في جمعية تُعنى بمرضى السرطان بولاية مدنين أنها عملت مع عبدالله سعيد وتجمعها به سابق معرفة بحكم عمله في الإدارة الجهوية للصحة ورئيس جمعية أطفال القمر، وقالت:
بصفتي ناشطة بالمجتمع المدني كانت لي معه لقاءات وأعمال مدنية وانسانية متعددة فقد ساهم في مساعدة الكثير من أطفال التوحد خاصة ما يهم تأهيلهم، كما ساعد غالبية أطفال القمر في ولاية مدنين من خلال مد المساعدات الاجتماعية من ألبسة و مراهم واقية للشمس كما كانت له مساهمات في مساعدة أطفال المهاجرين غير النظاميين من خلال توفير المساعدات العينية من مأكل وملبس.
وجدنا صعوبة في الحصول على شهادات من نشطاء عملوا مع عبد الله السعيد أو تقاطعوا معه في بعض الأنشطة، ولم نتحصل على بعض الشهادات إلا بعد التعهد بعدم الإفصاح عن هوية المتحدثين. وهو ما يعتبر في حد ذاته دليلا على حالة الترهيب والتخوين التي يتعرض لها النشطاء في الحقل المدني والإنساني في تونس.
وتضيف محدثتنا ”عبد الله سعيد من الجانب الإنساني شخص خدوم ويساعد الغير خاصة الأشخاص ذوي الإعاقة سواء في إطار عمله كطبيب أو ضمن نشاطه في المجتمع المدني، أسس في يوم ما تحالفا بين الجمعيات قصد خدمة الأشخاص ذوي الاعاقة وتقديم الدعم والعون لهم“.

مصطفى الجمالي من الإغاثة إلى الاستغاثة
14/02/2025
نحن إذن اليوم إزاء شخصية تحظى باحترام واسع في الجهة التي يعمل بها كطبيب وينشط فيها كرئيس جمعية أطفال القمر، لكننا أيضا إزاء إنسان يقبع في السجن ويواجه تهما خطيرة على خلفية نشاطه المدني. هو نفسه ذلك الإنسان الذي سخر كل علاقاته وشراكته مع الجهات الرسمية والمنظمات الدولية لخدمة أهالي الجهة والفئة التي أسس من أجلها جمعية أطفال القمر بمدنين. كان بإمكان عبد الله السعيد أن يكتفي بعمله الأصلي كطبيب، شأنه في ذلك شأن غالبية الأجانب المقيمين في تونس ويعملون في قطاعات مختلفة، لكنه سخر كل وقته وجهده لخدمة قضايا يؤمن بها، وها هو اليوم يدفع ثمنا باهظا مقابل ذلك.
قد تبدو سخيفة تلك الاتهامات بالتآمر وتلقي الأموال من الخارج لمساعدة المهاجرين من جنوب الصحراء على دخول الأراضي التونسية بشكل غير قانوني، والحال أن مئات المهاجرين دخلوا إلى تونس عبر الحدود الغربية مع الجزائر ووصلوا إلى المدن الساحلية دون أن تعترض طريقهم دوريات الجيش والحرس. وحسب رمضان بن عمر هي فقط ”رسالة إلى جميع الذين يعملون في مجال التضامن مع المهاجرين“ مضيفا أنه لا ذنب لعبد الله السعيد سوى أنه ضحية سياق سياسي جعل من تضامنه مع أطفال المهاجرين واللاجئين بجهة مدنين جريمة حسب قوله.

