أذكر هذه المعلومات كصحافي من حقه الامتناع عن ذكر مصادره، وهو عرف معمول به دوليا

” كل ما يتطرق إليه التأويل لا يدرك إلا بالبرهان ” ابن رشد

بقلم عبدالباقي خليفة *

لم أكن أعلم أن ما كتبته في مقال ” حديث العودة إلى تونس ” سيثير كل ذلك اللغط، وكل تلك الانتفاخات التي حذر منها نيتشه، على رذالته. لكني علمت أن ما عبرت عنه بالعرض الاجتماعي كان جوهرا نفسيا لأشخاص يفتقدون للبناء الادراكي. واكتشفت أن بعضهم يعاني وبشكل يدعو للرثاء من ” السيناستيجا ” ( تداخل الحواس ) وبعضهم الآخر مما يوصف في علم النفس ب” التلبس “.Capgros delusion

يقال أن بهلولا ( كحالتي ) شتم حاكما وهو يمر في الشارع، فأراد الحرس أن يبطشوا به فمنعهم الحاكم. واستمر البهلول في الشتم، والحاكم لا يعيره اهتماما،حتى إذا ذكر البهلول عيبا فيه استشاط الحاكم غضبا وخرج عن طوره، وأمر بسحل البهلول. وعندما سئل عن السبب كشف عن سر الغضب. والذين ردوا على مقال ” حديث العودة إلى تونس ” يشبهون ذلك الحاكم المعقد بعقدته.

في تونس ينكر النظام كل مظالمه، وينكرالتعذيب، وينكر خنق الحريات، وينكر اضطهاد المعارضة، و ينكر تعديه على حقوق الانسان. فكيف لا ينكر من ظل يظن أنه يملك ما يرتزق به،لتعويض ما خسره دون أن يعلم به أحد.

التعاون مع الاستخبارات التونسية، ليس جديدا، وليس اكتشافا، وبالتالي ليس كذبا. وإنما حقيقة واقعة، يعرفها أصحابها حق المعرفة. فلماذا تعطى جوازات سفر للبعض، ويحرم البعض الآخر، رغم أن جنايتهم في عرف النظام أقل بكثير ممن أصبحوا أقرب إليه من خيوط حذائه ؟!!!

هل هناك من المنكرين من يجيب على هذا السؤال.

لوكان الحصول على جواز السفر والعودة لتونس، لا يحتاج سوى لمراجعة السفارة التونسية في هذه العاصمة أو تلك، لحصل جميع التونسيين بالخارج على جوازات السفر ولما كانت هناك مشكلة اسمها ( المنفيون ) أو ( المهجرون ) أو ( الهاربون ) بتعبير أصدقاء النظام الجدد. أو بالاحرى أصدقاء الاستخبارات الجدد.

لا أتكلم من فراغ.. ففي سنة 2000 حاول أحدهم الحصول على جواز سفر، وبالفعل حصل عليه، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت اتصالات الاستخبارات به ! فهل هذه حالة معزولة.. وعندما أخبرهم بطريقة مهذبة أنه لا يلتقي بمن طلبوا منه معرفة أخبارهم، لم يجددوا له جواز سفره. ليس ذلك فحسب، بل لدينا معلومات مؤكدة من شهود عيان أكدوا وجود اتصالات مستمرة بين عدد من الحاصلين على جوازات السفر والعائدين لتونس والاستخبارات التونسية. كما هناك زيارات لهذه الاستخبارات لعواصم أوروبية كثيرة للقاء من ليس لهم أعراض صالحة للتبرع.

ومما زاد من يقيني هو الردود المرتبكة جدا، إلى درجة أن بعضهم لم يستطع أن ينقل اسمي صحيحا، فعوض من عبدالباقي خليفة، كتب عبدالقادر الخليفي. وحتى من عاضدوه رددوا كلمة خليفي. وبعض الردود مضحكة وتدعو للرثاء كما أسلفت. وراح البعض يخبط خبط عشواء،متقمصا ثوب المحلل السياسي،ولكن على طريقة المونولوغ.وهي بالتالي شكل من أشكال التهريج المسرحي للاضحاك. كتصوير النهضة وهي مرتبكة لأن النظام أطلق سراح قداتها من السجون. ليس ذلك فحسب وإنما خوفها، ويا للسخافة، من إقدام النظام على خطوات اصلاحية باتجاه الانفراج أو ما وصفها ب ” تنقية المناخات “. وزاد عليها ( ولله في خلقه شؤون ) أن ” الجهاز التنظيمي للحركة قام بعملية تعبئة “. ترى متى أبغلت المخابرات التونسية بهذه المعلومات الخطيرة، والمستقاة من مصادر موثوقة !!!

