وهكذا يجد التونسي نفسه من جديد أمام ثنائية تطبيق القانون واحترام الدستور ودفع عجلة الإقتصاد والإستثمار، علما وأن الخيار الثاني سيأخذ بدوره سندا قانونيا من خلال مشروع قانون المصالحة الوطنية الذي تنكب الحكومة حاليا على إعداده من أجل التسريع في المصادقة عليه في برلمان يملك فيه الحزب الحاكم الأغلبية. هذا في حين تنادي هيئة الحقيقة والكرامة بضرورة احترام شرعيتها وأهليتها في أخذ القرارات المتعلقة بالمصالحة الوطنية.

تعاني تونس منذ ثورة 14 جانفي 2011 من مسألة التأطير القانوني للقرارات السيادية الضرورية لإدارة المرحلة خصوصا في ما يتعلق بالتعامل مع الملفات الخاصة بمخلّفات النظام السابق. فبين الرّغبة الجدية من طرف الشعب التونسي وشريحة هامة من السياسيين في طي صفحة الماضي عبر المصالحة مرورا بكشف الحقائق والمحاسبة من جهة، وعمل بعض الأطراف على دفن بعض ملفات الفساد التي تورط داعمي بعض الأحزاب من جهة أخرى، لازالت الحقيقة بعيدة كل البعد عن متناول التونسيين رغم مرور أكثر من أربعة سنوات على حدوث الثورة.

ورغم أنّ مسار المحاسبة والمصالحة قد انطلق مع بداية أشغال هيئة الحقيقة والكرامة التي باشرت أشغالها في دراسة ملفات المتورطين منذ شهر جوان الفارط، فإن حكومة نداء تونس وحلفائها ارتأت أن تنتهج مسارا جديدا للعدالة الإنتقالية يخص تحديدا المصالحة الإقتصادية بدعوى تسريع الإجراءات لدفع الإقتصاد وتسهيل عودة بعض رجال الأعمال إلى نشاطهم. وهكذا يجد التونسي نفسه من جديد أمام ثنائية تطبيق القانون واحترام الدستور ودفع عجلة الإقتصاد والإستثمار، علما وأن الخيار الثاني سيأخذ بدوره سندا قانونيا من خلال مشروع قانون المصالحة الوطنية الذي تنكب الحكومة حاليا على إعداده من أجل التسريع في المصادقة عليه في برلمان يملك فيه الحزب الحاكم الأغلبية. هذا في حين تنادي هيئة الحقيقة والكرامة بضرورة احترام شرعيتها وأهليتها في أخذ القرارات المتعلقة بالمصالحة الوطنية.

الإطار القانوني للمصالحة الوطنية ومسار العدالة الإنتقالية

في خطاب له بمناسبة الإحتفال بعيد الإستقلال يوم 20 مارس الفارط، أعلن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ضرورة انتهاج مسار المصالحة والعفو من أجل ضمان حق الجميع في عدالة وطنية من أجل الإسهام الجدي في البناء. وقد أوضح مستشار رئيس الجمهورية محسن مرزوق خلال تصريحات إعلامية أن مبادرة رئيس الجمهورية ستتم في إطار مشروع قانون المصالحة الوطنية الذي تعمل الحكومة على إعداده وتقديمه للمصادقة عليه صلب مجلس نواب الشعب قبل موفى شهر أفريل الجاري. وردا على الإنتقادات التي طالت هذا الإجراء أكد محسن مرزوق أنه من حق الحكومة ورئاسة الجمهورية أن تصدر قوانين تسهل عملها وذلك استنادا على الفصل 62 من الدستور الذي ينص على الآتي:

تُمارَس المبادرة التشريعية بمقترحات قوانين من عشرة نواب على الأقل، أو بمشاريع قوانين من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة. ويختص رئيس الحكومة بتقديم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات ومشاريع قوانين المالية. ولمشاريع القوانين أولوية النظر. الفصل 62 من الدستور

واعتبر عدد من أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة وعدد من السياسيين أن هذه الإجراءات المفاجئة والمستعجلة من طرف رئيس الحكومة غير صائبة وتحمل في طياتها تعديا على صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة التي تعمل منذ تأسيسها على رسم مسار قانوني وفق قانون الهيئة وقانون العدالة الإنتقالية. ويعزز الفصل 148 من الدستور أحقية الهيئة في النظر في ملفات المورطين في الفساد وفي كيفية إرساء المصالحة بين المتهمين والضحايا.

تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن. الفصل 148، النقطة 9

وقال عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي في تصريح لنواة أن « قرارات رئاسة الجمهورية بخصوص المصالحة الوطنية ليست مرفوضة ولكن القانون والدستور يحتّمان بأن تمر عبر هيئة الحقيقة والكرامة. » ويشغل الكريشي خطة رئيس لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لهيئة الحقيقة والكرامة والتي تعمل على قبول ملفات رجال الأعمال والمتورطين الراغبين في المصالحة من أجل إبرام الصلح بينهم وبين الضحية في التحكيم الفردي وبينهم وبين المكلف بنزاعات الدولة فيما يتعلق بالقضايا التي تخص انتهاكات في حق الدولة. ويؤكد الكريشي أن هذه اللجنة ستقبل كل مطالب الصلح الخاصة بالفترة المتراوحة بين غرة جويلية 1955 و31 ديسمبر 2013 بدون أية استثناءات وأن حصول الصلح سيطرح عن المتهمين كل القضايا والتتبعات العدلية.

