بعد المقال الأخير الّذي نشرته على موقع نواة حول سجلّ رئيس الحكومة الجديد، السّيّد يوسف الشّاهد، وخطورة ما تفضحه مراسلة داخليّة للسّفارة الأمريكيّة (قسم الفلاحة تحديدا) من خدمات أسداها رئيس حكومة تونس الجديد للخارجيّة الأمريكيّة واستراتيجيّاتها في التّحكّم في الاقتصاديّات العالميّة ومجالي الزّراعة والتّغذية تحديدا، وبالنّظر لحيويّة هاذين القطاعين المرتبطين بالأمن القوميّ لأيّ دولة، ارتأيت أن أعمّق البحث أكثر في الأعمال البحثيّة والمهنيّة لرئيس الحكومة المكلَّف، وهي أعمال تطرح أسئلة محيِّرة ومحرجة سأتناولها تباعا في هذا المقال، أسئلة لم تتطارحها ”المعارضة الوطنيّة“ قبل أن تتسابق إلى إمضاء وثيقة قرطاج يتيمة المضامين. أتمنّى من هذه ”المعارضة الوطنيّة“ أن تستعمل هذا المقال كعمل جاهز لا يحتاج منها جهدا كبيرا لطرح عدد من الأسئلة على رئيس الحكومة المكلّف قبل أن ينال ثقة الأغلبيّة المتَّفِقة مسبقا عسى أن تضعه وأعضاده أمام مسؤولياّتهم التّاريخيّة وحتّى يكون الرّأي العامّ على بيّنة من الأمر.
لن أعود في هذا المقال على الخلفيّات الحزبيّة والطّبقيّة وحتّى العائليّة لرئيس الحكومة فهي كلّها تقييمات ذاتيّة وجزء من تكتيك تعويم وتمييع لقضيّة هي أخطر وأجلّ من ذلك بكثير، سأحاول قدر المستطاع أن ألتزم بصرامة التّحليل العلميّ والمنطقيّ انطلاقا من أبحاث علميّة ووثائق رسميّة منشورة للعموم خُطَّت بأيدي رئيس الحكومة نفسه لإثارة عدد من التّساؤلات والأسئلة. وهي أسئلة لا أوجِّهها إلى مجرّد موظَّف سابق في السّفارة الأمريكيّة كما يقول البعض تبريرا وتهوينا من المسؤوليّة الأخلاقيّة والسّياسيّة لمواطن تونسيّ يفترض أن يعلي مصالح تونس ويحميها مهما كان موقعه، أنا أوجّه هذه الأسئلة إلى رئيس حكومة تونس المكلّف الّذي سيمسك مقاليد السّلطة ومصائر البلاد والعباد وسيتّخذ قرارات ستؤثّر حتما في حاضر ومستقبل الشّعب التّونسيّ. هذا هو المنهج الّذي سأتّبعه، أسئلة موجّهة إلى رئيس حكومة انطلاقا من وثائق ”علميّة“ و”رسميّة“ خطّها بنفسه منذ ما لا يزيد عن خمس سنوات وهي بذلك ملزمة له فكريّا وأخلاقيّا، أقول هذا حتّى لا يعود المبرِّرون إلى تعليلاتهم الواهية المتهافتة وحتّى يفهموا أنّنا إزاء أحد أضلع مثلّث السّلطة في تونس لا مجرّد ”موظّف“ سابق في السّفارة الأمريكيّة وهي صفة لا تبرِّر لأحد خدمة مصالح تتناقض مع مصلحة الوطن.