أحد الذين ردوا على المقال، صورني تحت تأثير مرض الالتباس الذي يعاني منه أني بلغت أرذل العمر، وأن النظام الذي تجاوز الخمسين أصغر مني. كتب ذلك بوثوقية، كوثوقية نفي تقديم خدمات أمنية من قبل الكثير من أصدقاء الاستخبارات الجدد.

البعض بدا كما لو كان متحسرا على حصول المنفيين على اللجوء السياسي الذي يحتمون به. ولم يقل لنا من يقتات عبر وجوده في المهجر. من تدفع الاستخبارات التونسية لهم رواتب كموظفي دولة ( معلومة مؤكدة، وأذكر هذه المعلومات كصحافي من حقه الامتناع عن ذكر مصادره، وهو عرف معمول به دوليا ) أم من ينتظرون متى تنفرج الاوضاع في تونس ليعودوا لوطنهم. لو تم ذلك لما عادوا لاوربا كما يفعل البعض، سواء لاستئناف عمله، أو لوجوده في وظيفة جديدة. ومن يخاف يا ترى من انهاء مشكلة المنفى، من يعانون منها، أو من يقبضون الرواتب من الاستخبارات. ( لا أسمي ولا أتهم ولا أعمم ).

مشكلة الكثيرين وأحد أسباب انهيارهم السياسي والأمني وحتى الاخلاقي، هو اعتقاد بعضهم أنهم كانوا يخدمون، حزبا سياسيا، أو جماعة أو تنظيم، ولم يكونوا يربطون نشاطهم بآفاق أرحب، هي خدمة الاسلام من خلال الجماعة والتنظيم والحزب. لذلك تصبح لدى المتلبسين، خدمة الاسلام، وصاية على الدين والوطن وعلى الجغرافيا والتاريخ وعلى الخير وعلى مكارم الاخلاق، ومحاكمة للناس، كما ورد في ذلك الهذيان. ويتواصل التلبس ( وليس التلبيس، وإن كانا أبناء عم ) ليصور ارهاب الدولة وحملات الاضطهاد التي لا تزال متواصلة في تونس بأنها ” إساءة التدبير والتقدير ” من قبل الجماعة. وأكثر من ذلك فرار من البلاد، كما لو كانت المعركة متكافئة، أو المواجهة بقوة الحجة ومقارعة الفكر بالفكر،وليس عصا البوليس في مواجهة الفكر.

البعض عاب على المقال خطأ في كتابة آية من كتاب الله ( سبحان من لا يخطئ ولا يسهو ). وذكرني بذلك القاضي الذي لا يحكم بما أنزل الله، ومع ذلك كان يمتحن بعض الشباب في مسائل شرعية تتعلق بأهل الاختصاص ليثبت أنهم لا يفقهون في الدين !!!

ذلك الذي يدعو إلى الرشد ولم يكن راشدا في رده

. وأضحكني عندما قال ” لا يستحق الرد ” في معرض الرد !!! إنه التلبس في أبشع وأقذع صوره.

لم يذكر في مقال ” حديث العودة إلى تونس ” الأظافر الوسخة، ولا العرق النتن. حيث لم يلتزم الناقلون بالامانة في النقل، ولم أكن أقصد ما ذهبوا إليه. ولا أدري هل بامكان هؤلاء فهم ما سأقوله الآن.. هناك ما يوصف بالشخصية والذات.. فأنا هنا أتحدث عن الشخصية ولا أتحدث عن الذات، فالانسان مقدس في ذاته. لكن شخصيته متغيرة ومتقلبة.. ويمكن أن نبسط ( بتشديد السين ) القضية أكثر، حيث فهم البعض ما فهمه أسلافهم عن ابن رشد رحمه الله. فيمكن أن نسمي الشخصية بالافعال والتصرفات، فنقول أن المقصود بالاثقال والعرق والأظافر هي الشخصية المتغيرة والمتبدلة، أو الحالة النفسية، في تفعيلاتها المسولة والامارة. وفوق ذلك لا يوجد تقابل متوازي، وإنما فيما يتعلق بالحماعة.

———-

والمثل الشعبي يقول ” من باعك بالفول بيعه بالقشور ” والقشور ترمى في النفايات أو الزبالة، وتذهب في المجاري، فهل يغضب الأول أو الثاني. أرجو أن المثل الشعبي، أخرج البعض من الدوخة.. أرجو.

* كاتب وصحافي تونسي