بين الأغلبية البرلمانية للحزب الحاكم والأهلية القانونية والدستورية لهيئة الحقيقة والكرامة

يعتبر تأكيد الحكومة على عملها على إعداد مشروع قانون المصالحة الوطنية وعرضه قريبا على مجلس نواب الشعب تحدّيا ذو نتائج غير واضحة لحد الآن على مسار العدالة الإنتقالية الذي تعمل هيئة الحقيقة والكرامة على تطبيقه. غير أن التبريرات التي قدمها مستشار رئيس الجمهورية محسن مرزوق يمكن أن تكون مفهومة لدى بعض الأطراف خصوصا منها تلك المتعلقة بربح الوقت للإستفادة من نشاط رجال الأعمال الذين يعانون من الحجر على أموالهم وتعزيز الثقة لدى المستثمرين الأجانب بخصوص خلق الحكومة الجديدة لمناخ اقتصاي جيد. ولكن هل تبرر هذه التعلاّت ما وصفه بعض الخبراء ببوادر خرق جديد للدستور والقانون وهل تفرض الوضعية الإقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد تنفيذ قرارات رئاسية استعجالية من هذا القبيل؟

كان محسن مرزوق قد أكّد من خلال عديد التصريحات الإعلامية أن مشروع قانون المصالحة الوطنية يهدف إلى التعجيل في تحرير الملفات العالقة للمستثمرين التونسيين من هيمنة المعارك السياسية والإجراءات الإدارية البطيئة خصوصا وأن مسار العدالة الإنتقالية صلب هيئة الحقيقة والكرامة سيمتد لسنوات. ووضح مرزوق أيضا أن هذا المشروع لن يشمل رجال الأعمال الذين لازالوا تحت طائلة القضاء بل يهتم فقط بالأشخاص الذين برأهم القضاء ولازالوا يعانون من مشاكل ذات طابع مالي واقتصادي كالتحجير على أموالهم أو منعهم من السفر.

وبخصوص هذه التصريحات وضح عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي لنواة أن الإجراءات التي أعلن عنها محسن مرزوق، وإن كانت في الظاهر مقبولة وإيجابية إلا أنها تدخل في إطار العمل على مواجهة الأمور بطريقة اعتباطية تتخالف تماما مع ما جاء في الدستور كما ذكرنا سابقا وأيضا بما جاء في الفصل الأول من قانون العدالة الإنتقالية الذي يؤكد على تمش واضح يبدأ بكشف الحقيقة أولا ثم المحاسبة ثم المصالحة وهو ما لم يذكره مرزوق في تصريحاته وينص هذا الفصل على الآتي:

العدالة الإنتقالية على معنى هذا القانون هي مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الإعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الإنتهاكات والإنتقال من حالة الإستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.الفصل 1 من قانون العدالة الإنتقالية

وأضاف الكريشي أنه من المهم أن تخضع المصالحة الوطنية لآليات واضحة سبق وأن وضعتها هيئة الحقيقة والكرامة من خلال تكليف أشخاص مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والخبرة من أجل لعب دور الوسيط بين طرفي عملية الصلح حتى لا تسقط العملية في فخ التجاذبات السياسية والمحاباة، وبالتالي فإن هيئة الحقيقة والكرامة هي الهيكل الوحيد القادر على إنجاح هذا المسار. وقال الكريشي أن لجنة التحكيم والمصالحة صلب الهيئة قد ناقشت مسألة المصالحة مع رجال الأعمال مع رئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي أبدى استعداده لدعم عمل هذه الهيئة في ما يخص دور الدولة في تسريع إجراءات المصالحة مع خصومها. وكان الكريشي قد وصف مشروع قانون المصالحة الذي تعده رئاسة الجمهورية بمثابة « سحب البساط » عن هيئة الحقيقة والكرامة وتعطيلا لأشغالها.

مشروع المصالحة الذي اقترحه رئيس الجمهورية لقي ردود فعل مختلفة من طرف مكونات الساحة السياسية في تونس. أهم الردود جاءت من طرف رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي بارك هذه الخطوة بما تعنيه هذه المباركة من تأكيد على إمكانية تصويت كتلة الحركة الإسلامية بالإيجاب على مشروع هذا القانون رغم تحفظ الغنوشي على مسألة ضرورة كشف الحقيقة أولا.

زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي كان من أبرز الرافضين لهذه الخطوة حيث أكد في حديث له لإحدى الصحف الأسبوعية أن « الجبهة لن تقبل استغلال العمليات الإرهابية التي ضربت البلاد مؤخرا من أجل الإلتفاف على مسار العدالة الإنتقالية وتفويت الفرصة في معاقبة الأطراف التي أجرمت في حق البلاد ». وأكّد حمة الهمامي في نفس الإطار أن مشروع هذا القانون يخدم أطرافا بعينها ترغب في الإفلات من المحاسبة سواء من أتباع النظام السابق أو من بعض مكونات الترويكا مما يفسر موقف راشد الغنوشي المساند لهذا الإجراء.

تمسك كل من رئاسة الجمهورية بما تملكه من أغلبية برلمانية من جهة وهيئة الحقيقة الكرامة بما تملكه من شرعية قانونية بحق كل طرف منهما بأهليته لقيادة مسار المصالحة الوطنية سيحتم حصول تصادم بين الطرفين ستظهر معالمه بعد إصدار مشروع هذا القانون وتناول محتواه بالدرس والتحليل من طرف خبراء القانون والدستور. ولكن تبقى إمكانية تشارك الطرفين في تنفيذ هذه المصالحة واردة من خلال استحداث آليات أو لجان حكومية تتفاعل مع هياكل الهيئة للتشاور أو توحيد الجهود من أجل إنهاء هذه المهمة في أسرع الآجال ودون الوقوع في فخ سيطرة الأغلبية البرلمانية التي من المحتمل أن تحسم الموقف وتشتت الجهود لتجد البلاد نفسها من جديد في دوامة الشد والجذب واستنزاف الوقت والجهد دون طائل.