المراجع، المصطلحات والمنهجيّة
المراجع
لن أقتصر في هذا المقال على الوثيقة الّتي تناولتها في المقال السّابق والّتي كانت عبارة عن مراسلة داخليّة للسّفارة الأمريكيّة بتونس بل سأتجاوزها لنركّز على جملة من الوثائق المنشورة والمتاحة للعموم وهي:
- الوثيقة أ : تقرير عدد TS 1101 بتاريخ 25 فيفري 2011 لصالح الشّبكة العالميّة للمعلومات الفلاحيّة GAIN (Global Agricultural Information Network)، وهي وثيقة من إعداد السّيّد يوسف الشّاهد:
- الوثيقة ب : تقرير عدد TN 1414 بتاريخ07 جويلية 2014 لصالح الشّبكة العالميّة للمعلومات الفلاحيّة GAIN (Global Agricultural Information Network)، وهي أيضا وثيقة من إعداد السّيّد يوسف الشّاهد:
وهما تقريران حديثان للشّبكة العالميّة للمعلومات الفلاحيّة GAIN (Global Agricultural Information Network) التّابعة لوزارة الفلاحة الأمريكيّة أُعِدَّتا من قبل عدد من موظّفي قسم الخدمات الخارجيّة للفلاحة الأمريكيّة FAS (Foreign Agricultural Service)، من بينهم السّيّد يوسف الشّاهد (أنظر الوفيقتين أ و ب ص 1). وتتعهّد هذه الشّبكة برصد وتجميع المعلومات في كلّ العالم حول قطاعات الفلاحة والتّغذية والسّلوكات الاستهلاكيّة من أجل رسم استراتيجيّات وخطط ترمي إلى تدعيم تفوّق الفلاحة والصّناعات الغذائيّة الأمريكيّة ونجاعة اكتساحها للأسواق الدّوليّة.
المنهجيّة
سأحاول اتّباع منهجيّة بسيطة وواضحة وهي كالآتي : بعيدا عن التّشكيك في كفاءة الأشخاص ونزاهتهم، وبغضّ النّظر عن ضعف السّجلّ البحثيّ لرئيس الحكومة الكلّف، يبدو أنّ السّيّد يوسف الشّاهد على اطّلاع جيّد بواقع الفلاحة التّونسيّة والاحتياجات الغذائيّة والسّلوكات الاستهلاكيّة لل”سّوق التّونسيّة“ في مجالي الزّراعة والتّغذية، وهو ما يظهر جليّا في النّصائح والمعلومات الّتي يتضمّنها التّقريران لصالح الاقتصاد الأمريكيّ. سأتناول هذه التّقارير الآن من وجهة نظر نقديّة وتحليليّة اعتمادا على أبحاث علميّة ومعلومات وإحصاءات متوفّرة للعموم متوجّها إلى كاتبها باعتباره اليوم رئيس الحكومة المكلّف الّذي سيمسك بزمام القرارات السّياديّة ليكون في خدمة المصالح العليا للدّولة التّونسيّة. الهدف من الأسئلة ليس التّشكيك بقدر ما هومحاولة طرح الأسئلة لنعرف إن كان بمقدور السّيّد يوسف الشّاهد قلب الآية واستغلال معارفه وعلاقاته وخبراته من أجل خدمة الشّأن التّونسيّ أو على الأقلّ تجنيب البلاد الكوارث والمحن الّتي عرفتها بلدان أخرى نتيجة السّياسات الاقتصاديّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة؟
الأسئلة
فهل سيعمل رئيس الحكومة المكلّف على سدّ هذه الثّغرة احتراما لمبدأ الشّفافيّة والوقاية وحماية للأمن الصّحيّ للتّونسيّين وحتّى لا نكون ”ملكيّين أكثر من الملك“ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نظرة المواطنين الأمريكيّين للمنتوجات المعدّلة جينيّا ومطالبتهم بوضع علامات على مثل هذه المنتوجات؟
يبيّن السّيّد يوسف الشّاهد في نفس الصّفحة وجود فراغ قانونيّ بخصوص استيراد البذور والشتلات وكذلك الأغذية والأعلاف الخام إلى جانب المنتوجات الغذائيّة المعدّة للاستهلاك.