العمل الإنساني ليس جريمة
قد لا تكفي هذه الأسطر لتعداد خصال عبد الله السعيد والتنويه بالعمل الذي يقوم به في المجال الإنساني عامة، لكن عندما تكون مكافأة العمل الإنساني السجن والقمع فهذه هي المأساة الكبرى، خاصة عندما نضيف إليها الصعوبات التي يتعرض لها الأطفال المنتفعون من نشاط الجمعية بعد إيقاف رئيسها والتحقيق مع عدد من أعضاء هيئتها المديرة. فعبد الله السعيد ليس الضحية الوحيدة، بل إن أطفال القمر بولاية مدنين هم ضحايا بالدرجة الأولى، ضحايا التهميش الاقتصادي والاجتماعي الممتد منذ عقود إلى يومنا هذا، وأيضا ضحايا السياسات القمعية التي تجرم العمل الإنساني وتحرمهم من خدمات جليلة كانت تقدمها الجمعية.
نجح عبد الله السعيد بفضل جهوده مع المنظمات الدولية والمؤسسات الحكومية في تحقيق بعض المكاسب الهامة لأطفال القمر بالجهة، منها حافلة خاصة مجهزة لنقل أطفال القمر بمبادرة من الجمعية بهدف نقلهم إلى مدارسهم أو إلى فضاء الجمعية للاستفادة من برامج التكوين في مجالات الخياطة واللغات وأيضا لضمان الترفيه والرحلات لفائدتهم في ظروف تتلاءم مع حالتهم الصحية. هذه الشراكة التي أبرمتها جمعية أطفال القمر بمدنين مع وكالة التعاون الفني الألماني تضمنت إضافة إلى الحافلة تركيز قسم الأمراض الجلدية بالمستشفى الجامعي بمدنين مع معداته الطبية بهدف تقديم الرعاية لأطفال القمر بالجهة وتجنيبهم معاناة التنقل مئات الكيلومترات إلى العاصمة لتلقي العلاج. كما قام عبد الله السعيد وجمعيته بتركيز أغشية واقية خاصة للنوافذ والأبواب في المدارس التي تأوي تلاميذ من أطفال القمر وتوفير مكيفات لفائدة عائلاتهم ومساعدتهم على ربط منازلهم بالطاقة الشمسية لتخفيف كلفة استهلاك الكهرباء، خاصة وأن اغلب عائلات أطفال القمر تنتمي إلى محدودي الدخل.
وحسب ناشط في جمعية بيئية بمدنين، رفض بدوره الإفصاح عن هويته، فإن عبد الله السعيد لم يكن يهتم فقط بمن تتابعهم جمعية أطفال القمر بمدنين، بل كان يحرص على دعم الجمعيات الأخرى سواء كانت تُعنى بالأشخاص ذوي الاعاقة أو أطفال التوحد أو مرضى السرطان، بالإضافة إلى الجمعيات التنموية البيئية حسب قوله. وأضاف أن ”عبد الله السعيد سخّر في وقت سابق مقر الجمعية لاحتضان أنشطة جمعيات أخرى واستثمر علاقاته لمساعدة الجمعيات على تنظيم أنشطة وجلب مشاريع يستفيد منها أبناء وبنات الجهة. لم أتعامل في حياتي مع انسان مثل عبد الله السعيد فقد جمع بين النزاهة والاستقامة والعطاء غير المحدود، لذلك كان خبر إيقافه ومحاكمته وفق قانون الإرهاب وغسيل الأموال صدمة كبيرة لنا، الجميع هنا يعرف من هو عبد الله السعيد ويعلم أن لا علاقة له بالتآمر ولا بتوطين المهاجرين“.

عبد الله السعيد، ذلك الطبيب الشهم بشهادة كل من تعامل معه، ليس إلا كبش فداء لتبرير سردية السلطة القائمة على وجود مؤامرة لتغيير التركيبة الديمغرافية، هو الشخصية المناسبة لتبرير سياسات السلطة العنيفة والتمييزية والعنصرية ضد المهاجرين وطالبي اللجوء بتونس حسب المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ورغم أن قضية عبد الله السعيد ومسيري جمعية أطفال القمر بمدنين لا تزال تراوح مكانها بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب منذ منتصف نوفمبر 2024، إلا أن رمضان بن عمر يعتبر أنها قضية ”تمثل اختبارا حقيقيا للقضاء في تونس باعتبار أن عبد الله السعيد يشتغل في نشاطه المدني مع السلط المحلية والجهوية وحتى على مستوى مركزي، يشتغل أيضا مع منظمات دولية لها علاقات وثيقة ومستمرة حاليا مع الدولة التونسية، وسبق أن تم التنويه في تقارير رسمية بالجهود التي تقوم بها جمعية أطفال القمر في مدنين خاصة فيما يخص العناية الفئات الهشة والعناية بالأطفال المهاجرين والمهاجرات“.
هذا بعض مما كان يقوم به عبد الله السعيد لفائدة أطفال القمر أو أطفال المهاجرين، لم يكن ارهابيا ولا متآمرا يدبر للاعتداء على أمن الدولة الخارجي ولا من رواد الغرف المظلمة التي تسعى لعرقلة مسيرة التنمية المُظفرة، بل كان إنسانا يعمل في العلن ويقدم الدعم لمن يحتاجه، دعم لم توفره الدولة لأكثر الفئات هشاشة وهي أطفال القمر أو أطفال المهاجرين. عبد الله السعيد كان يستحق تكريما من الدولة، لا أن يصل بها الجحود والخطاب التآمري إلى مكافأة الحب والشهامة والعطاء اللامحدود بالسجن والمحاكمات الجائرة.
iThere are no comments
Add yours