تدل عديد المؤشرات على نهاية الهدنة الإجتماعية والسياسية التي أعلن عنها الرئيس المرزوڨي غداة اعتلاءه الحكم. فمستشارو المرزوڨي أصبحوا ينقدون الحكومة دون تورية ودون خجل، حتى أن أحدهم طالب صراحة بتغيير وزاري، إن لم يكن استقالة الحكومة برمتها، على إثر فشلها في استباق إعلان إحدى الوكالات العالمية عن تخفيض الترقيم السيادي لتونس.

أولى النيران الصديقة صدرت عن المستشار الأول والناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، عدنان المنصر، الذي نشر مقالا في موقع نواة عنونه “حتى لا تحفر الحكومة قبرها وقبر الثورة”. هذا المقال، وإن دافع عنه صاحبه بالقول إنه رأي شخصي لا يلزم الرئاسة في شيء، يظهر لنا شيئا من التململ الحاصل في محيط الرئيس المرزوڨي حول أداء الحكومة، وخاصة فيما يخص إصلاح قطاع العدالة من جهة، ومحاكمة المسؤولين السابقين من جهة أخرى (والموضوعان مرتبطان ارتباطا وثيقا). عدنان المنصر يحث الحكومة على اتخاذ مواقف أكثر ثورية، يمكنها أن تتعارض مع القانون أو حتى مع القيم التي قامت عليها الثورة. فاستقلال القضاء يصبح، في تحليله، مسألة ثانوية بالمقارنة مع ضرورة معاقبة رموز العهد السابق. وهو ينتقد صراحة انسياق الحكومة في منطق الدولة وتناسي المنطق الثوري الذي اتبعته الأحزاب الحاكمة قبل امساكها بالحكم.

ويظهر السيد نور الدين البحيري، خلال هذا النقد، في موقع المتهم. ويمكن لنا أن نفهم إسراع الناطق الرسمي بنشره على الشبكة الإلكترونية (عوض إرساله إلى الصحافة المكتوبة وانتظار 48 ساعة حتى نشره) كوسيلة للضغط على وزير العدل حتى يتخذ خطوات ثورية لم تعد تحتمل التأجيل، هذا إن لم يكن ذلك لاستباق مثل تلك الخطوات واظهارها كنتيجة لموقف الرئاسة (وإن كان موقفها غير رسمي). على كل حال، سارع السيد وزير العدل بإقالة 82 قاضيا 5 أيام فقط بعد صدور مقال المنصر، فهل كان ذلك صدفة ؟

المستشار المكلف بالشؤون الإقتصادية لدى الرئيس المرزوقي فتح هو الآخر نيران رشاشه نحو الحكومة، بعد ثلاثة أيام من صدور مقال عدنان المنصر. “كيف نفعل حتى لا نسقط بين فكي الكماشة مثل اليونان ؟”. وجواب السيد محمد شوقي عبيد كان واضحا : إقالة بعض الوزراء، تكوين حكومة بعدد أصغر من الوزراء، تغيير محافظ البنك المركزي، المحافظة على بعض الوزراء الناجحين… ولا يتوانى السيد شوقي عبيد عن التلويح بضرورة استقالة رئيس الحكومة في صورة فشله في دفع الملف الإقتصادي إلى الأمام وطمأنة الجهات الدولية. هذا المقال الذي بدا فيه السيد شوقي عبيد ملما كما يجب بالملف الإقتصادي اختفى بعد أيام من صدوره على صفحات الفايسبوك، وذلك بعيد أن أعلن السيد شوقي عبيد أن الموضوع أعطي أكثر مما يستحق، وأنه، على خلاف بعض التخمينات، لا يبحث عن منصب وزاري في صورة تغيير وزاري وشيك.

ولئن أخذ السيد شوقي عبيد على محمل الجد مواقف وكالات الترقيم الدولية، فإن ذلك لم يكن شأن زميله أيوب المسعودي، الذي أعلن على مدونته وعلى صفحات نواة أن ستاندارد اند بوورس “لن تعاقب الشعب الذي ثار”. وقد انتقد في مقاله عدم استقلالية هذه الوكالة واعتمادها على مواقف سياسية خلال تقييمها للوضع في تونس. ومن خلال هذا التحليل، يمكن أن نستشف نقدا مبطنا للحكومة التي دافعت منذ البداية عن مبدأ تسديد الديون ومبدأ الإنصياع لقواعد اللعبة العالمية. فالحكومة لم تختر تجميد سداد الديون لمدة ثلاث سنوات كما يقترحه مستشار رئيس الدولة. كما أن اختيارا مثل هذا، إن تم تبنيه في الوقت الحاضر، سيكون تراجعا عن تعهدات الحكومة المعلنة منذ توليها الحكم، وسيظهر كأنه ردة فعل سلبية على تردي الترقيم السيادي.