السّؤال الّذي يطرح نفسه بإلحاح إلى رئيس الحكومة المكلّف هو إلى متى سنواصل العمل بدون إطار تشريعيّ ينظّم نفاذ الموادّ المعدّلة جينيّا إلى تونس؟ هل يمكن أن نواصل العمل وسط هذا الفراغ القانونيّ. ويبقى السّؤال الأهمّ بصفته رئيسا مكلّفا هو ما الّذي تنوون فعله في هذا المجال تحديدا؟ هل ستضعون جانبا علاقاتكم ”السّابقة“ مع السّفارة الأمريكيّة وكلّ الخدمات الّتي أسديتموها إلى موظِّفكم السّابق؟ هل ستكونون فوق هذا التّضارب الفادح في المصالح؟
ولكن في نفس التّقرير ص7
وهذا يطرح سؤالا عن مدى استقلاليّة وحياديّة تركيبة هذه اللّجنة وحدود عمل وتدخّلات قسم الفلاحة في السّفارة الأمريكيّة وما هو الفرق بين حاجة البلدان لتسويق منتوجاتها والتّخابر من أجل خدمة مصالح أجنبيّة على حساب مصالح وطنيّة؟
وإن تحلّى التّقرير ببعض الصّراحة في الإشارة إلى عدم استفادة صغار الفلّاحين من هذه السّياسة، فإنّه يشير إلى إمكانيّة تمتّعهم بهذه المنتوجات عبر دعم من الدّولة التّونسيّة، أي، وبصيغة أكثر وضوحا، يريد كاتب المقال من الدّولة التّونسيّة أن تتوخّى سياسة يتخلّى من خلالها المزارعون عن بذورهم ”الأصليّة“ لصالح بذور مستوردة ومعدّلة جينيّا مع طلب دعم تلك المنتوجات من قبل الدّولة فيما يخصّ صغار الفلّاحين، أي أنّ الدّولة التّونسيّة يمكن أن تصبح مطالبة بدعم الاقتصاد الأمريكيّ ومنتوجاته. هذا علاوة على البعد الأخطر والخفيّ في هذه الفقرة الّتي تتغاضى عن المخاطر المخفيّة. وهي ربّما فرصة لتذكير السّيّد رئيس الحكومة المكلّف وكاتب الوثيقة بتجارب سابقة في هذا المجال لا أظنّه يجهلها. هل سمعت يا سيّدي عن تجربة الأرجنتين مع مزيل الأعشاب “Roundup” ؟
هل تعلم أنّه في سنة 1996، سمحت حكومة كارلوس منعم في الأرجنتين باستعمال بذور الصّويا المعدّلة وراثيّا من قبل شركة Monsanto والمسمّى “Roundup Ready” لمقاومته مزيل الأعشاب الفتّاك “Roundup” الّذي تنتجه نفس الشّركة بما يحقّق لها سيطرة كلّيّة على السّوق؟ هل قرأت التّقارير العلميّة عن التّداعيات الكارثيّة لهذه السّياسة، هل شاهدت فيلم “الأرجنتين : صويا الجوع” ؟ هل تعلم أنّ هذه السّياسة الفلاحيّة زادت من تبعيّة الفلاحة الأرجنتينيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة وخاصّة لشركة Monsanto لأنّ الأعشاب الطّفيليّة طوّرت مقاومة طبيعيّة لل” Roundup ” ممّا جعل الفلّاحين يلجؤون إلى استعمال كمّيّات أكبر فأكبر من مزيل الأعشاب الأمريكيّ؟ هل تعلمون حجم الكارسة الصّحّيّة والبيئيّة الّتي ترتّبت عن ذلك؟ هل تعلم أنّ نسبة الإصابات بمرض السّرطان في القرى المجاورة لحقول الصّويا عرفت ازديادا بنسبة 250% جلّهم من أبناء الفقراء؟
أدعو رئيس الحكومة المكلّف وكاتب الوثيقة إلى قراءة المقال الّذي يبيّن بوضوح لا لبس فيه النّتائج الكارثيّة على المستويين الاقتصاديّ والاجتماعيّ لهذه التّجربة في الأرجنتين بداية من تضخّم الدّين الخارجيّ (+300%) إلى تفاقم البطالة و تهجير صغار الفلّاحين الّذين دُفعوا إلى بيع أراضيهم والنّزوح إلى الأحياء القصديريّة المتاخمة للمدن الكبرى ممّا فاقم نسبة الفقر الّتي تجاوزت 50%. هذا دون الحديث عن الكوارث البيئيّة والصّحّيّة الّتي يوثّقها الشّريط الوثائقيّ.
