المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

قرّر الاتّحاد العام التونسي للشغل الدخول في اضراب وطني عام في كلّ القطاعات يوم الخميس 13/12/2012 ، على خلفيّة الاعتداء على مقرّه المركزي وعلى مسؤوليه بالعنف الشديد من قبل ما يسمّى ميليشيّات النهضة ورابطات حماية الثورة ويعتبر هذا القرار مفاجئا ، وخطيرا في نفس الوقت وهو تحوّل كبير في الاحداث المتصاعدة التي تشهدها تونس منذ انتهاء الموعد المقرّر لانجاز الدستور وانهاء المرحلة الانتقاليّة وهو 23 اكتوبر .

لقد كان من المقرّر ان تقف الهيئة الادارية الوطنية للاتّحاد والتي انعقدت في الاربعاء 05/12/2012 ، في حدود اضرابات جهويّة متفرّقة للاحتجاج على الاعتداء الذي تعرّضت له أكبر منظّمة نقابية في تونس ، وللضغط على الحكومة من اجل الدفع في اتّجاه حلّ رابطات حماية الثورة ، التي يعتبرها جل الفاعلين السياسيين بتونس غير قانونيّة ومهدّدة للانتقال الديمقراطي ،وهي بمثابة الحرس الثوري الذي يسعى الى تعويض مؤسّسات الدولة . ولكنّ تصريحات مفاجئة للغنّوشي تتهّم الاتّحاد وتدافع باستماتة عن تلك الرابطات سرّعت الاحداث وتسبّبت في قرار مفاجئ بالإضراب الوطني العام ، وهو امر يمكن اعتباره متعمّدا ؟؟
أسباب الازمة

لئن كان السبب المباشر هو حادثة الاعتداء التي جدّت يوم الثلثاء 04/12/2012 ، فانّ هناك العديد من الاسباب الأخرى بعضها يعود الى علاقة الاتّحاد بالسلطة ،وبعضها حزبي، منها المعلن ومنها المخفي .

فامّا في ما يتعلّق بعلاقة الاتّحاد بالسلطة فيمكن القول انّ التجاذبات والتوتّرات حالة عاديّة ، تتعلّق بالمفاوضات الاجتماعيّة وبسعي الاتّحاد الى ايجاد مكانة قويّة له في المفاوضات وفرض خياراته على حكومة يعتقد انّها ليست قويّة بالشكل الكافي ، وامّا الحكومة فانّها تسعى الى فرض وجودها وان تحقّق استقرارا اجتماعيّا يمكّنها من ايفاء تعهداتها الدوليّة والمالية وجذب الاستثمار ، وقد اخذ هذا الجدل منحى تصعيديّا شهد أوجه في احداث سليانة والتدخّل العنيف لبوليس الدولة تجاه المواطنين ، ولكنّه ابقى باب الحوار مفتوحا ووصل كلا الطرفان في النهاية الى امكانية التهدئة وتوافقات حول المشهد السياسي المقبل ومن ضمنه امكانية تغيير الحكومة ، وقد ترجم هذا الامر في الاتّفاقية التي ابرمت صبيحة قرار الاضرام بين الاتحاد والحكومة حول الزيادة في الاجور .

وامّا الاسباب الدفينة او المخفيّة فيمكن ان نستنتجها من جملة من الاحداث والمتغيّرات نسوقها في ما يلي :

– وجود خلاف بين شقيّ حركة النهضة ، الاوّل الحكومي بقيادة امينها العام ورئيس الحكومة حمّادي الجبالي ، والثّاني بقيادة رئيس الحركة وخطّها الأصولي ، راشد الغنّوشي الحبيب اللّوز ، وتصاعدة حدّة التناقضات وطفت الى السّطح أحيانا وخاصّة بعد حادثة السّفارة الامريكيّة ، واحداث دوّار هيشر التي اطلقت فيها قوّات الحكومة النّار على سلفيين ممّا تسبّب في قتل بعضهم ، هو الامر الذي أزعج شقّ النهضة الأصولي ودفع الى قطع العلاقة بين حركة النهضة والذراع السلفي في تونس .

