صادق مجلس نواب الشعب في جلسة عامة انعقدت أول أمس على مشروع قانون متعلق بالمجلس الأعلى للقضاء برمّته بـ132 نعم، دون احتفاظ ودون رفض. ورغم حالة الإجماع الغير معهودة التي سادت أثناء التصويت على فصول القانون فإن جمعية القضاة التونسيين عبرت عن رفضها للتنقيحات التي أجرتها الجلسة العامة على النص الأصلي للمشروع، وهو ما أثار الجدل مجددا حول هذا القانون الذي رافقته الكثير من الطعون والتعديلات، وارتحل منذ شهر مارس 2015 بين قصر الحكومة ولجنة التشريع العام بمجلس النواب والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. ويظل جوهر الخلاف داخل هذا القانون متعلقا أساسا بمبدأ استقلالية القضاء.

مسار محفوف بالطعون

سبق وأن طعنت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القانون مرتين في دستورية مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء بعد المصادقة عليه في جلستين عامتين من قبل مجلس نواب الشعب. كانت المرة الأولى في 8 جوان 2016 عندما أصدرت تقريرا أشارت فيه إلى أن «لجنة التشريع العام خلال تعهدها بالمبادرة التشريعة للحكومة المتعلقة بمشروع القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء تولت استبعاد هذا المشروع برمته وقامت بصياغة مشروع قانون أساسي جديد يتعلق بذات الموضوع مخالف تماما في روحه وفلسفته ومضمونه وبنيته وأجزاءه وأقسامه وعدد فصوله للمشروع المقدم من الحكومة». وقد أعادت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين الطعن في مشروع القانون بتاريخ 22 ديسمبر 2015، وقد جاء في تقريرها :

ان الصيغة الجديدة لمشروع القانون المصادق عليه بمداولة جديدة لم يقع فيها تجاوز الخلل الإجرائي الذي يُرفع بالعرض الوجوبي لمشروع الحكومة للجلسة العامة.

علاوة على قرار الهيئة شهد مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى القضاء تجاذبا داخل البيت الحكومي، وقد سبق وأن صرّح وزير العدل السابق محمد الصالح بن عيسى أن عدم موافقته على مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء كان سببا في إقالته، لأنه رفض الحضور في الجلسة العامة المخصصة لمناقشة القانون، نظرا لأنه لم يكن مقتنعا بنص القانون على حد وصفه.

من جهتها تمسكت كتل المعارضة -خصوصا الجبهة الشعبية- طيلة الفترة السابقة برفضها لمشروع القانون والتأكيد على عدم دستوريته، في صيغتيه الحكومية وبالصيغة التي توصلت إليها لجنة التشريع العام بمجلس النواب. وقد شكل التوافق الأخير الذي شهدته جلسة أول أمس معطى جديدا بررته مختلف الكتل بضرورة الإسراع بإنشاء المجلس الأعلى للقضاء لاستكمال سن قوانين أخرى وإرساء بقية الهيئات الدستورية.

جمعية القضاة متمسكة بمشروع الحكومة

أكدت روضة القرافي، رئيسة جمعية القضاة التونسيين، في حديث خصت به نواة أن الجلسة العامة المنعقدة يوم الأربعاء الفارط لا تعدو أن تكون عرضا صوريا للمشروع الذي تقدمت به الحكومة في 12 مارس 2015، مشيرة إلى أن هذا الأخير هو الأقرب إلى الدستور والأضمن لاستقلالية القضاء، خلافا للمشروع الذي صاغته لجنة التشريع العام بمجلس النواب. وأضافت القرافي :

إن اللجنة البرلمانية أفرغت المشروع الحكومي من محتواه وأثقلته بتعديلات ساهمت في المس من استقلالية الهياكل القضائية من خلال تحجيم صلاحيات القضاة.

وأشارت رئيسة جمعية القضاة التونسيين إلى ضبابية الأسلوب الذي عُرض به مشروع القانون على الجلسة العامة، مؤكدة أنه غابت عنه النقاشات والمداولات ولم يكلّف النواب أنفسهم عناء شرح التعديلات التي تم إجراءها على النص الأصلي، على حد تعبيرها.

ومن الملاحظ أن لجنة التشريع العام المتعهدة بالمبادرة التشريعية للحكومة مازالت محل تشكيك من قبل جمعية القضاة خصوصا وأن تقريرها الأخير أكد لا دستورية المشروع الحكومي وأوصى الجلسة العامة برفضه، وفي هذا السياق أكد عبد المومن بلعانس، النائب عن الجبهة الشعبية، أن «النواب لم يأخذوا بعين الاعتبار التوصية التي رفعتها لجنة التشريع العام وشرعت الجلسة العامة في مناقشة فصول قانون المجلس الأعلى للقضاء مع الإستئناس بالطعون والتعديلات التي حظيت بتوافق مختلف الكتل النيابية، وهو ما يمثل مدخلا لتجاوز الخلل الإجرائي الذي أوصت بتجاوزه الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين».

أما بخصوص التحفظات التي أبدتها جمعية القضاة التونسيين فقد أشار بلعانس إلى أنه لا يمكن منح صلاحيات مطلقة للقضاة وجوهر الخلاف مع الجمعية يكمن في التساؤل التالي: «هل هو مجلس أعلى للقضاة أم للقضاء» على حد تعبيره. وأضاف النائب عن الجبهة الشعبية أن مشروع القانون المصادق عليه يعبّر عن القضاء الذي لا يقتصر فقط على دور القضاة وإنما يشمل كل المعنيين بهذا الشأن على غرار الخبراء وعدول التنفيذ والمحاسبين والمحامين.

الممارسة أفضل من النصوص

انتقد أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد الدور الذي لعبته لجنة التشريع العام مشيرا إلى أنه ليس من مشمولاتها المصادقة على مشاريع القوانين وإنما تُوصي الجلسة العامة بالمصادقة من عدمها أو المصادقة مع إدخال تعديلات. وفي هذا السياق طالب سعيد بمراجعة النظام الداخلي الذي وضعه النواب لأنه أصبح يمثل جزءا من الأزمة على حد وصفه.

وبخصوص التنازع بين لجنة التشريع العام والهياكل القضائية أفاد قيس سعيد «إن القضية لا يمكن حصرها فقط في الجوانب الإجرائية، وإنما يكمن جوهرها في الاستقلالية الفعلية والكاملة للقضاء، الذي يعتبر خيرا من ألف دستور، ولعل المثال البريطاني يشكل أفضل نموذج في هذا المضمار». وأضاف بأن الجانب التشريعي مهم لتحقيق استقلالية القضاء ولكن تظل الممارسة أفضل ضمانة لفرض هذا المبدأ، وهو ما يتوجب على القضاة إثباته من خلال التمسك باستقلاليتهم الفعلية، مؤكدا في هذا السياق «كم من نصوص جميلة لم تحقق غاياتها وكم نصوص منقوصة تم تجاوز نقائصها».

إزاء هذه المواقف المختلفة والمسار المعقد الذي شهده القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء يظل مصيره مرتبطا بقرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، الذي من المنتظر أن تبت في دستورية فصوله في المدة القادمة، فهل ستجدد الطعن فيه للمرة الثالثة على التوالي أم ستصادق عليه ليتم تفعيله؟