وهنا على التّونسيّين أن يتساءلوا ويسألوا وزير الحكومة المكلّف والّذي أشار على الولايات المتّحدة الأمريكيّة في هذه الوثيقة: ما عساك ستفعل كرئيس حكومة للتّصدّي لهذا الزّحف المتزايد للصّويا الأمريكيّة الموجّهة لصناعة الأعلاف على حساب الإنتاج الوطنيّ؟ ألا نخشى توجّها أيضا إلى تغيير بنية السّوق التّونسيّة وعادات الاستهلاك عبر تشجيع الاستهلاك المعمّم لصّويا (فولا ودقيقا وأعلافا) (Sojisation) بما يخدم المصالح الأمريكيّة ويضرّ بالمصالح العليا للوطن؟ ألا نعتبر من الدّرس الأرجنتينيّ؟ أليس هناك خطر على مستقبل الزّراعة التّونسيّة إن ذهبنا بعيدا في فتح باب الهيمنة الأمريكيّة؟ الكلّ يعلم أنّ إنتاج الصّويا حكر على الدّول الّتي تتوفّر على مساحات زراعيّة شاسعة كالأرجنتين والولايات المتّحدة الأمريكيّة والبرازيل الّتي تتصدّر هذا السّوق؟ هل اطّلع رئيس الحكومة المكلّف على التّكلفة الاقتصاديّة والصّحّيّة والبيئيّة لسياسة تعميم زراعة الصّويا في الأرجنتين كما أسلفنا التّفصيل وكما تبيّنه العديد من الدّراسات والأعمال التّوثيقيّة؟
ختاما، وبعيدا عن التّشكيك والأحكام المسبقة، حاولت في هذا المقال استنطاق الأرقام والحقائق العلميّة والواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ الّذي سيناط بعهدة السّيّد يوسف الشّاهد تغييره والتّأثير فيه بما يخدم مصالح التّونسيّين. ولكنّ المدقّق في الوثائق الثّلاث (المراسلة المسرّبة عبر ويكيليكس مع الوثيقتين أ وب)، ومدى ترابطها وتسلسلها المنطقيّ واتّساقها مع سياسة دعائيّة مفضوحة للولايات المتّحدة الأمريكيّة الّتي ترنو السّيطرة على أسواق الزّراعة والتّغذية في العالم، كلّ هذه العناصر مجتمعة تجعلنا نتساءل، ما هو الخيط الفاصل بين وثائق ”عاديّة“ لموظّف تونسيّ في السّفارة الأمريكيّة ومراسلات ”استخباراتيّة“؟ متى يمكن الحديث عن تخابر خدمة لمصالح أجنبيّة؟ ألا يشمل الأمن القوميّ التّونسيّ قضايا الأمن الغذائيّ والأمن الصّحّيّ والسّيادة الاقتصاديّة؟ ألا يعتبر كلّ عمل معاد لهذه المصالح العليا إجراما في حقّ الوطن؟ أسئلة من الخطورة بمكان وعلى ”النّخبة التّونسيّة“ أن تطرحها على نفسها قبل أن تذهب إلى أيّ مشاورات أو مفاوضات من أجل تضمين المواقع وتقسيم المغانم. علينا أن ننتبه إلى الخطر المحدق بتونس قبل فوات الأوان وقبل أن نذهب في سياسات لا رجعة منها إلّا بأبهض التّكاليف الإنسانيّة والاقتصاديّة والصّحّيّة والاجتماعيّة.