– دعوة الاتّحاد العام التونسي للشغل ، الى مبادرة الحوار الوطني وتمسّكه بحضور حزب نداء تونس ، بينما رفضت النهضة ذلك وقاطعت الحوار ، واعتبرت انّ الاتحاد يتقارب سياسيّا مع حزب النداء ، ولكنّ ورغم مقاطعة حركة النهضة رسميا فقد حضر امينها العام ورئيس حكومتها الحوار وهو ما اعتبر في حينها محاولة منه لايجاد حلول سياسية تقوي موقعه في السلطة من ناحية ، وتقوي موقعه داخل الحركة على حساب رئيسها وشقّها الاصولي .

– تصاعد حدّة الخلافات داخل الترويكا الحاكمة ، خاصّة فيما يتعلّق بالازمات المتتالية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة حول مسألة صلاحيّات كلّ منهما ، وآخرها التصريحات القويّة التي أدلى بها الرئيس حول عدم نجاعة عمل الحكومة ، وحول ضرورة حلّها وتعويضها بحكومة كفاءات وطنيّة .

– تراجع شعبيّة حركة النهضة ، وتصاعد موجة الاحتجاجات الاجتماعيّة ، على خلفيّة الخيارات الخاطئة للحكومة ، وخاصّة منها مسألة التعيينات في المسؤوليّات العليا للدولة ، والتي تظهر في اغلبها تعيينات تقوم على الولاء العائلي ( أصهار واقرباء قيادات الحركة وخاصّة منهم ، رفيق عبد السلام صهر الغنوشي) .

– سعي تقليدي من قبل حركة النهضة ذات المرجعيّة الدينيّة ، الى اقصاء اتّحاد الشغل من المعادلة السياسيّة او على الاقلّ ضرب استقلاليته وتدجينه ، فمن ناحية المرجعيّة ترفض الحركة العمل النقابي ، ومن ناحية السياسة المباشرة لم تجد لها يوما موقعا في صفوفه كما تعتبره مهدّدا لاستدامة وجودها في السّلطة انعكاساتها

لقد عاد تقاسم الادوار وازدواجيّة الخطاب التي مارستها حركة النهضة في النهاية عليها بالوبال ، وانتج انقاساما حقيقيّا في مواقفها يتمحور حول الاختلاف في المصالح الظرفية والمباشرة لقياداتها ، خاصّة مع تراجع شعبيّتها لحساب قوى أخرى تعتبرها حركة النهضة تمثّل خطرا عليها في الانتخابات القادمة ، وهي حزب نداء تونس ، والجبهة الشعبيّة ، وترى حركة النهضة انّ سندهم في الانتشار هو الاتّحاد العام التونسي للشغل ، في حين ترى حكومتها انّ بامكانها استمالة الاتّحاد وايجاد توافقات معه من اجل ضمان استمرارها .

وعموما يبدوا انّه تمّ الزج بالاتحاد العام التونسي للشغل ، وبالحكومة معا في معركة تصفية حسابات حزبيّة داخلية لحركة النهضة ، من ناحية ، وتصفية حسابات سياسيّة حول الاستحقاق الانتخابي القادم ، ففي حين تسعى الحكومة الى ايجاد تهدئة ، وتتفاوض مع قيادة الاتّحاد ، اقام راشد الغنوشي ندوة صحفيّة غير طيّبة النيّة ، قام فيها باتّهام الاتحاد وبالدعوة الى تفتيش مقرّاته ، وهو ما اعتبر استفزازا لا مبرّر له دفع بالاتّحاد الى اقرار الاضراب العام ، ويبدوا انّ الغنوشي يسعى الى سحب البساط من تحت اقدام الجبالي وحكومته واستعادة السيطرة الكاملة على الامور ، بقيامه بالبحث عن امكانية تهدئة بقيادته ووفق شروطه ، وقد رفض أمين عام الاتّحاد أي لقاء مع الغنوشي معتبرا حركة النهضة عدوّا قد تلصباه العداء خاصّة مع تمسّك رئيسها برابطات حماية الثورة ، ونجد اليوم انّ رئيس النهضة يعقد اجتماعا مع رئيس الدولة حمّة الهمّمي وشكري بالعيد في قصر قرطاج لتباحث القضيّة ، وفي نفس الوقت الذي يتهمهم فيه حمّادي الجبالي ووزارته بالتخريب المتعمّد وبالعداء للثورة .

