سليانة يوم 27 نوفمبر 2012، مدينة بلا حركة، بلا نشاط، فالمحلات التجارية و الشركات الخاصة و الإدارات العمومية مغلقة، مظاهر الإضراب العام واضحة.

عندما وصلنا إلى الشارع الرئيسي رأينا الكثير من الناس مجتمعين أمام مقر الولاية و مطلبهم الأساسي هو رحيل الوالي لأنه لم يجعل من التنمية في الجهة أولويته و لم يستجب لمطالب أبناء الجهة كما أنه يتعالى عليهم و لا يستمع لهم.

كان المحتجون أمام الولاية قد شاركوا في المسيرة السلمية التي إنطلقت من مقر المكتب المحلي للإتحاد الجهوي للشغل، هؤلاء المحتجون قدموا من المعتمديات الإحدى عشر التابعين لسليانة فما جمعهم كان كلمة “Dégage” للوالي الموجود داخل مقر الولاية و الذي رفض الخروج. و قد كانوا من الجنسين و من مختلف الأعمار، كما أن الحضور الأمني كان كثيفا بإعتبار التعزيزات التي جاءت تحسبا لأي طارئ.

خلال العشر دقائق الأولى لوصولنا كان كل شيء يقول أن التحرك سلمي بالفعل. تقدمنا لنرى ماذا يحدث بالضبط في الصفوف الأمامية بما أن المحتجين، حسب ما ترائى لنا من المكان الذي كنا فيه (أقل من 50 متر من مقر الولاية)، قريبين جدا من أعوان الأمن.

و فجأة، و دون سابق إنذار، و دون أن نفهم السبب فقط فهمنا أن الأمن قام بردة فعل، كل من كان أمام الولاية لاذوا بالفرار في الإتجاه الذي كنا فيه و من بينهم إياد الدهماني القيادي بالحزب الجمهوري و نائب المجلس التأسيسي على ولاية سليانة، و بما أنه كان قد صرح بنفسه أن حزبه يساند الإضراب العام تحدثنا معه فقال: “أنا شاركت في المسيرة السلمية بإعتبار مساندة الحزب الجمهوري للإضراب الجهوي العام إلي دعالوا المكتب المحلي للإتحاد العام التونسي للشغل، لأننا ندعم المطالبة برحيل الوالي بما أنو يغلب في مصلحة حزبو على أولويات الجهة و إحتياجاتها…” و أضاف: ” التحرك كان سلمي حتى بدا الأمن بإستفزاز المتظاهرين و بداو بإلقاء الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين…”

لم نستطع أن نكمل الإستماع لإياد الدهماني لأن الوضع بدأ يتصعد، حينها لم نسمع إلا جملة واحدة تكرر:” أهربوا…أهربوا…راهم بداو يضربوا بالغاز…” و بالفعل بدأت تتهاطل علينا القنابل المسيلة للدموع من كل الجهات و لم نفهم من أين مأتاها بالضبط و كأن السماء أمطرت غازاتا خانقة. تفرقنا…و كل من كان معه مرافق أضاعه وسط الزحام و المتظاهرين الذين يفرون هاربين و لا يعرفون إلى أين يلجأون.

بعض المتظاهرين كل ما ابتعدوا يعودون من جديد إلى مكان الإحتجاج أمام مقر الولاية، و البعض الاخر لم يجد سلاح دفاع سوى أن يقتلع حجارة الرصيف و يفتتها ليرميها على أعوان الأمن. كثر رشق الحجارة الذي قابلته أعداد كبيرة من قنابل الغاز المسيل للدموع التي ألقيت بطريقة مكثفة و عشوائية تستهدف كل تجمع بالشارع الرئيسي أين يوجد مقر الولاية و حتى بالأنهج المتفرعة عنه، و سيارة قوات الأمن لم تتوقف عن الدوران حول المفترق القريب من تمركز التعزيزات الأمنية لتخويف أهالي سليانة الغاضبين و لإلقاء الغاز المسيل للدموع.

في هذه الأثناء كنا قد التجأنا إلى أول نهج فرعي قريب من مقر الولاية، و هنا تحدثنا مع خميسة، شابة عضوة في جمعية المواطنة و التنمية بالشمال الغربي، التي أكدت لنا “دعم و مساندة المجتمع المدني و النقابات و إتحاد الشغل و المواطنين لهذا الإضراب العام…” و قالت أن: ” ولاية سليانة ما شافت شي م التنمية و تعيش ظروف إقتصادية و إجتماعية صعيبة و ولادها بطالة و ما شفنا حتى مشروع تعمل… هذا الكل و الحكومة ما قدمت حتى سياسة بديلة للخروج من الوضع المتأزم…” و تضيف و هي كلها غضب و إنفعال جراء ما يحصل: ” أحنا قدمنا مطالب عديدة للوالي أما هو ما استجابش ليها و الأكثر من هذا الكل و يستقبلنا في بيروه… هو ديما حاقرنا و أحنا والي يتصرف معانا بحقرة ما يلزمناش في سليانة.”