ااكبر فيك دكتور ايوب مسعودي المجهود المبذول تقديم قراءة بحثية معمقة في ابعاد اختيارات الشاهد في هذه المرحلة بالنظر الى السيرة الذاتية و العلمية للرجل و بين الواقع الاقتصادي و الفلاحي اساسا للبلاد التونسية و تبعيتها للاقتصاديات العالمية لاسيما امريكا في عدة مجلات فلاحية الزيوت النباتية و البذور …و انعكاسات ذلك على الاقتصاد الوطني و فلاحيه و مورده.. لقد اعتمدت استاذ ايوب مراجع منتقاة بعناية من مناهل و مصادر مختلفة موثوق لها بالمصداقية و العلمية ..
لكن في رايي اعتقد ان الاتيان بالشاهد بديلا سياسيا في هذه المرحلة مع توافق بين معظم التشكيلات الحزبية على الساحة السياسية التونسية لا ينبغي حشره في الزاوية الاقتصادية الفلاحية ، اذ القاعدة الاستهلاكية التونسية بحسب عدد السكان لا تمثل رقما مهما في اقتصاديات الدول التي ذكرتم ،و حجم المبادلات التجارية في المجال الفلاحي ضعيف .. ولكن اعتقد ان المسالة لا بد ان ينظر اليها في البعد السياسي العالمي وهو المهم .. امتداد ما يسمى بالربيع العربي في المنطقة و محاولة وضع موطىء قدم سياسي لحاكم رهين القرار الامريكي او هو حاكم امريكي ياتمر مباشرة من البيت الابيض في تنفيذ المخططات الاستراتيجية السرية لا سيما توسيع مجال “الربيع”الى باقي المنطقة .. و ما عرفته البلاد التونسية في 2016 من تحسن في المجال الامني خاصة لا يسر الامريكان الذين ياملون و يخططون لتدحرج كرة اللهب الربيعي في الميدان الجزايري خاصة و ان مؤشرات ميدانية تشي بدخول الجزاير مرحلة سياسية جديدة مرحلة ما بعد بو تفليقة . .. ….رمزي بدر
شكرا أستاذ رمزي بدر على هذا التفاعل القيم،
ما أشرتم إليه من أن المشهد السياسي المُشكٓٓل شُكِّل برعاية أمريكية غربية أمر لا جدال فيه. لم يكن المراد من هذا المقال الذهاب إلى هذا البعد “المخفي ” وإنما حاولت، في مقال علمي تحليلي تفنيد أسطورة “الكفاءة” الوطنية التي يسوقها جزء من البرجوازية والأرستقراطية السياسية ذات انتماءات طبيبة محددة معاضدة لسلطة “التوافق”، وما بينته هو أن السيرة الذاتية والشهائد العلمية، عندما تفتقد إلى أدنى مبادئ الوطنية والولاء للوطن وحتى للإنسانية، تصبح في أحسن الأحوال غير ذات جدوى وفي أسوأ الأحوال خطرا كبيرا كما هو الحال في هذا المقال.