ولا يجب ان نغفل المتغيّرات الدوليّة والاقليميّة التي تتحرّك على اساسها العديد من الاطراف ، ولا دور كلّ من الجزائر والمناصرين للنظام السوري في دفع الاوضاع للتوتّر في منطقة الربيع العربي ، وخاصّة منها مصر وتونس ، وقد تزامنت التوتّرات في البلدين مع سعي أمريكا المحموم الى حشد الرأي العام الدولي لضرب سوريا عسكريّا بدعوى امكانية استعمال النظام للأسلحة الكيماويّة ( وهي نفس التهمة التي وجّهت لنظام صدّام حسين ) ، ودور الجزائر وبعض القوى الاقليمية الاخرى الذي يسعى الى اعادة توزيع الاوراق وخلق توازنات جديدة في المنطقة ، لا يخفى علينا انّ حركة النهضة بتونس جعلت نفسها معزولة نسبيّا نتيجة اخطائها المتكرّرة في سياستها الخارجيّة ولم يبقى لها من حليف قوي في المنطقة غير النظام المصري وحركة الاخوان ، ولانّ هذه الاخيرة تعاني من ارتفاع حدّة التوتّر الداخلي واوضاع صعبة جدّا ، فانّ حركة النهضة لم تتمكّن من اتّخاذ موقف واضح وجريء تجاه الاحداث الداخليّة خوفا من تطورّ الاوضاع الى اسوء سيناريوهاتها في مصر بما يجعلها وحيدة تماما في مواجهة اوضاع داخليّة واقليميّة متأزّمة جدّا .

وبالإضافة الى ذلك يبدو انّ رأي القوى العظمى ، القائل بدعم حركات الاخوان في تونس ومصر لتحقيق الانتقال الديمقراطي وخلق الاستقرار ، بدأ يتحوّل في اتّجاه اعادة النظر فيها خاصة بعد طريقة الاعلان الدستوري في مصر واحداثها الاخيرة ،كما هو الشّان بالنسبة الى الاقصاء السياسي ودعم حركة النهضة لميليشيّات ” رابطات حماية الثورة ” وعودة قضيّة التطرّف الى السطح وعدم وضوح مسألة الدولة المدنيّة ، وهذا ما عبّر عنه كلّ من لافروف وكلينتن في اجتماع منظمة الامن والتعاون الأوروبي الذي احتضنته العاصمة الايرلندية دبلن .

وللخلاصة ، ولانّ الاتحاد العام التونسي للشغل قوّة اساسيّة في المشهد السياسي التونسي ، ولأنّه ليس قوّة موحدّة فقيادته تتشكّل من العديد من ممثلي الاحزاب السياسيّة ، خاصّة القوى اليسارية والقوميّة ، فانّ المواجهة بينه وبين حركة النهضة متوقّعة ، كما هو الشان بالنسبة لمحاولة استغلاله والزج به في معارك لتعديل موازين القوى السياسيّة او تصفية الحسابات ، ولكن يبدوا هذه المرّة انّ المواجهة قد وصلت حدّها الاقصى وهي في افضل الأحوال بالنسبة لحركة النهضة قد تدفعها الى اسقاط الحكومة وخروج شقّ الحركة الحركي بأقل الخسائر ، او ان تجرّها الى حلّ رابطات حماية الثورة ومتابعتهم قضائيا (وهم ذراع الحركة شبه العسكري والجماهيري) وهو ما يمكّن الجبالي من استرجاع شرعيّة سياسية واخلاقية .

وممّا لاشكّ فيه انّ البوادر الاولى للإضرابات الجهوية الناجحة (بين نسبة 90 و100 بالمائة ) تجعلنا نقول انّ الاضراب العام سيحقّق نجاح كبيرا وهو ما سيكلّف ميزانيّة حكومة الجبالي ماليا وسياسيّا الكثير من الخسائر ، ولذا فانّ القول بانّ حركة النهضة قد تجد نفسها الخاسر الاكبر في معركتها الساّفرة مع اتّحاد الشغل في كلّ الحالات يكون هو الاستنتاج الأكثر تعبيرا عن الواقع .

محمّد نجيب وهيبي