رافقتنا خميسة لتدلنا على مخرج خاصة و أنه تم إلقاء قنبلة غاز، علينا، على بعد نهجين من مقر الولاية. و نحن نبتعد سمعت مواطن يصرح لزميل صحفي: ” التنمية في سليانة صفر…”

و في الأنهج الفرعية للشارع الرئيسي رأينا حالات إختناق و أشخاص يحاولون إسعاف المختنقين، منهم شاب (في العشرينات من عمره) في حالة شبه إغماء لأنه استنشق كميات كبيرة من الغاز و معه من يحاول إسعافه. حينها قيل لنا أن هناك حالات إصابة نقلت إلى المستشفى الجهوي بسليانة، فتوجهنا إلى هناك و نحن نتصور أن كل إصابة كانت نتيجة الإختناق بالغاز لنفاجأ، عند وصولنا قسم الإستعجالي بالجهة، أن الإصابات هناك كانت نتيجة الرش المخصص أساسا لصيد الحيوانات.

عندما وصلنا رأينا أولى حالات الإصابة، حينها لم يكن المستشفى قد امتلأ بعد، فكانت الأولى (كهل في نهاية الأربعينات) عندما بدأ بالحديث معنا ذكر أنه أنه عون أمن و قد أصيب مع من أصيب و لكن عندما شغلت التسجيل الصوتي و طرحت عليه السؤال من جديد:” أنت تعمل بالجيش الوطني؟”، لأنه كان يرتدي الزي الرسمي المخصص للجنود، أنكر و قال: ” لا، أنا أعمل في مندوبية الفلاحة” فهمنا حينها أنه فضل الإنكار نظرا لحساسية عمله. المهم أنه بخصوص ما تعرض له قال: ” …أنا كنت مروح م الخدمة على موتوري و بالصدفة كي أنا تعديت من بحذا الولاية بدات تخوض وعلى تلفيتي تضربت بالرش في عيني…” نزع الضمادة التي كان يمسكها بيده ليغطي عينه اليمنى و أضاف قائلا: ” شوف… عيني شوف… أنا توا نحكي معاكم و أنا نتوجع أما يلزمني نصبر ما عندي ما نعمل…” سألناه لماذا ينتظر و ما إذا كان تلقى على الأقل الإسعافات الأولية اللازمة قال لنا: “ما عملولي شي هاك ترا… قالولي استنى هانا كلمنا الطبيب و قال إلي الدنيا مسكرة ما ينجمش يتعدى بسهولة أما هاو باش يجي…” و أكد لنا: ” تي أنا حتى كعبة الرش خرجتها وحدي من عيني” و أخرجها من جيبه ليريها لنا و ليؤكد صحة ما قال.

استغربنا، عند سماعنا لهذا العذر، كيف يتأخر الإسعاف الطبي لمثل هذه الحالات و تقديم تبريرات واهية، فمع العلم أن الإشتباكات حينها كانت فقط على مستوى مقر الولاية و بعض الأنهج الفرعية القريبة منه و لكن لم تكن بتلك الدرجة التي تشل حركة السير بوسط المدينة حيث قمنا بجولة، دون أي صعوبة تذكر، لإكمال عملنا الصحفي و للقيام بإستجواب بعض الأطراف التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالتصعيد الذي تشهده المدينة.

و بالعودة إلى الحديث عن حالات الإصابة، كانت الحالة الثانية (شاب في العشرين من عمره) على جسده اثار عديدة للرش خاصة رقبته و ظهر، قال: ” كي تضربت كنت واقف قدام الدار نتفرج في إلي صاير و ما كنتش من بين المحتجين و مضربتش البوليسية بالحجر…”

على مقربة من مقر الولاية، قمنا بجولة أخيرة مع حوالي الساعة الثانية بعد الزوال، فرأينا المحتجين مايزالون مشتبكين مع قوات الأمن. و في طريق العودة، لم تفارق أذهاننا كل المشاهد التي رأيناها: تحرك سلمي ثم تصعيد مفاجئ لتبدأ سلسلة لا متناهية من الإشتباكات و العنف المتبادل و حالات إختناق بالغاز وحالات إصابة بالرش. بهذه الصور عدنا و كذلك برائحة الغاز المسيل للدموع الملتصقة بثيابنا و بأذهاننا أيضا.