احتراماتي
د. أيوب المسعودي
بعد قرأة البعض من المقالات التي تفضلتم بها على هذا الموقع .. و بعد متابعة التجوابات الإيجابية و التي تضع بعد الأسئلة أو التحفظات .. السؤال يبقى مطروح مدى إستعداد النخبة (أو ما يسمى الكفآت ) (مجموعة التكنوقراط ) ، الذين ، اللآتي تطول قائمتهم ، عن التخلي لا أقول عن ولآتهم القديمة المهنية (الدائرة الصغرى و الكبرى من العلاقات التي صنعوها (أو صنعت لهم! ) نتيجة عملهم و قدرتهم التي أثبتوها في فبركة دائرة ثقة (فهذا كمهنيين هو شيء يثمن لهم) (خاصة و أن عهد الديكتاتورية فرض ذلك على الكثير ؟ 60 سنة ، كأنه خلود ، و هذا دخل في عقول الكثير أنه ليس هناك مخرج غير هكذا واقع سياسي ممكن).. مسارهم المهني قد يكون بريء أو بمعنى أن يكون الدكتاتور شجعهم لمصالح معينة أو لأنهم كالكثير فهموا في فترة معينة أن ليس لهم خيار عن الاندماج في عالم العولمة المفتوح .. و لم يفكروا في أنه يمكن أن يكون لهم دور وطني في يوم من الأيام… لما جأت الثورة رأينا قدرة الأقوياء على احتواء عالم التكنوقراط ليكون خدم لهم في خدمة المصالح السياسية لدولهم …. لا نلوم في الحقيقة ، لكن ذلك هو الفرق بين الدول العظمى التي لها تفكير إمبرطوري، و قدرة على صنع ما يسمى
(les reserves )
و الدول التابعة التي لا تزال في أزمة تفكير استرتيجي و لا تملك آلياته … من كان يسمع بأمال كربول ، بمهدي جمعة ، بياسين إبراهيم ، … ؟ تخيل ؛ هؤلاء (البعض منهم ) صنعوا احزاب سياسية ! حقيقة فارغة من كل ايدلوجيا و أسس فكرية ، سوى ثقافة الاقتصاد المعولم و آليات اليبيرالية الروحية التي تخدم الكبار … ثم في لحظة حدث ، صار لهم قدرة ليس على التواصل فقط لكن قدرة على تجميع العديد الكوادر الكبرى و المتوسطة في القطاع الخاص كذلك من القطاع العام و من المهن الحرة ، مهندسين …، حزب أفاق تونس تحصل على ثمانية نواب ! و هذا مجرد ميثال .
اليوم بلد كتونس ، غارق أكثر من قبل في فبركة ضعفه (عبر كل الخيارات السياسية ، الاقتصادية ، المالية ، الانتاج الفلاحي، …)، كيف له أن يضع إستراتيجية خروج من مصنع فبركة الضعف و التبعية المقيتة ؟
مثلا عبر سمير بالطيب وزير الفلاحة ، لا يمكن أن ننتظر بداية خروج من هكذا منطق تعامل، لأنه هو نفسه منخرط في هكذا توجه ليبيرالي ، و ما إختياره لهكذا منصب ، سوى أن له قدرة على التفاعل الإيجابي مع ما ترسمه السياسة الأمريكية في قطاع الفلاحة مثلا (و الذي يمكن أن يكون الرجل الأمين )، رغم ما يبعث به على أنه من المعارضة …
انخرط 100% فيما تقوله في جوابك للاستاذ رمزي … لكن بداية الطريق تبقى مرهونة أساسا بقدرة التوانسة على الوصول لتوافقات كبرى، لأن الناخب لا يلم بأجندات و خفايا اجندات الكبار ، لذلك لا يمكن أن يبعث لسدة الحكم من يملك الكفأة و الوطنية في آن واحد .. هذه ليست معايير إنتخابية لدى 90% من مجتمع الناخبين و الناخبات .. الحملات الانتخابية لا تدور رحاها حول القضايا الساسية إجتماعيا ، إقتصادية ، ثقافيا، و إنما حول مواضيع تمس بسرعة ، الهوى ، النفس ، السطحي ، القشور ، التي يجعل منها الاعلام هي النوى ، هي الأصل ( تغول ، خطر الارهاب ، النقاب ، الحجاب ، التخويف من أن نمط الحياة سيتغير ، الحريات الجنسية ، أنصار الشريعة ، داعش ، إرجاع هيبة الدولة ، الوعود الخلاقة من إستثمار ، جلب أموال ، تغلغل حزب من الأحزاب في الادارة ، إرجع الديبلوماسية لعهدها المجيد ، ….)