المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

boussole-petrole

بقلم: شكري بن عيسى (*)

لا ندري الى اليوم هل ان حملة “وينو البترول؟” التي انطلقت الاسبوع المنقضي كانت مخططة من طرف ما ام كانت تلقائية؟ لكن الثابت انها خلقت زخما معتبرا على صفحات الفايسبوك بحكم حساسية القضية وارتباطها بارقام بقيت في خانة المسكوت عنه ما اطلق العنان لكل الارقام المضادة التي وصلت حد الاسطوري بأن تونس تعوم على بحر من البترول.

هذه القضية لقيت صدى واسعا بحكم ارتباطها اساسا بالسيادة الوطنية ولكن كذلك بالامن القومي والعدالة الاجتماعية والجهوية وايضا التنمية وايضا بحكم ارتباطها بالشفافية (معرفة الحقيقة) اظافة للحوكمة الرشيدة (ظهور حالات فساد وانحراف بالسلطة مؤكدة). لكن المشكل اليوم هذه القضية المركزية ارتفعت فيها بسرعة المضاربة السياسية والتوظيف ويخشى مثل الكثير من القضايا الجوهرية ان ينتهي بها الامر الى “التصفية” لان طريقة ومنهج التعاطي كان انتهازيا او غبيا.

وكم رفعت سابقا عديد الشعارات ولكن كانت نهايتها “القبر” النهائي، وكأن الامر يندرج ضمن خطة مسبقة لاحتواء غليان وديناميكية واحتقان شعبي في اتجاه اخماده وجعله بعد مدة هباء منثورا، بعد ان يركب الموجة رموز الانتهازية وقطعان السطحية والسذاجة.

الحركات الاحتجاجية الاجتماعية في تونس صارت تقريبا تسير وفق قوانين ونواميس ثابتة تتكرر وفق نفس الشروط وتتبع مسارات معلومة عند الباحثين، ولكن الاخطاء غالبا ما تتكرر بنفس الطريقة والمطبات والخنادق توضع تقريبا في نفس المواقع، وحتى “الابطال” هم نفسهم الذين يقودون دائما للفشل ويرفعون في منسوب الاحباط بتراكم الاخفاقات.

لا يمكن لوطني وثوري وحريص على استقلال وطنه ان لا تهزه الغيرة في موضوع الثروات الطبيعية المهدورة ككل، والقضية انطلقت منذ الاحتلال والانقلاب على ثورة التحرير مع “الفلاقة” الذين فجروا انتفاضة حمراء في وجه المحتل الذي التف على المقاومة بتسليم “الاستقلال” لوكلاء مع استمرار الهيمنة والتحكم في السيادة الوطنية تحت مسميات جديدة صلب “بروتكول” الاستقلال المنشور (الاستقلال في نطاق التكافل: l’indépendance dans l’interdépendance) وصلب اتفاقيات الاستقلال التي تم التستر على نشرها بعد انقضاء مدة 50 سنة على امضائها.

نهب الثروات الوطنية بما فيها البترول تطور باشكال مختلفة ودخل على الخط السنوات الاخيرة رجال المال والفساد تونسيين انخرطوا في المنظومة الدولية الاستعمارية المهيمنة على مقدرات الشعوب. وهو ما زاد في اثارة الحساسية وخلق رأيا عاما متزايدا تتصاعد نقمته بحدة. لكن المشكل اليوم في شكل تأطيره وفي بوصلته وفي مواجهة المطبات والفخاخ التقليدية التي تجهض الامر شأن القضايا السابقة.

والحقيقة ان استمرت مقاربة المسألة بطريقة شعبوية ووفق نفس المنهج الغوغائي.. وكما راينا نفس الوجوه التي تردد اغاني “الفيراج” وغيرها في قضايا مصيرية وتزيّد في الثورية وعادة ما تجلب الكوارث بتصريحاتها التخريبية وتعطي وسائل الهجوم للاعلام المضاد للثورة ولرموز الفساد، فان المصير لن يكون بعيدا عما سبق.

وبكل وضوح فتسلق رابطات حماية الثورة وحزب المؤتمر ريادة الحراك المتفجر وتوظيفه سيفضي دون شك الى موت القضية.. كما ان رفع الشعارات الجوفاء وعدم التركيز على المحاور العميقة سيؤدي الى نفس المأزق.. القضية بالاساس قانونية وتقنية.. ولابد ان ان تكون الصدارة لهذه المحاور.. وان توضع خطة اعلامية اتصالية فعالة والا فنحن لا زلنا في مستوى الفعل الطفولي الساذج.. والتخبط التقليدي.

وبقدر قيمة الزخم الشعبي الميداني فلا مناص من التركيز على هذه المحاور المركزية، ولا بد من التوثيق بدرجة اساسية وجمع كل الوثائق بمختلف الطرق المتاحة من خرائط وعقود ودراسات واعتماد قانون النفاذ للوثائق الادارية ضروري. كما ان اللجوء للقضاء الاداري لا مناص منه واعتماد الخبراء القانونيين والفنيين في المناجم والطاقة لا مهرب منه.

اليوم هناك تقارير رسمية تدعم وجود الفساد والتفريط في الثروات الوطنية. دائرة المحاسبات وهيئة الرقابة الادارية والمالية اصدرت تقارير دقيقة وجردت عديد الجرائم المرتكبة وهي عناصر اليوم تزيد من شرعية المطالب في الصدد.

ما يجب الاشارة اليه ان تسييس القضية وتوظيفها حزبيا لن يتيح عناصر النجاح للحراك المطالب بسيادة الشعب على ثرواته. والشخصيات الحساسة لبعض الاطراف السياسية تصدت اليا للامر بمجرد تصدر بعض الرموز المعروفة لقيادة حركة المطالبة بالاستقلال المنجمي والطاقي. واليوم مكي هلال والفة يوسف ومحمود البارودي كانوا في الموعد للتشكيك واحباط العزائم والتيار بالمؤكد سيرتفع منسوبه.

احزاب الحكم وعلى راسها النداء ستتصدى وستعمل على اجهاض الحركة. اما النهضة التي تصدت للفصل 13 من الدستور قبل فرضه ووافقت على مشروع انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة برغم مخالفته الدستور فلا ينتظر منها شيئا في الصدد ان لم تتحول للشق المعادي خاصة وان تصريحات العريض لا تزال مسجلة بنفي الفساد في قطاع المناجم والطاقة.. فاكراهات السلطة ومستوجبات الدفاع عن البقاء “تفرض” الاستماتة في الدفاع عن مصالح القوى المهيمنة حتى لو اعتدت على سيادة الوطن.

القضية كما قضايا التهرب والغش الضريبي وانشاء ضريبة على الثروات ومقاومة الفساد فعلا معقدة ورهاناتها عالية، ولا يمكن الحقيقة مقاربتها بطرق تقليدية بدائية في مقابل خصوم شرسين يمتلكون ادوات السلطة والمال والاعلام والقضاء.. فنقدمها اليهم بسذاجتنا او بغبائنا على طبق من ذهب.

(*) قانوني وناشط حقوقي