آراء السادة مستشاري الرئيس المرزوقي، بقدر ما هي ناقدة للحكومة ومتعارضة معها، بقدر ما هي متضاربة أيضا فيما بينها. ولا أدل على ذلك موقف المستشارين عبيد والمسعودي من قضية الترقيم السيادي. ونشر الآراء الشخصية للمستشارين بهذا الشكل تدعو إلى الإستغراب، وأيضا إلى القلق. ولئن تداركت الرئاسة هذا الأمر بمذكرة داخلية يذكر فيها السيد مدير الديوان جميع المستشارين بواجب التحفظ (راجع الشروق 29 ماي)، فإن هذه التسريبات قد وقعت فعلا ولا يمكن نفي أثرها على الساحة السياسية. ثم لماذا توجه الرئاسة نقدها إلى الحكومة عبر صفحات الفايسبوك ومواقع الإعلام البديل ؟ ألم يكن من الأجدر أن تناقش مثل هذه المسائل بين فريقي العمل في قرطاج والقصبة ؟

إن المتأمل في العلاقة بين مؤسسات الدولة يلاحظ اليوم عدم قدرة الرئاسة على تعديل الحياة السياسية ولعب دور الحكم بين الفاعلين السياسيين، سواء كان ذلك بين السلطة والمعارضة أو بين مكونات السلطة ذاتها. ويمكن أن نعزو ذلك إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية. الأسباب الذاتية تتمثل أساسا في عدم قدرة الرئيس المرزوقي على الترفع عن التجاذبات الحزبية، من ذلك مثلا تدخله في الشؤون الداخلية لحزب المؤتمر ومناصرته لشق دون آخر، وكذلك انتقاده للمعارضة في عديد المناسبات، خصوصا خارج البلاد، في حين أنه رئيس كل التونسيين وملتزم بالحياد الحزبي. أما الأسباب الموضوعية فتتمثل في محدودية صلاحيات الرئيس، الذي انتخبه المجلس التأسيسي بعد محاصصة حزبية بين الثلاثة أحزاب الرابحة في الإنتخابات. والنظام المؤقت للسلط لا يكفل للرئيس إقالة الحكومة. وكيف يقيلها وهو غير منتخب من الشعب، بل منتخب من نواب الأغلبية ؟

إن مواقف مستشاري الرئيس تكشف عن عمق الأزمة المؤسساتية التي نعيشها حاليا. فنحن نعيش في ظل نظام برلماني دفعت إليه النهضة دفعا، وهو النظام الذي تريد أن ترسخه في الدستور القادم. إلا أن الملاحظين ما فتئوا يكررون أن النظام البرلماني غير مستقر بطبعه، وهو ما ينعكس على واقع العلاقة بين مؤسسات السلطة اليوم. فماذا لو انهار التحالف اليوم لسبب أو لآخر (مذكرة حجب ثقة، انشقاق النواب عن الاحزاب التي يمثلونها، إلخ)، هل هنالك آليات تضمن استمرارية الدولة ؟ وكيف يمكن لحكومة أن تحكم بـ40 % فقط من المقاعد في المجلس التأسيسي ؟ إن انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب، هو الكفيل وحده، في ظل نظام رئاسي أو نصف برلماني، بإعطائه صلاحية التدخل لتحوير الحكومة عند مواجهة الصعوبات، ولاستمرارية السلطة عند سقوط الحكومة أو حل المجلس المنتخب عند الأزمات الكبرى.

لقد انبنت الترويكا على مجموعة من المسلمات لعل أهمها :

ـ أن وزن أحزاب الترويكا في المجلس التأسيسي ثابت لا يتغير، وهو ما كذبته الأيام بعد الإنشقاقات العديدة لنواب من المؤتمر ومن التكتل

ـ أن التفاهم الحاصل بين الثلاثي الحاكم سيتواصل طيلة المدة الإنتقالية، وسينتج سلطة متجانسة، متناغمة في سياساتها ومتضامنة في مواقفها، وهو ما يتضح خطأه يوما بعد يوم، إذ كثيرا ما نسمع الشيء ونقيضه، فضلا عن التعارض القائم بين الرئاسة والحكومة كما أسلفنا

ـ أن حكومة نابعة من الإرادة الشعبية عبر صناديق الإقتراع سينصاع لها الجميع وستتمكن في ظرف وجيز من إعادة الأمن والإستقرار.

إن معركة الشرعية انتهت منذ تولي الثلاثي الحاكم السلطة، وتدور رحى المعركة الحالية بين الحكومة والواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي للبلاد. وفشل السلطة في هذه المواجهة القائمة يعيد إلى الصدارة مشكلة الشرعية التي لم تكن إلا شرعية مؤقتة ومشروطة.