… كل هذه النقاط هي في الحقيقة تملك تأثير كبير في الحياة اليومية للفرد، و الكثير منها هي بالاهمية بمكان … لكن لا تجد من يتكلم عن قضايا ، من سبيل ، ما ذا يطرح الحزب من آليات للتقليص من قدرات المحتكرين في الفتك بالسوق ؟ ما هي أفكاره في السياسة الفلاحية ، الصيد البحري ؟ و لماذا هكذا ؟ ما هي إمكانيات النجاح ، حتى لا يكون الخطاب من قبيل البق البق فقط … هناك عجز أو خوف أو عدم شعور بأهمية هكذا مواضيع ترسم اليوم الحيني و المصير … كلهم يقول لا بد من سياسة جبائية جديدة ، لكن كلنا نعرف أن السياسة الجبائية هي أمر سيادي ، و في غياب سيادة على القرار الوطني لا يمكن المس بمصالح طبقة معينة لمجرد أنها محمية بقوى قد تمنع عنا حتى حق اشتراء الخرطوش لبنادق الجيش … الكلام يطول ، لكن أعتقد دون بروز بذرات إيمان بضرورة التوافق الواسع، ضرورة قبول ارتدادات التضحية التي هي مطلوبة من الجميع ، لكن قد تهدد الدولة في أمنها الداخلي، لا يمكن الخروج من مصنع صناعة الضعف …
هل يمكن وزن تداعيات القطع بطريقة أو أخرى مع ما أمضاه بن علي منذ 1994 في ربط المصير الغذائي مع العم سام (الألم سام )؟
الثورة كانت فرصة ، لأن هناك حظور شعبي في الشارع .. لكن مع الأسف الأحزاب لم تكن في منطق خروج بتونس لحالة أحسن مما كانت عليه .. و إستقر أمرهم و همهم على
(animations politiques )
، لتحقيق تموقعات أنانية … هذا لا يعني أن ما حدث في الفترة ما بين هروب بن علي و إنتخابات 2014 ، كله سلبي ، لا أبدا… لكن فبركة آليات التبعية إستمر ، صنع آليات الضعف إستمر ، و خاصة منذ 2014 ، أصبحت عقيدة السياسي الحاكم .. لا يرى مصير تونس سوى محمية عالمية …
كلما نتكلم على ضرورة صنع آليات رقابة ديمقراطية و إجتماعية للعمل العمومي (إدارة ، شركات كبرى ) لا نرى تجاوب .. الذي نراه ، أن السياسي يأتي بشخصيات لها وزن (شوقي طبيب ) ثم نحشر به في حكة طماطم دون قدرات قانونية أو مالية للفعل (لمحاربة الفساد )، و الأمثلة كثيرة … صناعة
(des contre pouvoirs )
أمر موجود في الدستور لكن هناك تحييد للدستور ، و قطع مع المسار الدستوري …
اوردت هذا الكلام بطريقة
(en vrac )
و دون ترتيب .. لكن لا أدعي أن تونس قادرة على صنع ثورة حينية، أو أن لها القدرة على التحول السريع من حال لي حال أكثر إيجابية .. لا أبدا ، تونس لا تستطيع أن تنعزل من مكونات محيطها الكوني، لكن هناك أقل ما يمكن ، الأقل القليل الذي يمكن تحقيقه ، و المحيط الكوني لا يمكن أن يرفضه ، خاصة و الشعب سيكون دافع إيجابي لتوجهات إصلاحية راقية (ولو قليل ) …
أبقى متمسك بضرورة التوصل لتوافقات، ولو عبر النضال السلمي في الشارع حتى ينحني الحاكم و “المسؤول الكبير أيضا” ولو قليل في إتجاه المطالب في إتجاه الوعي بضرورة الاصلاح.
تحية لكل فاعل إيجابي من أجل الوطن .